معين بسيسو في صالون نون الأدبي
عند الرابعة من بعد عصر يوم الثلاثاء الموافق 4/ يناير / 2005م اجتمع حشد كبير من الأدباء والمثقفين من رواد صالون نون الأدبي ليشاركوا في دراسة هوية المرأة في المسرح الشعري عند الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو.
افتتحت الأستاذة فتحية صرصور اللقاء بنبذة عن الشاعر: الذي ولد في العاشر من أكتوبر عام 1926 في حي الشجاعية في مدينة غزة، ورحل في العاصمة البريطانية لندن في 24 يناير 1984 إثر جلطة دماغية ألمت به مخلفاً وراءه تراثاً نضالياً ما زال يلهب المشاعر ويحرض على المقاومة. ( قد أقبلوا فلا مساومة .. المجد للمقاومة.)
بعرض سريع لأهم أعمال الشاعر معين بسيسو من الشعر والمسرح الشعري نجد الشعر لديه وسيلة من وسائل النضال. فكانت أعماله الشعرية من الأسس التي أرسيت عليها أعمدة الشعر المقاوم. لقد ساهم في بناء المشهد الثقافي الفلسطيني بفاعلية وتنوع، حيث إنه قدم ثلاثة عشر ديواناً شعرياً منها: ديوان "مارد من السنابل" " قصائد على زجاج النوافذ "المسافر" "المعركة"، "حينما تمطر الأحجار"، الأردن على الصليب"، "فلسطين في القلب"، الأشجار تموت واقفة"، "جئت لأدعوك باسمك"،
وعلى صعيد المسرح، استطاع معين أن يساهم في ست مسرحيات منها: (ثورة الزنج)، (مأساة جيفارا) (الصخرة) (شمشون ودليلة) و(العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع) (محاكمة كتاب دليلة ودمنة)، وفي مجال الدراسات والأعمال النثرية، كان له إسهامات تمثلت في: (أدب القفز فوق المظلات)، (عودة الطائر) و(في الرواية الصهيونية) وغيرها.
ثم قالت لا أستطيع أن أفرغ من الحديث عن الشاعر الكبير معين بسيسو دون أن أقرأ واحدة من روائع الشعر النضالي التعبوي: من قصيدة المعركة ويقول فيها:
أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
وأحمل سلاحي لا يخفك دمي يسيل من السلاح
وانظر إلى شفتي أطبقتا على هوج الرياح
وانظر إلى عيني أغمضتا على نور الصباح
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح
ثم أعطت الكلمة للدكتور عبد الرحمن بسيسو الذي أعد هذه الدراسة خصيصا لصالون نون الأدبي، الدكتور عبد الرحمن دكتوراة في النقد الأدبي وعلم الجمال، رئيس مركز البحوث والدراسات البرلمانية وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان ( شموس ).
له العديد من الكتب والدراسات في مجال النقد الأدبي والدراسات الجمالية والقضايا الفكرية والمجتمعية (الأنثربولوجية )
بدأ الدكتور عبد الرحمن ورقته مقدما معطيات ومادة خامية تجعل الجميع يفكر في الموضوع المطروح وهو هوية المرأة في مسرح معين وتحولاتها الدلالية، مضيفا أن الموضوع لا يسمح بحكم نقضي ناشز وذلك لأن الشخصية متحركة.من الشخصيات الأنثوية الواردة : ماريانا في مسرحية مأساة جيفارا امرأة ساقطة، فاسقة مومس عشيقة لكل شباب القرية ، عرّافة، قدّيسة، رفيقة ثائر وثائرة وإنساتة هذه كلّها خصائص تصب في هوية مريانا، وجوقة القرويات الأربع في المسرحية نفسها جوقة تريد أن ترينا رؤيا الناس والآخرين لماريانا، هناك علاقات تنسج بين ماريانا والجميع، وتحاول الجوقة امتصاص هذه العلاقات وصبّها في هوية مريانا بأشكال أخرى.
في مسرحية ثورة الزنج هناك وطفاء أو لؤلؤة الدم هذه واحدة حولها كلام كثير.
في مسرحية شمشون ودليلة هناك المرأة من يافا أو ريم أو دليلة إنها المرأة ذات الاسمين: ريم، دليلة اللاجئة المنزوعة عن طفلها المفقودة الفاقدة العقل، الباحثة عن طفلها المفقود المنبوذة، المتنكر لها العرافة المرأة التي ليست هي سارقة القمر الراقصة في كل طريق المتهتكة الجاسوسة، جاسوسة أول مملوك فرّ من القلعة، وعشيقة آخر مملوك، بل إنها المرأة جاسوسة المستقبل، المرأة ذات الوعي السياسي الراسخ والعميق، المرأة التي تعكس هويتها وتحولاتها صورة شعب بأسره وتحولات هويته على امتداد تاريخي طويل.المرأة التي تشرب نخب ولدها حتى آخر قطرة من كأس البارود، المرأة التي وحدّت هويتها بين جميع النساء المنتمين إلى سلالة دليلة الفلسطينية وهن يواجهن شمشون الجندي الإسرائيلي، المرأة العنيدة المسكونة بصلابة لا تنكسر في مواجهة الجلاد أو الطاغية فتكسر إرادته وتكشف هشاشته، وتجعله جلاد نفسه.
الأم مغفلة الاسم ثم يصبح اسمها بلقيس، فلاحة، لاجئة، مطرودة من وطنها ومطاردة، أمية، حكيمة تعرف شيئا، تنتمي إلى أرض الوطن وتدعو إلى مواجهة فكرة البحث عن وطن أو عن منفى آخر في المنفى، حزينة ، مسكونة بأسى عارم، حنونة، حانية على أطفالها وزوجها، كاظمة على جرحها، شريكة في معاناة القهر، منتفضة مع المقهورين الآخرين في وجهه، داعية عنيدة لرفض الواقع المرّ وإلى الثورة عليه، تحرض نفسها وزوجها وأطفالها والجميع فلسطينيين وعربا على المقاومة والنضال من أجل الوطن وإنسان الوطن، متشككة في وعود الساسة ومحترفي النضال الكذابين، امرأة بدت عاقرا حتى هبط ملاك البارود فلمسها بجناحيه، فوضعت حملها الذي دام سنوات وأنجبت ثورة، هي طفل البارود، هي امرأة تدفع زوجها وأبناءها بابتسامة مرّة ليذهبوا إلى موت أو سجن أو جرح غائر، بحثت ولا تزال تبحث عن مخرج للدم الحبيس في شريانها، أما راحيل المجندة في الجيش الإسرائيلي فهي امرأة يهودية جاءت في منتصف ليل مظلم إلى فلسطين منساقة خلف أسطورة بالية وسوداء امرأة تبعت شمشون مئات السنين، تركت بلادها وجاءت للعيش في أسطورة جعلتها مجندة تشارك في حروب شمشون الهادفة لكسر إرادة الفلسطينيين والعرب والسيطرة على أرضهم، ومقدراتهم وأقدارهم، المرأة التي ترى نفسها صقرا على كتف صياد وتعرف أن مصيرها مقيد إلى قدر شمشون، الذي لا يملك شيئا سوى أن يكسر أو يتكسّر، أن لا يكف أبدا عن القتل لأنّه إن كفّ عنه انكسر ومات المرأة التي تحيلها معرفتها إلى شخص موغل بالفاشية وفي ممارسة العنف واستمراء القتل والاستهانة بأرواح الآخرين المرأة التي يمكنها استغراقها في الأسطورة من قراءة خصائص هوية دليلة في ريم الجريحة المعتقلة المكبلة بالأربطة والراقدة على سرير أبيض ويجعلها تسأل ريم عن اسمها القديم عن ( دليلة ) التي تراها فيها وتحذر شمشون منها،
في مسرحية الصخرة امرأة واحدة مغفلة الاسم.
في مسرحية العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع هناك المرأة ( شامة ) امرأة مغفلة الاسم حتى يعرفنا الممرض اسمها إذ يذكرها به، وكانت قد نسيته، شامة نظيرة ليلى جبل التوباد وبائعة الزنبق في الرملة الجريحة المكسّرة العظم المقيد بالجبس والأربطة البيضاء ، المرأة التي لا تريد أن تلد إلا من قدمها تناضل من أجل تحرير قدميها وفك الجبس والأربطة عن جسدها المقيد بأكمله، المرأة التي ترى الوقت منشار تريد أن تقطع فيه أغلال قدمها وتفك أغلالها المرأة التي تسأل الآخرين الذين قيدوها ويحرصون قيدها؛ مَن أنتم؟ فيما هي تسأل نفسها وأنا مَن ؟ وتحاول التعرف على اسمها ( حتى اسمي لفوه بالقطن والشاش سبعة أعوام وأنا أصرخ ضد القطن سبعة أعوام تطعمني القطن ) المرأة التي تعرف من ضمن ما تعرف أنها ترزح تحت القيد منذ سنوات سبع، وأن ساقها معلقة من دون إرادة منها، وأن توقف قدمها عن المشي سيجعلها تفقد ذاكرة الأرض وأنها لو مشت لن تفقد شيئا غير أغلالها والقطن، المرأة التي يعكس اسمها وتحولات هويتها اسم وطن وشعب وتحولات هويتهما، (الشامة فوق الخد كانت دمعة وتحجرت الدمعة صارت شامة، الكأس بيدي والقدم العنقود والجسد زجاجة كيف وصلت إلى هذه الزنزانة)، المرأة التي لأنها كانت تقود السيارة ضد قوانين شوارع هذا العالم وما ذلك لشيء إلا لأنها ضد هذا العالم الذي اقتلعها من وطنها فأذلها وأفقرها وانتهك إنسانيتها وحقوقها ولم يدع لها قدرة الحصول على خاتم تزين به إصبعها إنها المرأة التي صارت كما تخيل أعداءها خطرة جدا لأنها حملت وشمّت النطفة، إنها المرأة التي لو أمسكت عود كبريت بيدها لأحرقت الشمس، فماذا لو صار عود الكبريت إصبع ديناميت المرأة التي لاتزال تحمل في قدميها نطفة الأرض رغم الأعوام السبعة من الاقتلاع والرحيل رغم الأسر والقيد ورغم ضراوة المنفى، المرأة التي أحال المحتل الذي قيدها أحال دمها لأفيون فتمردت وانتفضت وانقضت على سجانها حتى أسالت دمها كي لا يصبح سمّا إن كفّ عن الجريان، المرأة التي لا يراها أعداءها جميلة إلا حين تكون تحت القطن والأربطة البيضاء، المرأة التي تعرضت لكل الظلم والعسف من أعدائها ولكنها ما كفت أبدا عن الرفض، ولم تعرف في مواجهة الغاصب سوى الكلمة (لا) المرأة التي اختارت الانتماء إلى الأرض رغم كل شيء المرأة التي لم يكن رأسها كأسا فارغا ، حالت دون العدو وقطع ساقها، فرضت عليه قطع القيد بدلا من قطع ساقها، المرأة التي كان بإمكانها أن تقطع بأسنانها هذا الحبل لو لم تفرض على عدوها قطعه بمنشار في يده، تلك المرأة صاحبة الساق التي قطعت عدوها ولم تمكنه من قطعها، تلك المرأة التي حررت ساقها من قيود كبلها بها عدوها وصار بمقدورها أن تمشي فوق الأرض كي لا تفقد أبدا ذاكرة الأرض المرأة التي تصر على حماية ساقها بكفيها بعد أن فكت أغلالها بمقاومتها العنيدة وحررتها، المرأة التي تريد لقدمها أن تحملها لذاك البستان، المرأة العاشقة التي لا تفتقد فم من تهوى فوق فمها ويده فوق يدها فحسب بل إنها تفتقد دمه في دمها أن يكون كالشامة فوق الخد، المرأة التي تخطو صوب البستان وتدعو الناس أن يخطو خلفها، وهي التي تدرك أن الفرح الحقيقي هو باللحظة التي تلامس فيها قدمها الأرض لأنها لحظة للثورة والفرح، حيث كل فقراء الأرض سيتبعون خطوها وسيصيرون ملوك الأرض، المرأة التي تعلم أن من يعشقها وهي مصلوبة فوق الخشبة ويصيح أبي ليس هو ابنها، وإنما ابنها هو من ينزلها من فوق الخشبة، إن ابنها ووطنها في آن معا هما اللذان ينزلانها عن الخشبة، المرأة التي تدرك أن ساقها مجدافها، وأن قدمها هو الزورق، المرأة التي تصرخ بعدوها غاصب أرضها والساكتين عليه أن يبعد وحله عنها ويرحل، المرأة التي تبحث عن قدمها قبل أن تبحث عن علمها مدركة أن القدم علم، وأن الدم يتبع القدم وأن اللحظة التي ترفرف فيها قدمها على الأرض هي نفسها لحظة رفرفة علم وطنها في سماء وطنها المرأة التي تَعِد من يتبع قدمها بالأرض، كل الأرض تكون له وطنا ترفرف بها قدمه كما يرفرف علمه، المرأة شامة التي ترفض أن تصبح وحلا فوق الخد (الشامة) المرأة التي تحلم بالجورب قبل العلم وبالشجرة قبل الكرسي المرأة التي كبرت أظافر قدميها ويديها تحت القطن وفي القيد وصارت رموش عينيها تخدش وجه عدوها، المرأة التي تحبل من قدميها لو لامست قدميها الأرض، شامة المرأة الطفلة التي اغتصبوها في حقل الزيتون، حين كانت طفلة ثم رموها بالبئر وغطوا فمها بالعشب ورحلوا، فراحت تصرخ في قاع البئر وفمها مملوء بالعشب وبالليل وبالماء، ظلت تضرب بأصابعها أحجار البئر حتى اعتقد الفقراء أن قلب الأرض يخفق، المرأة التي أخذت تصعد من قاع البئر وئيدا وئيدا، حجرا حجرا، والتي تعثرت كثيرا وسقطت كثيرا حتى وصلت فم البئر فشقت بأصابعها الطين وخرجت، المرأة التي عشقت يداها الأرض فأعطتها الأرض سرّها ونطفتها ودمها وغدها والتي تريد أن تجعل من دمها زيتا لمصباح الحرية، المرأة التي تعلن أنها زوجة الأرض وأن قدمها جرس الأرض ينادي عصافير الأرض كي تعشش في أذنها وبين أصابعها.تلك شامة التي تختزن كل الشخصيات المسرحية الواردة في مسرح معين بسيسو.
في الكلام النقدي على مسرح معين بسيسو ربما يغلب على القراءة الأولية أن تقول إننا نواجه تسميات نمطية المرأة دائما هو الاسم ثم بعد ذلك يأتي الاسم وهذه التسمية تلفتنا لاقتناص بعض دلالاتها والتعرف عليها،ثم إن التركيز على النمطية أمر وارد لديه مثلا كل وجوه الفلاحات ككيزان الذرة لها نفس اللون ونفس الشكل ونفس الطعم، يقول فلاح آخر في مسرحية مأساة جيفارا (أنا أعرف بعضا منهن ومن البعض منهن تعرف المرأة التي تدعى مريانا، وللتخصيص نبدأ بالتفاصيل، عندما نتعرف على المرأة في خصوصيتها تقص المرأة حكايتها، مثلا هذه الماريانا تحكي حكايتها مع القسيس المتحالف مع السلطة ضد جيفارا والجيفاريين فهي تمسك بطنها وتقول (هذا الجرو النابح في بطني لم يسمح لي أن أترك بيتي إلا الآن) منذ هذه اللحظة تبدأ هوية ماريانا بالارتسام ( بذرته في بطني فلماذا يلعن بطني، رحت لأعترف إليه ألقاني أرضا وحرثني، ألقى بذرته في بطني، فلماذا يلعن بطني الملعون ابن الملعون أين هو الآن) هذه الصورة تظهر لنا صورة ماريانا في نظر الناس، فهي فاسقة مخمورة ساقطة، ملعونة، والسقوط هنا موازٍ بين المرأة والأرض والمجتمع، فالقرية طينية الجدران، بيوتها متناثرة، يحكمها ضوء خافت، وتخرج القرويات الأربع متسللات من زوايا المسرح الأربعة يرتدين أردية حمراء وأقنعة سوداء وبلا عيون، رغم ذلك فكل واحدة منهن تحدق بالأخرى وفجأة يواجهن الجمهور كجوقة ويبدأن بالنشيد يتكلمون عن ماريانا كامرأة مخمورة كأس الخمر بيدها والمنجل بيدها اليسرى، كامرأة تترنح تتعطر تسقط تنهض كامرأة سقطت في الوحل أيضا قريتنا امرأة مخمورة، قريتنا امرأة في الوحل) هنا يكون ظهور ماريانا الساقطة الموازية للقرية المنتهكة المتعثرة تحاول النهوض، ولكنها تتهاوى فوق وجهها فتتحطم الكأس، ويبقى المنجل بيدها المبسوطة فوق الأرض، الجوقة مرة أخرى ( هي ذي ماريانا هو ذا المنجل والكأس ما دامت هذه المرأة تترنح وتسقط مادامت هذه المرأة في الوحل نحن جميعا نترنح نسقط نحن جميعا في الوحل، أقنعة من وحل فوق وجوه من وحل) ظلت ماريانا تحاول النهوض ولم تقدر غير أنها تتمكن من بعض خطوات حتى تصل وسط المسرح لتشرع مترنحة وساعية للتقدم خطوات أخرى في بوح ينطوي على اعتراف وكشف، فماريانا الفلاحة الساقطة كالقرية المنتهكة المنهوبة هي المرأة التي ضاجعها الجميع وهي عشيقة كاهن شهير ، هنا نجد تحولا جديدا فلأنها أصغت لاعترافات الكاهن أضحت عرّافة تذيع أسرار الجميع للجميع وهكذا يسيرها الجميع قديسة في أعين الجميع، كانت معه في حجرته السرية كانت تصغي لكم تعترفون ثم تبيعكم الأسرار كعرّافة والعرافة كبرت صارت قديسة،( إني أعترف الآن فعشيقتكم عرافتكم قديستكم ماريانا تعترف الآن مَن منكم ألقى فوق فراشي خاتمه أو فضته فليتقدم مني الآن وأخذت تلوح بيديها لا خاتم في الأصبع ) في أحد المشاهد تترنح ماريانا ولا أحد يستجيب لنداء الجوقة ليتقدم ويسندها، تسقط يمر الجميع فوق جسدها؛ فلاح امرأة عجوز ، رجل يرتدي ثياب مدنية جندي، كل من الفلاح والمرأة يرسم شارة الصليب ويمضي، والرجل المدني يبصق على الأرض، أما الجندي فيتناول جرعة من زجاجة خمر بيده ثم يفرغ الزجاجة فوق رأس مريانا مقهقها ويمضي،لقد مر الجميع فوق جسد ماريانا وتركها غارقة في الوحل وترك نفسه غارقا في الوحل، فمن المنقذ إذن ؟ من ذاك الذي سينقذ نفسه وماريانا في آن معا ؟ ما من منقذ سوى جيفارا نفسه( الرجل الذي يظهر في صورة جيفارا من الجهة اليسرى للمسرح وللجهات دلالة سياسية وأيديولوجية) يظهر ممتطيا جوادا وحاملا بندقية فما أن يرى ماريانا حتى يهبط ويجثو على الأرض ليرفع رأسها ويسنده ويخرج منديله ويمسح الوحل عن وجهها وجه ماريانا ووجه القرية ووجه الإنسان ووجه الوطن ووجهنا جميعا. في المنظر الرابع من الفصل الثاني من مسرحية مأساة جيفارا ظهرت ماريانا لأول مرة على النحو الذي بيناه ولئن سبق ظهورها فصلا مكونا من ثلاثة مناظر وهو الفصل الأول كاملا وثلاثة مناظر من الفصل الثاني المكون من خمسة مناظر فإنها تعاود الظهور في المنظر الثالث من الفصل الثالث، وهنا تكون ماريانا قد نزعت عنها قناع المومس والعرافة والقديسة وعشيقة كل شباب القرية ليظهر وجهها الحقيقي الذي أخفاه ذلك القناع، فمنذ أصبحت ماريانا رفيقة للثائر رفيقة لجيفارا سقط القناع، وظهر الوجه الحقيقي للمرأة أي للإنسان الذي من خصائصه العميقة تستمد المرأة مكونات هويتها الحقيقية، منذ الآن لا تعود صنوا ماريا المجدلية، بل تصير سليلة مريم العذراء التي يرى الفلاح الثالث الثائر التائه في غيبوبة نجمت عن إدماء رصاص الشرطة في قدميه أن للعذراء وجه يشبه وجه ماريانا وليس العكس فكأنما العذراء هي الشبيه وماريانا هي العذراء الجديدة هي الأصل أو كأن التماهي التام قد أزاح المسافة ما بين الأصل والشبيه فصار اسمين لماهية واحدة وذلك دون انتفاء الجدل المستمر ما بين الاسمين والوجهين الأصل والشبيه وما بين الهويتين المجسدتين في مريم المجدلية، وماريانا وما بين ماريانا القديمة وماريانا الجديدة،( ماريانا والثائر ما أشبه وجه العذراء بوجهك لك وجه العذراء) والأمر نفسه ينطبق في العلاقات مع الآخرين ومن المعروف في البلاغة العربية أننا نشبه المرأة بالقمر وأطواره، والرجل بالشمس وكواكبها لكنه عندما تكلم عن جيفارا ( كان هلالا لما قتلوه اكتمل وأصبح بدرا ) والأمر نفسه ينقلب في جلب بعض الصفات التي اعتادت البلاغة العربية أن تعطيها للأنثى تعطيها للذكر والعكس، أيضا في محاولة لدمج الخصائص في هوية إنسانية بعيدا عن فكرة الذكورة والأنوثة، وهذا يأتي في مسرح معين بشكل ومضات وليست مسألة غالبة.
يتم القبض على رامون الفلاح الثالث وماريانا فيقول الضابط الجنرال موجها كلامه للشرطي ابن الفلاح العجوز ( وهذا الفلاح مناضل بوليفي وله ابنان؛ ابن في المنجم وابن في الشرطة يقول: لي ابنان ابن في الجنة والآخر في النار) معتبرا الشرطة هي الجنة.
في توازن وحضور مستمرين لماريانا في المشهد الثالث من المنظر الرابع تعاود ماريانا الظهور فنتعرف عبر حضورها في الزنزانة وعبر صوتها الداخلي الذي يحاور الضابط (السلطة القمعية) ويضحض رؤيته للعالم موقفه من الحياة والناس على المزيد من خصائص هويته مثلا ( أنا لم أحمل سيفا طول حياتي فخذي كان هو السيف ولساني كان هو السيف وأنا الآن أموت وشهودي هذه الجدران الأربعة) وهناك أيضا تنضاف ماريانا إلى قائمة الثوار وتدخل في هويتها مواصفات عديدة تأتي من منافستو الثورات.
بعد عرض الدكتور عبد الرحمن لورقته القيمة فتح باب النقاش وقد ساهم فيه كل من الأستاذة إلهام فرح وقد تساءلت كيف يكون القسيس رجل دين وساقط في آن ؟ وكيف يشبه ماريانا بالعذراء مع ما بينهما من كبير فرق ؟ وتساءل الأديب الروائي خضر محجز هل كانت ماريانا تبحث عن وجهها الحقيقي من خلال هذه الأقنعة ؟ هل لم تصل لمعرفة هويتها إلا بعد الثورة ؟ وهل أراد معين أن يقول لنا أن الإنسان لا يكتشف ذاته إلا من خلال الثورة ؟ وكانت مداخلة الناقد الإعلامي خليل حسونة تنصب في السؤال عن الهدف من التشبيه المبطن لماريانا بالعذراء في حين أن صورة ماريانا لعلاقة مريم المجدلية بالمسيح هي الأقرب ؟ وتساءل عما إذا كانت الأقنعة المتعددة لماريانا مستلهمة من إيفا صديقة جيفارا وملهمته للثورة؟ وهل ماريانا هي المرأة في كل زمان ومكان بكل صفاتها ؟ وهل المدّ الثوري والوعي المقصود في هذه المسرحة ينطبق على واقعنا ؟
أما الأستاذ الدكتور الناقد نبيل أبو علي فكانت له مداخلة قال فيها: المرأة لم ترصد لذاتها في جميع أعمال معين، فالأرض امرأة ذات ارتباط بالمرحلة ونماذج هذه المرأة مشحونة برؤية الكاتب بكل تفاصيل تلك الرؤيا التي يسعى إلى نقلها، والمرأة لدى معين نماذج ثلاثة؛ المرأة المستلبة - الساقطة – المقاومة وهي القديسة،هذه النماذج الثلاثة عبرت عن المرأة في جميع أعمال الكاتب وقد تحمل امرأة واحدة تفاصيل هذه النماذج في مراحل متعددة ؛مرحلة أولى وثانية وثالثة وهي مراحل التحول كما هو التحول في مراحل حياتنا السياسية. مضيفا أن هناك فرق بين الشخصية المسطحة ولايقصد أيضا الفكرة لذاتها الشخصية بأنها كائن حي يدب على الأرض ويتحرك، فالكاتب يشحن أعماله برؤيته.أما الدكتور يسري مغاري فقد سأل الدكتور عبد الرحمن أي امرأة من نساء معين أحببت ولماذا؟ وكان للفنان والمخرج المسرحي الأستاذ خليل طافش مداخلة أضاقت للموضوع بحكم علاقته مع معين بسيسو ومسرحه حيث أخرج بعضها وقام بصياغة العرض المسرحي لها: قال المرأة تنبني في تكوين سيكولوجي وهي فكرة رئيسية تتصارع حول مجموعة من الأفكار، وليست شخصية دينامية متنامية، المرأة عنده هي لسان حاله وغالبا ما يصوغ فكره على لسان المرأة سواء كانت ماريانا أم وطفاء أم ريم أم شامة، بمعنى أنها ليست كائن قابل للتطوير السيكولوجي أو الانفعالات، فهي موقف ثوري من إنسان عاش ثوريا ومات ثوريا، ماريانا اكتشفت ذاتها وهويتها مع جيفارا الذي تحميه ويحميها، شامة لم يكن يراد قتله وإنما فقط بتر الساق اليسرى لأن المشكلة في ساقها اليسرى لأن ببترها يصل الخلل للساق اليمنى فالرأس، لذا لم تكن الشخصية شخصية إنسان عادي ولا هي رمزية مغرقة، وليست رومانسية ساذجة، وإن كان فيها شيء من المباشرة المحببة للنفس والتي تصل لكل قارئ المثقف والعادي.، إذن شخصية المرأة عند معين أساسية ومحورية يدور في فلكها لتوضيح فكره.وأضاف لم يكن معين بنّاءً دراميا بالمعنى التقليدي المعروف، فعندما أخرجت له مسرحية لم يكتب (إخراج) إنما كتب (صياغة العرض المسرحي)، ولا ننكر أنه في مسرحية شمشون ودليلة وقع في مطبات درامية لكن في ثورة الزنج كانت التجربة أكثر نضوجا.أما السيدة أم توفيق أرملة الشاعر معين فقالت إن صورة المرأة عند معين في المسرحيات الأربع كانت استشرافا للمستقبل، فهي المناضلة وهي المعتقلة وهي الأم التي تربي أبناءها على الثورة، وهذه الصورة تنطبق تماما على ما هو موجود في واقعنا.الفنان المسرحي حسام المدهون يرى أن الذكورة والأنوثة مختلطة لدى معين، فشخصياته النسائية تتساوى مع الشخصيات الذكورية، كما أن شخوصه عبارة عن أفكار فهل يعتبر هذا ضعفا ؟
أجمل الدكتور عبد الرحمن ردوده على المتسائلين بأنه لا بدّ أن ننظر لمسرح معين باعتباره مسرحا ملحميا، فنحن نرى تأثره العميق بمسرح بريخت، كلاهما أعطى للمسرح الملحمي الكثير وهناك شبه كبير بينها وبين مسرح بريخت لذا نحاكمها باعتبارها مسرحية ملحمية، من هنا نلاحظ في البناء تغليب للصراع الداخلي على الصراع الخارجي، يرى البعض في مفهوم الحداثة أن يجعل الأحداث والشخصيات في خدمة الحبكة المسرحية وهذا نقيض للحداثة، فالملحمية لم تعد ممكنة إن لم أركز على الشخصية الداخلية والدراما الحقيقية التي تمور في أعماق الذات.في مسرح معين مونولوجات مطولة، يأتي صوت يكسر حدّة الكلام.
كان معين مسكونا بالأيديولوجيا، اكتشف الشعر على أكتاف المتظاهرين، واستخدم الإبداع وسيلة في النضال، تبدو كتابة المسرحية لدى معين أقرب للكتابة الحرة، وربما هي كتابة لا تخضع لكتابة ثانية أو مراجعة، فهذه هي الكتابة الأولى دون مراجعة أو تهذيب. وهنا أضاف الأستاذ خليل طافش مؤكدا بأن موقفا حدث أمامه يؤكد هذا القول حيث كان معه في الاستديو بسوريا معين يكتب وهو يعرض ما يكتبه على الهواء مباشرة.
وردا على سؤال قال إن المبدع لا يتعامل مع الحقائق الدينية، بل يتعامل مع الرموز، ومع ذلك فهو يوازي بين جيفارا والمسيح، وهناك حقيقة مفادها أن بعض القديسين يعطلون الطريق بين الناس والله.أما عن تنميط الشخصيات عند معين بنماذجها الثلاثة فهي موجودة لكن العنصر المهيمن خاضع للتحولات مع وجود كل العناصر الكامنة في الشخصية.
وعن المرأة التي أحببتها أكثر فكلهن امرأة واحدة لأنهن جميعا المرأة التي يريدها ويتطلع إليها معين.وقال في أي نص مؤلف ضمني للنص، الكاتب الذي لا يكتب ليس معين الأنا الاجتماعي وإنما أنا من ورق أنا معين الكاتب، ومعين يوزع أناه الكاتبة أو قناعه على الشخصيات جميعا، فالمؤلف الضمني موجود في كل الشخصيات حتى نجد أحيانا لا يستطيع كبح جماح لسانه، ويطلق كلمات لا يصح أن تقولها الشخصية.وعن ماريانا قال نعم هي تبحث عن هويتها، فالإنسان يفقد إنسانيته إذا تعرّض للقهر ولا ينتفض، ورسم شخصية ماريانا إعادة إنتاج شعري لشخصية إيفا، وهناك شخصية رمزية بالمعنى اللاولغوي، الذي لا يخرج ولا يكون شبكة دلالات واسعة.وعن الأيديولوجيا قال إن مسرحياته خالدة حتى في ظل انهيار الأيديولوجيا.
أخيرا :كان معين عاشقا للحياة والحب والوطن، وسيبقى نصّه بين أيدينا للأبد، وأذكر أنني قلت في يوم تشييعه إلى مثواه الأخير في مصر ( ابحثوا عن معين فلن تجدوه، إنّه يبحر في اتجاه غزة)
مشاركة منتدى
16 شباط (فبراير) 2005, 11:44, بقلم فاطمة
حبذا لو أدرجت قصائد الشاعر و بعض كتاباته النثرية في ملف خاص بديوان العرب، لأن كتاباته نادرة في المكتبات.
نشكر الأستاذة على هذا التقديم القيم ، ونتمنى أن يزداد الاهتمام بقراءة أعماله على صفحات المجلة
مع خالص الشكر والتقدير
29 نيسان (أبريل) 2011, 04:16, بقلم محمد
ارجو من سيادتكم الرد على
( انا ابحث عن النص المسرحى ل ثوره الزنج للشاعر معين بسيسو ولكنى لم اجده على الانترنت ولا فى المكتبات)
اذا امكنكم رفعه على الانترنت فلكم جزيل الشكر