ملحمة جرير والفرزدق الأخرى!
(بين النثر الأدبي في صدر الإسلام والشريف الرضي-6)
أنت تَجِد، بذوق عصركَ البلاغي، أنَّك تستسيغ بلاغة «القرآن الكريم» بإعجابٍ شديدٍ وطَرَب. تلك البلاغة التي لا تتعمَّد التصنُّع اللَّفظيَّ- باستثناء الفواصل، وما كان في قصار السُّوَر- بل يقودها المعنى فتدور معه حيث دار. كما أنها لا تُغرِق في التفلسف، والتمنطق، والإلغاز، والجعجعة، بل تتأتَّى إلى المعاني بأيسر الطرق، وتؤدِّيها في أدقِّ أداء، وتسكبها في أكثر الكَلِم عُمقًا وظِلالًا دلاليَّة. فيما تنبو أذواقنا المعاصرة عن بعض تلك الخُطَب في «نَهْج البلاغة»، التي لا تخلو- إضافة إلى ما سبق- من ظواهر التفيهق، أو التقعُّر، والمضامين الغريبة، ما تَجَرَّدَ المرء من الهوَى، وشفاه الله من الدوغمائيَّة.
كذا استرسل (ذو القروح) في موازنته بين البلاغة القرآنيَّة وبلاغة «نَهْج البلاغة»، التي فضَّلها أحد المعمَّمين، في معمعة طعنه في «القرآن». قلتُ:
ـ أبهذا تقاس الجَودة البلاغيَّة؟
ـ أجل. ولا مزيد هنا في وصف ذلك التفوُّق البياني والجمالي القرآني على ما أفاض في تحليله علماء البلاغة، وفي مقدَّمتهم (عبدالقاهر الجرجاني، ـ471هـ= 1078م)، في كتابَيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة». ولم يأت الإعجاب بأسلوب «القرآن» عن عاطفة التديُّن، ولا عن مداومة الإِلف، بل هو واقعٌ يُقِرُّ به كلُّ متجرِّدٍ مُنصِفٍ عارفٍ بالأساليب، وإنْ كان من غير المسلمين.
ـ حتى لقد قال المستشرق (ليون): «حَسْبُ القرآن جلالةً ومجدًا أنَّ الأربعة عشر قرنًا التي مرَّت عليه لم تستطع أن تخفِّف، ولو بعض الشيء، من أسلوبه الذي لا يزال غضًّا، كأنَّ عهده بالوجود أمس.»
ـ أنَّى لك هذا؟
ـ هذا من عند (عبد المجيد الزنداني)، في كتابه «توحيد الخالق»، (بغداد: مكتبة المثنى، 1990)، في كلامه تحت عنوان «علاماتٌ إلاهيةٌ في القرآن: 1- الجِدَّة الدائمة». ولم يوثِّقه!
ـ وكثيرًا ما كان يستشهد، رحمه الله، بالمستشرقين والمستغربين! لعلَّه يشير هنا إلى المستشرق الإيطالي (ليون كايتاني Leone Caetani، ـ1935)، في كتابه «تاريخ الإسلام». وما أسعدنا، نحن العَرَب والمسلمين، حين يشهد لنا الغربيُّون! يوشِك أحدنا أن يطير من جِلده جَذَلًا!
ـ الحقُّ ما شهدت به الأعداء!
ـ ليس دائمًا! بل هذا أشبه بعُقدة النقص! ومهما يكن، فلسنا بحاجةٍ إلى تلك الشهادة. وما أظن مستشرقًا يتذوَّق بلاغة «القرآن»، على كلِّ حال؛ فالأمر متعلِّق باللُّغة قبل كلِّ شيء، إلَّا إنْ كان يُحسِن العَرَبيَّة أيَّما إحسان. وإنَّما قصارَى أمره أن يصف ما يذكره المسلمون عن كتابهم المقدَّس.
ـ لنعُد إلى حكاية «النَّهْج».
ـ رجعنا إلى حكاية «النَّهْج». أمَّا أنا، فأزعم أن بلاغة (عَليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه) لا بُدَّ كانت أعظم من معظم ذلك النَّهْج الرَّضِيِّ البلاغي، المصنوع في القرن الرابع الهجري، وأشجَى منه، وإنْ نُسِب إلى عَليٍّ.
ـ كما نُسِب إليه كذلك من النظم الشِّعري الضعيف والمتهافت. الزُّبدة؟
ـ ما أحبَّك للزُّبدة! في أمثال هذا الموضوع لا زُبْدة بلا صبرٍ على تحليلٍ نَصِّيٍّ يطول. إلَّا إذا أردتَ زُبدة على طريقة «حتى لقد قال المستشرق (ليون): ...»! لكن، باختصار، ما كان «نَهْج البلاغة»، كما يبدو لنا، إلَّا تمارين بلاغيَّة، كأنَّما أُعِدَّت لناشئة الصِّبية، وجُعِلت مَهْيَعًا تعليميًّا لشُداة الإنشاء، ثمَّ نُسِبت إلى الإمام تأسِّيًا؛ ولكي يزداد الناس بها شغفًا، وعلى محاكاتها إقبالًا، عاكسةً بمرآتها ثقافة عصرها، وطرائق المتنطِّعين من البلاغيِّين في التعبير عن أغراضهم، والإفصاح عن معانيهم، في قَرْنِ الكُتَّاب والقُصَّاص والمذكِّرين، وهو كذلك قَرْن التشيُّع الأكبر(1)، أعني القرن الرابع الهجري، الذي كُتِب فيه «النَّهْج». ربما كانت له بذار قوليَّة تداولها الناس، وزادوا فيها ونقصوا منها، وزيَّفوا، وزيَّنوا، وزخرفوا، حتى صارت مأثورًا شعبيًّا محفوظًا، فرغَ له (الشريف)، بأخرة، بإلحاح من أصدقائه كما قال، فرتَّبه بين دفَّتَي كتاب، وأضاف إليه من عند نفسه ما أضاف؛ فرِضَى الأصدقاء غاية لا تُدرَك، إلَّا بشِق البلاغة، ولو كانوا أصدقاء الرَّضيِّ!
ـ فأنَّى يَثبت، والحالة تلك؟
ـ ما كان أولئك القدماء يجدون حَرَجًا من مثل هذا الضَّرب من التأليف- وليس هذا الكتاب بِدعًا من بعض كُتُب التراث العَرَبي- مع اعتناق القصد الحسَن والغرض الشَّريف. كما لا ينبغي لنا أن نأخذهم بمعايير عصرنا من التحقيق والتوثيق، ولاسيما حينما يغلب على ما يؤلِّفون أو يصنِّفون الحافزُ الدِّيني، والدافعُ المذهبي، والباعثُ السياسي. فعندئذٍ: ألِّفْ ولا حَرَج! ولأقلِّ من هذه العوامل، فِعلًا في النفوس، نَحَل أناسٌ في تلك الأزمان القصائد المطوَّلات إلى غير أهلها، مُؤْثِرين ذلك على نسبتها إلى أنفسهم، وهم قائلوها! ولو أنها وصلتنا وثائق مكتوبة عن (عَليٍّ) بتلك الخُطَب والنصوص، لصحَّ لنا أن نبني عليها ما نبنيه، أو لو أنها وردتنا بالرواية المتواترة، وبالأسانيد الصِّحاح، المُعْتَدِّ بها، وأُعمِل فيها نقد المتون والأسانيد، على غِرار ما جرى في شأن الحديث النبوي، لاستبان صحيحُها من غير الصحيح. ذلك أن حِفظ النثر، فضلًا عن الخُطَب، ليس بالأمر الهيِّن، ولا بالمعقولة روايته كالشِّعر، ولا حتى كالحديث النبوي، ما لم يكن موثَّقًا بالكتابة، أو كان متعبَّدًا به، يُحفَظ في الصدور، كالقُرآن. وما كذلك تراث الخطابة، لا ما نُسب منه إلى عَليٍّ ولا ما نُسب إلى غير عَليٍّ.
ـ ثمَّ كم بين (عَليٍّ) و(الشَّريف الرَّضِي) من السنين؟
ـ أكثر من ثلاث مئة سنة! وما نعلم أنه حُفِظ في التاريخ البَشري نثرٌ مرويٌّ هكذا، غير مدوَّن، ليَعْبُر ذاكرةَ القرون، لا كِتابًا منزلًا ولا ما دون ذلك. فكيف تأتَّى ذلك لـ«نَهْج البلاغة»؟! وإلَّا فلنا أن نسأل بالقياس: أين «نَهْج بلاغة محمَّد بن عبدالله»؟! وكان أَوْلَى بالحِفظ، وأيسر، وأقرب إلى عصر الاهتمام بمأثورات الأقوال عن الرسول، ممَّا بين عصر (عَليٍّ) في النصف الأوَّل من القرن الأوَّل الهجري وعصر (الشَّريف الرَّضِي) في نهاية القرن الرابع وبداية الخامس.
ـ أجل، أين خُطَب رسول الله، ما دام حِفظ الخُطَب كان بتلك السُّهولة إذ ذاك؟
ـ مع أنَّ خُطَب الرسول كانت أهمَّ وأولى بالحِفظ. فعلامَ لم يحفظوها؟! ولن نسأل عن غير رسول الله. فما بلغَنا منها إلَّا جُذاذات، وشواهد مقتضبة جِدًّا، أشهرها ما وصل من روايات من بعض خُطبته في حجَّة الوداع. أمَّا ما دخلَ منها في الحديث النبوي، فإنَّما هو جُمَل، أو فقرات، رُوِيت لما تحمله من أَحكام، وبعضها اختلفتْ به الرِّوايات، أو نُقِل معناه دون لفظه.
ـ يظلُّ السؤال: أين خُطَب الرسول، التي لا بدَّ أنها كانت كثيرة جِدًّا؟ أين خُطَبه أيَّام الجُمَع، والأعياد، على الأقل؟ وكيف نُصدِّق بحِفظ تراث (عَليٍّ) الخطابي، هكذا دون غيره، على حين لم يُحفَظ حتى تراث (محمَّد) الخطابي؟!
ـ تجد نُتَفًا من خُطَب الرسول، ووصاياه، وحِكَمه، في بعض كتب التاريخ وغيرها، ككتاب «نثر الدُّر»، (للوزير الكاتب أبي سعد منصور بن الحسين الآبي، ـ421هـ)(2)، في (الباب الثاني، من الجزء الأوَّل)، في نحو 100 صفحة فقط، ومعظمها ممَّا وردَ في الأحاديث أصلًا. لكن ذلك لا يُعادل شيئًا مقايسةً مع ما سُجِّل عن حكماء أو خطباء، حتى ممَّن عاشوا قبل التدوين، من أهل الجاهليَّة.
ـ ثمَّ أين خُطَب الخُلفاء الراشدين؟
ـ كلُّ ذلك، أو جلُّه، لم يُدوَّن، وما كان ينبغي له أن يُدوَّن أو يُستظهَر. فصار نسيًا منسيًّا، لم تصلنا منه إلَّا الشواهد الضئيلة.
ـ بل قُل: أين كانت نصوص (عَليٍّ) نفسه قبل القرن الرابع؟ وأين أخبارها؟ وأصداؤها؟ أو الإشارات إليها من قِبَل معاصريه؟ أو من قِبَل لاحقيه، خلال القرن الأوَّل والثاني، مِن أرباب النثر والشِّعر والتاريخ؟
ـ كأني بك تسألني: أم أنَّ أهالي تلك القرون الأُولى ما كانوا يسمعون؟ لِمَ لَمْ تستبن أنباؤها، ولم تُسمَع أصداؤها، إلَّا بعد حين من الدهر، لم تكن شيئًا مذكورًا، إلَّا القليل منها المضطرب؟ أين كان صيتها خلال تاريخها من المعارك السياسيَّة بينه وبين مناوئيه، حتى جاء بها القرن الرابع، الذي يوصف بأنه أصبح عصر التشيُّع بامتياز؟ أم أنه لم يُسمَع منها إلَّا النَّزْر اليسير، ومن شيعته، وفي إبَّانها، فتوارثوها، مخبَّأةً، حتى أُفرج عنها فجاءةً في كتابٍ من كُتب القرن الرابع؟ بل أين مأثوراته القوليَّة منذ بزوغ الإسلام؟ وقد كان تِربَ ذلك البزوغ المزلزل. أم أنه إنَّما نبغَ هكذا بغتةً، وتفتَّق بيانه نبوغًا، مُذ (موقعة الجَمل)، فشادَ كلَّ تلك الأقوال البارعة الكثيرة في بِضع سنين، بما في ذلك وصف خَلق (الطاووس)، و(الخفَّاش) و(النملة)؟!
ـ وما كانت تلك سنوات أقوالٍ وفلسفات، ولا بفارغة لوصف الطواويس أو غير الطواويس، بل كانت سنوات أفعال، وصراع محتدم مع طواويس بني أُميَّة!
ـ ولا كانت ظروفها لتُبيح لإنسانٍ، مهما سمقت قدراته، ترفَ التحذلق بأمثال تلك المنمنمات الخطابيَّة، بل كانت بالأحرى دوَّامات متتالية من الأحداث الطاحنة والأزمات المتعاقبة المريرة! بَيْدَ أنَّ تلك الملاحم كانت جديرةً بأدبٍ مصاحبٍ، وملاحم قوليَّة مواكبة، وليست ببِدعٍ في ذلك من الملاحم الأدبيَّة التي تُصنَع عادة، وتُنسَب إلى أبطال الملاحم التاريخيَّة، وإنْ بعد حين. ولئن كان لـ(عَليٍّ) ذلك الباع الفارع في كلِّ فَنٍّ، وعِلْم، ومنطق، بالقول والفعل، فقد كان حَريًّا أنْ يتناقل معاصروه قبل غيرهم ذلك عنه، أو يتناقلوا بعضه؛ أي في عصر الرسول، وعصر (أبي بكر)، وعصر (عُمَر)، وعصر (عُثمان). أم أنها عصور كانت تُصِمُّ آذانها وعقولها عن تلك النصوص التي انبثق نَهْجها بعد الصراع الأُموي العَلَوي، ثمَّ الصراع العبَّاسي الأُموي؟!
ـ أسئلة مُشرَعةٌ مشروعةٌ.. لِمَ لا تُواجَه؟
ـ ألا ما أكثر الأسئلة التي لا تواجَه! لقد جاءنا ذلك «النَّهْج» هكذا، طفرةً جِينيَّةً، في كتابٍ مجموع، أُلِّف بعد ما يربو على (ثلاث مئة سنة)، عن شاعرٍ ناثرٍ مترسِّل، اسمه (الشريف الرَّضيُّ/ المُرتضَى)، كان مغرمًا بالبلاغة والترسُّل، شغوفًا بجَدِّه، حريصًا على أن يُخلِّد اسمه بكتابٍ يُنسَب إليه، ممَّا «وَقَعَ عليه»، حسبما عبَّر عن أصل تلك النصوص، وأنها من «الواقع إليه، الحاصل في ربقته»، وأنه- كما ذكر في مقدِّمته- إنَّما كان ابتدأ بتأليف كتاب في «خصائص الأئمة»، وكان قد بوَّب ما خرجَ من ذلك أبوابًا، وفصَّله فصولًا، فجاء في آخرها فصلٌ يتضمَّن محاسن ما نُقل عن (عَليٍّ) من الكلام القصير، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصلُ، فسألوه أن يتفضَّل عليهم بتأليف كتابٍ يحتوي المطوَّلات، فأجابهم إلى ذلك، بكلِّ «رحابة نَثْر». ذاكرًا أن من دوافع تأليفه أيضًا ما وَقَرَ في وجدانه من حُبِّ أن يسوغ له التمثُّل في الافتخار ببيت (الفرزدق):
أولئك أبائي، فجئني بمِثلهمْ ::: إذا جمعَتْنا، يا جريرُ، المجامعُ!(3)
وبناءً عليه، امتشقَ قلمه، ليكون فرزدقًا آخَر. فباتت ملحمة (جرير والفرزدق) الشِّعريَّة العشائريَّة ملحمةً أخرى...، ما زال المسلمون يتهجَّون حروفها وانحرافاتها إلى اليوم!
[للحديث بقية].
() يُنظَر: متز، آدم، (د.ت)، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، نقله إلى العَرَبيَّة: محمَّد عبدالهادي أبو ريده، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 1: 119- 146.
(2) تحقيق: محمَّد علي قرنة، وعلي محمَّد البجاوي، (القاهرة: الهيئة المِصْريَّة العامَّة للكتاب، د.ت)، 1: 151- 268.
(3) يُنظَر: (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 79.