الأربعاء ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
بقلم ليلى بن عائشة

مكـانة السيد حـافظ في التجربة المسرحية العربيـة

لفترة طويلة من الزمن كان المسرح العربي عموما والمسرح المصري بشكل خاص « حبيس المستوى التقليدي من حيث المسرحيات التقليدية حتى أوائل السبعينات إلى أن ظهرت بوادر طيبة تبشر بمحاولات جديدة للنهوض بالمسرح المصري بعد طول رقاد، فظهر السيد حافظ وأصدر أولى مسرحياته.. »(1)، فقد كانت هناك حقيقة -لا يمكن تجاهلها-في ا لواقع المسرحي وهي افتقار الساحة الأدبية المسرحية في تلك الفترة إلى كتاب يستطيعون أن يطعّموا الدراما المسرحية بإنتاجات مناسبة تهيء للمسرح العربي جوا من الإستقلالية وتمنحه مزيدا من الملامح القومية أو الملامح العالمية.

فمع صدور مسرحيات "السيد حافظ" كانت هنالك نقلة نوعية جد مهمة لها أثرها البارز في المسرح العربي والتي تعد بحق «…من المعالم البارزة في أدبنا الحديث ذلك أنها تقف وحدها في قمة الريادة في ميدان المسرح التجريبي في الساحة العربية.والسيد حافظ ليس مجرد كاتب مسرحي يحكي لنا حدثا في قالب درامي مسرحي، بل يعتبر بإنتاجه الفكري الناضج خالقا مبدعا له عالمه الخاص وفلسفته وهو يغوص في أعماق النفس الإنسانية محاولا الكشف والوصول إلى أرض المثالية التي فقدناها.. محاولا الكشف عن كل ما يقابله إنسان ذلك العصر من صـراعات مادية ونفسية وحضارية»(2). وتتفق الدراسات النقدية الدرامية )العربية( على تميز الإبداع الدرامي لدى "السيد حافظ" وتفرده عن غيره من البناءات الدرامية المعاصرة. ويبدو ذلك جليا في أعماله التي تكشف لنا عن « مؤلّف مقتدر، يمتلك أدق الأدوات المسرحية وأكثرها فاعلية في عملية الخلق المسرحي..مؤكد أن .. هذه الأعمال.. ستفتح .. الآفاق المغلقة ،لأنها كتابات جادة وجريئة،كتابات لا تقف عند- حدود- الشائع المعروف ولكنها تتعداه لتصل إلى مشارف كتابة مستقبلية جديدة، وهي تتوسل إلى ذلك من خلال التجريب الواعي والرصين »(3).

ويعد مسرح"السيد حافظ"مسرحا ثريا على المستوى الفني، الفكري، الفلسفي،الاجتماعي،والسياسي، وهو يمثل بحق المسرح الذي يحتاجه إنسان هذا العصر، ذلك أنه «…مسرح مليء بلغة التعبير…مسرح يتحدث بلسان الحياة ضد الموت، وقد قام ليتضمن في ثناياه القيم الإجتماعية والثورية ليحملها في ثوب جديد »(4).

إن ما يقدمه "السيد حافظ" من خلال مسرحه يقصد به الكثير،من بين ما يقصده هو أن يستفزنا وأن يحرك فينا ذلك الشعور بالأسف على ما هو قائم في الواقع المعيش، ومحاولة تغييره ومن هنا فهو يبحث عن الإستجابة التي تستدعيها مشاهدة المسرح التجريبي،والتي تتعدى مجرد التعاطف مع الشخصية الممثلة،وتتعدى مجرد البكاء أو الضحك،تبعا للموقف المأساوي أو الكوميدي«…إلى إثارة قضية تهم الإنسان ويعاني منها»(5) ويصبح أثناء مشاهدته للعمل التجريبي المسرحي لا يفرق بين ما يرى وما يعانيه. ومن هنا « يرقى المشاهد من رؤية المسرح الهزلي…إلى رؤية المسرح الجاد بالرغم مما قد يكون من تجريب في الشكل أو المضمون »(6)..

وقد أثارت مسرحيات هذا الكاتب الكثير من المناقشات والمجادلات، لأنه اقتحم من خلالها عوالم كثيرة ومس في كتاباته المفاهيم المستقرة في أذهاننا سواء أكانت فنية أم اجتماعية أو فكرية أو سياسية بصورة قوية مباشرة . ومن هنا كان لابد أن يثير مسرحه عاصفة من الآراء المؤيدة والآراء المعارضة على السواء ، بيد أن جهد هذا الكاتب في حقيقة الأمر هو جهد فيه كثيرا من العمق والأصالة والحضارة، وهذا ما دعا "مازن الماحي" أن يقول عن هذا الكاتب إنه «… يؤكد بإنتاجه الفكري المسرحي يوما بعد يوم أنه من أوائل كتاب المسرح العربي بل يعتبر بحق رائد اتجاه جديد في الفكر المسرحي المعاصر»(7)، بل إنه من المجددين في هذا المسرح بما يحمله من حساسية فنية، وتفكير أو فكر عميق ،وفلسفة خاصة … وإيديولوجية إسلامية برزت بشكل كبير في كتاباته المسرحية كمسرحية) ظهور واختفاء أبو ذر الغفاري(، و)حكاية الفلاح عبد المطيع( و)مدينة الزعفران( ومسرحية )علمونا أن نموت وتعلمنا أن نحيا( .« وتـدور كتابات)هذا المبدع( دائما حول الإنسان المعاصر..الإنسان المطحون بين الأمل والإكتراث لذلك فهو يهتم اهتماما كليا بمشكلة الإنسان المعاصر والظغوط الإجتماعية والسياسية والإقتصادية الملقاة عليه.ويحاول أن يقتحم هذه العوالم في داخل الإنسان»(8) .ويبرز هذا من خلال مسرحياته التي ما فتئ يبذل جهدا لا نظير له في البحث والتنقيب للكشف عن معاناته أكثر فأكثر .

إن المسرح التجريبي بالنسبة "للسيد حافظ" ضرورة ملحة ، وهو الملاذ الوحيد الذي يمنح للإنسان فرصة المواجهة مع الذات الواقع ومع الذات المجتمع ومع الذات الإنسان «…المسرح التجريبي ضرورة لأنه يعني هدما وبناءا، تراثا ومستقبلا ورؤى وفكرا وفنا…المسرح التجريبي ]كما يراه السيد حـافظ هو أيضا [ضرورة لإنقاذ المتفرج العربي المريض فكريا و فنيا ونفسيا»(9) .لقد وجد "السيد حافظ" في المسرح التجريبي ما لم يجده في أي لون أدبي آخر، ولم يكتف بالمحاولات التي سبقته في مجال الدراما بل كان يطمح إلى ما هو أفضل وأحسن، إلى مسرح جريء وجاد، لذا فقد كان معتمدا على واقعه «..ومغامرا جريئا يعطي كل نفسه ويبذل كل طاقاته باحثا في هذا الواقع المتخم بالتكرار عن حياة فريدة وتنفسات جديدة لكن الواقع يرفض المغامرين في زمانهم»(10) ،إلا أن هذا الرفض لم يحل دون مواصلة هذا الكاتب لرسالته مبرزا رؤاه وأفكاره وفلسفته ودون أن يتأثر بالحملة التي شنت ضده من قبل أولئك الذين لم يفقهوا كنه التجارب الجديدة التي جاء بها نظرا لتعصبهم ولضيق نظرتهم، ولتعوّدهم على قوالب جاهزة لا يبغون لها بديلا.« ولا زالت مسرحيات السيد حافظ تتوالى في الظهور تأكيدا لاتجاهه التجريبي الذي يحاول إثباته في المسرح المصري خاصة والمسرح العربي عامة، هذا في الوقت الذي صمت فيه العديد من كتاب المسرح الجادين وغابت فيه العديد من الأقلام الجادة التي أفسحت المجال واسعا للمسرح التجاري »(11)، ولكن وحده رفع شعار التحدي وسار على دربه الذي اختاره دون أن يتأثر بتلك الحملات التي واجهته منذ البداية، لأنها ما كانت لتحد من عزيمته أولتثنيها.فقد تعرض في مسرحه إلى العديد من القضايا منها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية كما« … أبدى ..موقفه من القضايا الوطنية ودوره فيها، فكان السيد حافظ في مسرحياته الكاشف والمحرض على التغيير والتقدم والرقي … وكانت كتاباته تثبت دوما أنه أحد المناضلين الحقيقيين الذين ساهموا بالكلمة الحقيقية … الكلمة الطلقة وذلك لخدمة القضايا الجماهيرية ورفع المعاناة عن كاهل الشعوب المغلوبة على أمرها » (12) .

ويمكننا القول إن "السيد حافظ" يعد الأب الروحي للمسرح التجريبي والطليعي العربي ورائده الذي حمل على عاتقه مهمة الإرتقاء به وإخراجه من الدائرة المغلقة التي كان يدور في ظلها طيلة سنوات عديدة. لقد اضطلع هذا الكاتب بمهمة خطيرة ومهمة في ذات الوقت، وقد تطلب ذلك الكثير من التضحيات والصمود أمام الجمود الفكري لذوي العقول المتحجرة. ولا يزال هذا الكاتب يسير بخطى ثابتة على مساره ودربه الذي رسم حدوده بكل دقة. على الأقل في كتابة السيناريوهات بعد أن أعلن اعتزاله للمسرح عام 1990 ضمن الطبعة الثانية لمسرحيته )كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى( وقد جاء في الإعلان على وجه الخصوص مايلي : قررت اعتزال المسرح نادما على أنني أمضيت ثلاثين عاما ممثلا ومخرجا للمسرح في العالم الثالث عامة والوطن العربي خاصة تاركا المسرح لرجال أقدر منّي فنيا وأكبر منّي وظيفيا وألمع منّي إعلاميا» (13).

وقد اقتفى آثارهذا الكاتب الكثير من تلاميذه الذين حملوا شعارا من أجل مسرح جاد وجريء يخدم الإنسان أينما كان وحيثما وجد، مسرح لا يعترف بحدود المكان والزمان واللغة ، مسرح الإنسان لأجل الإنسان .فما أحوجنا إلى مسرح كهذا وإلى كاتب كهذا الكاتب؛ الذي عانى الكثير من أجل إرساء دعائم مسرح جديد، ولم يتأثر أبدا بتلك المحاولات الفاشلة التي كانت تسعى للحد من نشاطه وتجاربه، لأنه كان يعلم علم اليقين أن « المـؤلف المسرحي التجريبي مثل الجندي في إحدى حروب العصابات، ومهما كانت عقيدة المؤلف السياسية، فإن فنه ليس إلا تعبيرا عن حالة روحية كامنة في وعيه ، وأعتقد ]يقول السيد حافظ[ أن أبسط مفهوم للكاتب التجريبي في الوطن العربي حالة )الضد( التي تهز المفاهيم العتيقة ليحدث الزلزال الفكري» (14).وحدوث هذا الزلزال يستلزم كنتيجة حتمية، قيام حملة مضادة، لأن المسـرح التجريبي « يظل إدانة لحالة البلاد الذهنية التي يعيشها المواطن العربي، والتجريبيون هم القائمين على لحظة "تنوير" العـقل»(15)على حد قول "السيد حافظ".
إن الهدف الأساسي للكاتب كما يقول "سعد أردش" « ليس المسرح في حد ذاته، ليس الصيغة الفنية على أي شكل من الأشكال ولكنه الكلمة المضمون، إنه يمتلئ ثم يصبه في قالب فني، ومضامين ذات صبغة إنسانية لا تثير جانبا واحدا من جوانب البناء الإجتماعي، إنك تلمس في العمل الواحد كل ركائز التكوين الإجتماعي : الأخلاق ، الدين ، العلم ، الحضارة ، التاريخ ، التراث ، في إطار الفكر السياسي والإقتصادي والعسكري»(16) .
وختاما فإن المتأمل لأعمال "السيد حافظ" المسرحية يجدها كما يقر ، الكاتب "عبد الكـريم برشيد" « .. تحدق في الناس والأشياء بعينين : العين الأولى عربيـة وهي مفتوحة على الـ" نـحن"و" الآن " والـ " هنا " أما الثانية فهي غربية مفتوحة على المسرح الأوربي كتجارب جريئة وجديدة ومدهشة. هذا الإزدواج في الرؤية والتعبير هو ما حرر مسرحه من التبعية للمسرح التجريبي الغربي ، إنه لم يسقط في اللامعقول أو العبث لأنه اكتفى بمحاورة الشكل العبثي من غير أن يغوص في مضمونه الفكري، وهو مضمون وجودي محض…- حتى هلوساته المحمومة وتحليقاته - لا يفقد الصلة بالأرض التي يقف عليها ، ولا ينسى المكان والزمان والناس والقضايا، إنه يبتعد - شكليا ليقترب مضمونيا .فقد نجد أن مسرحياته بعيدة عن جزئيات الواقع ، ولكنها قريبة من روح هذا الواقع ، قريبة منه لحد الإنصهار فيه»(17) . تلك هي ميزة أعمال "السيد حافظ" على وجه العموم والتي تعطيها سمة الإستقلالية والتفرد والتميز عن غيرها من الأعمال .


1- السيد حافظ وإشكالية التأصيل في المسرح العربي : صليحة حسيني.ص .40.

2- الشخصيات التراثية في مسرح السيد حافظ : سميرة أوبلهى.ص. 32 .

3- جزء من رسالة بعث بها عبد الكريم برشيد إلى السيد حافظ وردت في الغلاف الأخير للكتاب المتضمن لمسرحية حكاية الفلاح عبد المطيع للسيد حافظ.

4- دراسات في مسرح السيد حافظ :السيد حافظ.ج :1.ص.128 .

5- (كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى ):السيد الهبيان .جريدة السياسة .الملحق 28/4/1984.

6- مر.ن.ص.ن.

7-(الوعي السياسي في مسرح السيد حافظ ):مازن الماحي .مقال ورد في كتاب الأشجار تنحني أحيانا: السيد حافظ.ص .302 .

8- مر.ن.ص.ص.304/303.

9- السيد حافظ وإشكالية التأصيل في المسرح العربي :صليحة حسيني .ص40..

10- مر.ن.ص.26.

11- - الفلاح المصري في مسرح السيد حافظ:خديجة فلاح.ص.38 .

12- مر.ن.ص.39 .

13- كبرياء التفاهة في بلاد اللامعنى:السيد حافظ.

14- (الوعي التاريخي أن يكون الإنسان معاصرا لعصره لا مسجونا فيه) : السيد حافظ.الحوار.1980.ص.39.

15- م.ن.ص.40.

16- الشخصيات التراثية في مسرح السيد حافظ : سميرة أوبلهى، ص.52.

17- (مسرح السيد حافظ بين التجريب و التأسيس): عبد الكريم برشيد .السياسة. 20/6/1984.ص.8.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى