مصرع الغزالة البرية
تلك سنة لا تُنسى يا ولدي ، فتاريخ قريتنا الغافية عند أرجل المحيط ، ابتدأ من ذلك اليوم ، الذي أراه الآن واضحاً مشعاً برّاقاً ، كنجوم الصيف. أنتم الشباب تعتبرون سنة الغزالة البريّة أسطورة من أساطير الأجداد ، لكنها حقيقة كوجودك أمامي الآن.
صمتت الجدة ، نظرت للفضاء بعينين مغبوشتين ، وابتسامة ساخرة ، حطّت على شفتيها بشكل خاطف ، ثم أضافت :
– البعض يا محمود يحاول تزوير الحقيقة ، ويسعى لطمس إشراقة ذلك اليوم البهي. لكن إذا رغبت ، حكيت لك ما يخاف البعض من قوله.
تململ محمود خوفاً ، بدا ذلك في ارتعاشة خفيفة على شفتيه ، فبدا متوسلاً :
– لقد طلبت ذلك مراراً. فهل كل ما يقال عن سنة الغزالة البرية حقيقة. الأحاديث كثيرة ، ويبدو أن للحقيقة وجوهاً عديدة.
فانتفضت الجدة:
– للحقيقة وجه واحد. ولكن هناك من الحقائق ما يستعصي على عقولنا الصغيرة.
دعني أحكي لك :
– كان ذلك منذ زمن بعيد. في فجر يوم خريفي ، طالعتنا فتاة لم يعرف أحد منا من أي قدر جاءت. وكانت طلعتها بوجهها المهيب كسيوف مشرعة في الغسق ، إيذاناً بالهلع والحرب. دقت لها قلوب شباب قريتنا الوادعة. لم أر فتاة في مثل كمالها ، وفستانها الزاهي منسوج بألوان قزحية ، فستان فضفاض ، أحاط بها كغيمة ملونّة.
أما عيناها الواسعتان ، فكانتا سوداوين ، بدا وكأنها اكتحلت من أديم قمرنا الذي تدلى ، على رابية القرية بصمت محيّر.
– لكن يا جدتي ما قلتيه ...
أشارت إليه بيدها المعرقّة أن يصمت. فصمت.
– لم تكن مشكلة القرية هذه ، بوجود فتاة جميلة فيها ، فالفتيات الجميلات كثيرات. المشكلة يا ولدي .. أن كل شاب في قريتنا يراها يذوب بها هياماً. تجتاحه موجة حب هستيرية.
دخل الجد ، فصمتت الجدة ، وبدا محمود قلقاً. فقال الجد :
– أنا أعرف أنها تحكي عن الغزالة البريّة. لكن جدتّك لم تر شيئاً. أنا شاهد على تفاصيل الأحداث ، دعني أقول لك يا محمود :
– أنا رأيتها في ذلك الصباح ، تتمدد على صفحة الماء ، رأيتها تخرج من الأعماق ، وتتكيء على موجات المحيط قليلاً لكي تعد النجوم.
ثم خرجت مبتلة من الماء إلى الشاطئ.
شعرت أنني أعرفها منذ زمن طويل. قدّمتُ إليها طعاماً كان معي ، فأكلت. كنت أول من شاهدها. طلبت منها أن تأتي إلى داخل القرية. لكنها رفضت. وطلبت مني أن أنزل معها إلى الماء.
خفتُ في أول الأمر ، ثم رميت بنفسي في المحيط .. وعشت معها في الأعماق شهراً طويلاً. لم يكن ذلك حلماً. لكن حال عودتي معها إلى الشاطئ ، كان العديد من شباب القرية هناك. فعانقتهم جميعاً ، أغرموا بها ، والأغرب من كل ذلك أحبتهم جميعهم.
هل قلت أحبتهم .. لا أدري فهي لم تكن تعرف الحب ، ولا الكره. كانت دون عواطف ، وهذا أغرب ما في الأمر.
تدخلّت الجدة بعصبية هذه المرة :
– كفّ عن ترديد تلك الأقاويل. لقد رآها الحاج عبد الله الصيّاد قبلك. رآها تتمطى على أغصان الأشجار ، باسترخاء مثير. ومنذ رآها في ذلك اليوم ، والرجفة لا تفارق أطرافه.
إلا أن هذا ليس الأهم في الأمر يا محمود.
فأبوك .. وقد كان صغيراً في ذلك اليوم ، كان قد رآها فراشة تغفو فوق الأزهار ، بألوانها الزاهية.
كما قلت لك .. لا يهم من رآها .. ولا كيف رآها. فتلك الغزالة البرية التي رأيتها ، فتاة ، كباقي الفتيات ، وإن كانت بجمال عروسة بحر ، أو بوداعة غزالة ، أو بخفّة فراشة. ولذلك أسماها البعض من شبابنا نورة ، والآخرون أمل. لكنها أصرت في البداية على أن إسمها صدفة.
تذكر محمود .. إن الصيادين قالوا له :
– نحن كنا نصطاد عند الفجر ، فشممنا موجة عطرية صاخبة. ثم فتاة تخرج من مياه المحيط ، رائحة لم نشمّها من قبل ولم نشمّها من بعد. رائحتها أوقفتنا عن سحب شباك الصيد.
عطر ملائكي ، جمع من زهور البراري والغابات البكر العبقة ، ونثر شذىً رائعاً حولنا. أحببنا العطر .. وأحببناها جميعاً.
إسمع يا محمود ، قال الجد :
– لقد ولدت أنت في سنة الغزالة البرية. أذكر ذلك التاريخ ولن أنساه. أما الحرب بين المدينتين فكانت في السنة الخامسة من ظهور الغزالة البرية. صحيح هكذا نسميها .. ولكني أؤكد لك أنها ليست غزالة. ولكن أهل القرية هكذا يقولون. أما أخوك أمين فقبل سنة الغزالة البرية بعامين.
تبسمت الجدة بسخرية واضحة :
– جدّك هذا يا محمود ، ممن ساروا إلى الشاطئ ، مع شباب القرية ، حاملين الهدايا ، لهذه الفتاة المجهولة. حملوا إليها البخور ، والمسك ، والعنبر ، واللؤلؤ ، والحلي ... ولكن أتعرف ماذا حدث.
قال محمود يحثّها على إكمال الحديث :
– ماذا حدث ؟ .. قولي.
– لقد هزئت منهم جميعاً ، والأغرب من كل ذلك قالت لهم إنها تحبهم جميعاً إذا ما طلّقوا نساءهم. ردّت هداياهم واحتضنتهم على الشاطئ. وكنا نحن النساء نراقب من بعيد. كنا خائفات حائرات ، لا ندري ماذا نفعل.
كنت أشم رائحة زكية ، لم أشم مثلها طوال حياتي. يبدو أن الفتاة تعطّرت بعطر سرقته من سراديب الفردوس المظلمة.
قال محمود بضجر .. يهمني أن أعرف ماذا كانت تقول لشباب القرية ، تلك الحورية أو الغزالة البرية.
تحفزت الجدة للرد ، لكن الجد قاطعها.
– دعني أقول لك .. كانت مشاعرها .. أحاسيسها مكتوبة على شفتيها منذ القدم.
– كيف ذلك يا جدي ؟
– تحدثت إليها .. لم تكن تعرف معنى الحسن أو القبح ، لا تكره ... كما أنها لا تحب. كانت تردد ما تقول .. صدقني لقد حدثتنا بلسان فصيح ، لكنها ميتة المشاعر. تلك امرأة دون عواطف أو أحاسيس.
داهم صوت علوان البحار ، ذهن محمود بقوة :
– أنا أقول لك يا محمود ، إنها مجرد فتاة مشردة ، ساحرة .. صحيح أنني لم أشاهدها. ولكني كنت في القرية في تلك الأيام التي ضجّ فيها شباب القرية وتزاحموا للبقاء قرب الغزالة البرية.
تطلع محمود إلى جدته بعينين متسائلتين :
– ولكن هل صحيح كانت تلك نهايتها؟
– نعم .. إنه شيء لا يصدق. لقد عمد الصيادون إلى شباكهم ، فاصطادوها. ثم حاروا بعد أيام ماذا يفعلون بها. وكانت تردد لهم الكلمات الجميلة التي لا تعنيها. وكما ذكر جدك .. يبدو أنها لم تعش عالم البشر ، وتعتاد مشاعرهم وأحاسيسهم.
– ولكن هل صحيح ...
– دعني أكمل ... نعم لقد نحروها في اليوم السابع. نحرها الصيادون كما تُنحر النعاج. أتدري ماذا وجدوا بداخلها؟! لم يجدوا شيئاً! كانت دون قلب وبدون أحشاء أو رئتين. مجرد غلاف من اللحم الجميل. وأضاف الجد بحسرة :
... لكننا في اليوم التالي لم نر لها أثراً. لقد اختفت. البعض يقول أن الصيادين رموها ليلاً في مياه المحيط السوداء ، والبعض الآخر من شباب القرية يؤكد أنهم شاهدودها تمشي على الماء حتى غاصت في أعماق الموج.
قالت الجدة بنفاد صبر :
ولكن قل لي يا محمود ، صارحني يا ولدي .. لماذا كل هذه التساؤلات ، بعد كل ذلك الزمن البعيد؟
تردد محمود كثيراً .. إلا أنه أجاب بتعثر :
– صأصدقكما القول .. لقد رأيتها أنا أيضاً. نعم هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها. قد تكذباني ، ولكن أقسم لكما أنني رأيتها غافيةً في حلمي ليلة الأمس.
صاح الجد بعنف ، ويده تهتز بوهن مربك :
– محمود .. هل جننت .. ماذا جرى لك. كلّمني ، لا تنظر إليّ هكذا في غباء.
– الحقيقة ما قلته لكما يا جديّ العزيزين. وأنا مبحر غداً صباحاً لكي أرافقها إلى أعماق المحيط.
1998