مقدمة الطبعة الثانية لمجموعتي الشعرية الأولى «شغب»
قصائد مجموعتي الشعرية الأولى "شغب" والتي كتبتها في أوائل ومنتصف الثمانينات، كانت بداياتي الأولى، نشرت الكثير منها في جريدة "الدستور" الأردنية، حين كنت لا أزال طالبا في الجامعة الأردنية، في عامي 1987 وبعد أن انطلقت إنتفاضة الحجر أو الحجارة، بدأ العديد من الأصدقاء، يشيرون علي باختيار عدد من القصائد ونشرها في كتاب، كنت حينها ممنوعًا من السفر والعمل، لكني كنت أتعاون مع جريدة "صوت الشعب"، ومع عدد من المجلات، حيث كنت أقوم بتسويق بعض الإعلانات لهم مقابل عمولة، تدر علي بعضَ دخلٍ يساعد في تأمين متطلبات الحياة الضرورية، حتى تعرفت على الصحفي اللبناني زهير ماجد، فصار يطلب مني القيام ببعض الأعمال الصحفية، معه في الملحق الأسبوعي، حسب نظام المكافأة، التي تبين لي بجد ستة أشهر أنها لا تزيد على ثلاثين ديناراً شهريًا، لأن التعيين كان مستحيلًا، وسرعان ما كانت المخابرات العامة ترسل ردًا مختصرًا على طلب تعييني، او غيري ممن هم ممننوعون من العمل، بسطر واحد بعد الاسم: لا ننصح بتعيينه. كانت فترة الأحكام العرفية، التي عانى منها آلاف الشبان والخريجين والمواطنين.
كنت غير مقتنع بالعمل مندوبًا ومسوقًا للإعلانات، وأحاول العمل الصحفي الذي أجد نفسي فيه اكثر من مهنة التدريس، أو أي وظيفة أخرى، شجعني على العمل وفق نظام المكافأة المرحومان محمد كعوش، ورشيد حسن، وكان يعمل في الصحيفة عدد من المبدعين مثل إبراهيم سكجها، محمد داودية، إبراهيم نصر الله، وسهير سلطي التل، سلامة العكور، سليمان البرماوي، أحمد ذيبان الربيع، سليمان خير الله، عيسى شتات، سلطان الحطاب، د. وفا أحمد، وابراهيم العبسي.
زهير ماجد فتح لي أفاق العمل، ووجهني لكيفية إعداد التحقيقات الصحفية، وإعداد صفحة ساخرة باسم ابن البلد، وإجراء حوارات صحفية مع مثقفين، أعددت وقتها حوارات عديدة مع الشاعر محمد القيسي، حميد سعيد، جبرا ابراهيم جبرا، عبداللطيف عقل، ود. محمود السمرة الذي كان يرفض الحوارات، لكنه استقبلني في مكتبه في الجامعة، وخصني بحوار بعد أن لمس أني أعرفه أدبيًا، وقد قرأت بعض كتبه.
صرت أساهم أسبوعياً بمواد لملحق الشعب الأسبوعي، بما في ذلك ترجمة مقالة عن الشاعر الانجليزي شيلي، وادغار الن بو، والكاتبة "جورج صاند"، ثم صار زهير يرسلني لإجراء تحقيقات ميدانية أثناء عمل مسلسلات تلفزيونية أردنية، تعرفت خلال ذلك على عدد من المخرجين والممثلين الأردنيين، وصرت أحضر بعض المسرحيات بدعوة منهم في مركز أسامة المشيني الثقافي.
خلال هذه الفترة التدريبية الطويلة، تعرفت على الزملاء العاملين في صوت الشعب، من مخرجي صفحات ومنفذين ومندوبين ومحررين وكتاب، وقد شجعني د. وفا أحمد السوافطة، على طباعة مجموعة شعرية أولى، كي لا تقتل الصحافة موهبتي، وأن زملاءنا في التنفيذ سيقومون بترتيبها وإخراجها وتصميم غلاف لها، وتطوع الزميل هاني أبو ليل، لذلك، وبدأت أجمع القصائد المنشورة سابقًا، وبعض ما كتبت لاحقًا، وسلمتها لوفا أحمد، والذي كان يعمل معنا ويدرس دراسات عليا في الجامعة، وقد حصل على الدكتوراة لاحقًا في أدب التصوف.
لم أكن قد اخترت عنوان المجموعة بعد، وكنت مترددًا بين عدة عناوين، وحينما أعاد وفا الأوراق وجدته يقترح عليّ وضع شغب عنواناً للمجموعة، فضحك زهير الذي كانت تتراقص شواربه الشقراء حين يضحك، وقال: وفا معه حق، هذا عنوان يناسب شخصيتك وقصائدك، اعتمده.
وهكذا كان، وقد حرصت، كما أفعل اليوم، على إبقاء القصائد، كما نشرت لأول مرة دون تغيير أو تبديل، بدأ هاني بتصميم الصفحات، وطلب من اخيتار لوحة للغلاف، فذهبت إلى دار الفنان محمد أبو زريق، في مخيم شلنر، واخترت لوحة، من لوحاته، فرحب بذلك، وأضاف لها بعض الكلمات التي تتردد في شعري، وكان لدينا رسام كاريكاتير اسمه سميح حسني ...في صوت الشعب في ذلك الوقت هاجر إلى أمريكا فيما بعد، قدم لي بعض الرسومات كما قدم لي رسام الكاريكاتير زكي شقفة بعض الرسومات الداخلية، واحتار هاني في كيفية وضع كل هذه الرسومات، ارتآى زهير عدم وضع رسومات داخل الكتاب والإكتفاء بغلاف أول وثان، وأيده وفا، واقترحت فقط نشر أي لوحة للفنان زكي شقفة (ابن غزة) رسام الدستور الشهير، وقد وضعها هاني ضمن قصيدة فراغات في المجموعة، وهكذا كان.
لا أذكر من دلني على مطبعة منطقة الرزقاء الحرة، لأنها ستكون غير مكلفة، وبعد الحصول على الإجازة الرسمية من دائرة المطبوعات والنشر على الدوار الثاني، صار اسمها اليوم هيئة الإعلام المرئي والمسموع، وبعد الحصول على رقم إيداع من دائرة المكتبات والوثائق الوطينة، (المكتبة الوطنية) حالياً، جهز هاني أو الليل الصفحات والغلافين، وأرسلتهما إلى المطبعة. وقد اتفقت معهم على طباعة ثلاثة آلاف نسخة، واتفقنا أن نكتب على الغلاف دينار أردني واحد سعر النسخة، كان حجم المجموعة صغيراً، وضعوها لي في صندوق السيارة، وحينما مررت من بوابة المنطقة الحرة، وهم متعودون على التفتيش على بضائع وآليات ثقيلة وغالية، فكان من السهل تمريري دون تفتيش أو جمرك.
في الأيام التالية بدأت بتوزيع الكثير من النسخ كهدايا على الأصدقاء والزملاء واعضاء رابطة الكتاب، وبعت عدة نسخ منه لمكتبة أمانة عمان، وكتبت الصحف اليومية خبراً عن صدروه.
لم أكن أطمح في اكثر من ذلك، حتى بدأت أرى من اهتم بالكتاب، وصار يكتب عنه مقالات في الملاحق الثقافية في الصحف، فقد كتب د. إيراهيم خليل، الشاعر راشد عيسى، محمد المشايخ، منيرة شريتح، وكانت المفاجأة أن الشاعر العراقي بلند الحيدري، كتب مقالة عنه في مجلة المجلة التي كانت تصدر في لندن، وتوالت الكتابات، فكتب عنه الشاعر أحمد الكواملة، مقالة طويلة في مجلة قطرية، أرفقت مع المقالة صورًا من الانتفاضة الفلسطينية، علمًا أن القصائد جميعها مكتوبة قبل الانتفاضة، لكن الكل اعتبرها كتبت بتأثير منها، لم أنف ذلك، لأني كتبت الكثير منها متأثرًا بوجودي في مدرسة الحجسين بن علي في مدينة الخليل، ومشاركتي في بدايات المظاهرات التي كانت تبشر بإرهاصات الانتفاضة لاحقاً، والحق يقال أن دوافعها كانت الاحتلال الصهيوني قبل كل شيء، لكن شرارتها انطلقت بعد حرب 6 اكتوبر وعبور الجيش المصري خط بارليف الحصين على قناة السويس، ودخول الجيش السوري إلى الجولان بداية الحرب.
انهارت صورة الجيش الصهيوني المرعبة، وبدأنا نحن الأولاد في ذلك الوقت، نسخر منهم ونقذفهم بالحصى والحجارة، قبل أن تظهر مصطلحات الإنتفاضة، وانتفاضة الحجارة، وثورة الحجر، وملامح المقاومة الجديدة في قطاع غزة، والضفة الغربية وفي مدينة القدس.
لن أدعي أني تنبأت بالإنتفاضة مثل غيري، لكن قصائد المجموعة هي التي كانت تتنبأ وترى الثورة عارمة والمقاومة متسعة، وألا سبيل لطرد الاحتلال إلا من خلالها.
"شغب" لا تزال لها طعم الدهشة الأولى، وهي التي جعلتني عضوًا في رابطة الكتاب الأردنيين، ومنحتني عضوية الوسط الأدبي، وعرفتني على العديد من الشعراء والنقاد والمثقفين ومن بينهم الشاعر المرحوم علي الفزاع والذي وضع اسمي بين شعراء مهرجان جرش منذ عام 1989، والشاعر والناقد عبدالله رضوان والذي لم يكتب عن المجموعة لكنه فيما بعد كان له دور في إصدار المجموعة الثانية والثالثة بعد أحد عشر عامًا من "شغب".
كان بامكاني، أن أعيد تحرير قصائد شغب، من جديد وأعدل وأبدل وأغير، وآخذ ملاحظات النقاد بعين الجد، وأحكم ذائقتي الحالية بعد هذه السنوات على الحذف والقَلب والإبدال أو التجديد، لكني أعتبر ذلك خيانة للنص الاول، وللمولود الأصلي، أفضل أن تترك القصائد كما كتبت وصدرت في المرة الأولى، لكي تظل شاهدًا صادقاً على البدايات، بعثراتها وأخطائها واندفاعها. دون صنعة محدثة، وإخفاء متعمد للملامح الاولى، ولذلك تعمدت نشر مقالة د. إبراهيم خليل كما نشرها للمرة الأولى، وهي التي نشرها د. خليل في كتابه عن أدب الإنتفاضة عن دار الكرمل عام 1989م.