محمود البدوي في اوروبا الشرقية عام 1934
كانت أوربا فى عام 1934 تعانى أزمة إقتصادية طاحنة ، والرخص والكساد يعمان كل مكان ، والأزمة الإقتصادية تأخذ بخناق الناس ، وبجنيهات قليلة تعيش فى أوربا وتستطيع أن تأكل وجبة غذاء كاملة فى أفخم المطاعم بما قيمته ثلاثين مليما .
وفى خلال شهر يوليو من هذا العام ، كثرت الاعلانات فى الجرائد والمجلات المصرية والأجنبية تشجع الناس على السفر إلى البلاد الأوربية وبجنيهات قليلة . وكان أصحاب شركات البواخر من جنسيات مختلفة .. التركى .. اليونانى .. المصرى وغيرهم يتنافسون على جذب المقيمين بالبلاد للسفر إلى الخارج ، وكل شركة تذكر اسم الباخرة ومميزاتها والخدمات التى تقدم للراكبين عليها وخط سيرها والأماكن التى ترسو فيها ، وبعضها يظهر صورة الباخرة فى الاعلان بطريقة مشوقة وهى فى وسط الماء ، وبعضها يعلن عن السفر من الإسكندرية أو من بور سعيد فى الذهاب والعودة ، والإقامة فى اللوكاندات المفتخرة فى البلاد التى ترسو فيها ، ومدد الإقامة فى كل منها ، وميعاد السفر وميعاد الوصول ، وتتراوح مدة الرحلة بين 14 يوم وحتى 42 ومن الشركات من كان يزيد المـدة .
أعلنت احدى الشركات عن اسعار السفر وعلى الظهر " الدك " درجة أولى 700 قرش ، درجة ثانية 500 قرش ، درجة ثالثة 200قرش .
كان البدوى فى وفرة شبابه وفتوته ، وعمره لايتجاوز الخامسة والعشرين ، ومعه من المال ما يكفيه للطواف حول العالم سنة كاملة .
وفى صباح يوم من أيام شهر يوليو دخل مكتب أنيق فخم من مكاتب السياحة تديره حسناء المانية ، وقلب بصره فى صور البلدان ، وبعد بحث طويل واستقصاء دقيق وامعان فكر ، اختار أرض الدانوب ، وأخرج من جيبه أوراق البنكنوت ، وتناول تذكرة السفر ومعها تذكرة سكة حديد فى القطار إلى الإسكندرية ، وتحدد ميعاد السفر فى اليوم الثالث من شهر أغسطس 1934 .
واستخرج جواز السفر فى يوم 25 يوليو وحصل على إجازة من جهة عمله " وزارة المالية " ، وأخذ فى المرور على السفارات وقنصليات البلاد التى انتوى زيارتها ، وحصل على التأشيرات ، ولكن بعض هذه الدول ليس لها قنصليات فى القاهرة وقنصلياتها فى الإسكندرية كالقنصلية الرومانية ، فأرجأ التأشير إلى حين ذهـابه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة . وأرسل إلى والده فى الصعيد " عمدة قرية الإكراد مركز أبنوب بأسيوط " خطابا يطلعه فيه عن عزمه على الرحيل إلى أوربا الشرقية ولم يخبر أحدا سواه .
وأخذ البدوى يعد كل شىء ويستعد للرحيل ، فخرج يشترى حاجات السفر ، اشترى حزاما من الجلد الطبيعى له جيوب ليضع فيه النقود " كان الأجانب فى مصر فى ذلك الوقت مشهورين بصناعة الجلود واتقان الصنعة " وكان قد شاهد هذا الحزام مع الحجاج الذاهبين إلى بيت الله الحرام ، واتخذ طريقه إلى البيت ، ورتب حقيبتين ، الكبيرة وضع فيها ملابسه والصغيرة وضع فيها الكتب المترجمة من الروسية إلى الإنجليزبة ومجموعة طبعات " الباتروس " والقرآن الكريم ، ووضع النقود فى الحزام وشده على بطنه ، ولبس من فوقه الملابس ليكون آمنا من السرقة فى ليل أو نهار أثناء السفر بالباخرة والقطار والإقامة فى الفنادق .
وصل البدوى إلى الإسكندرية وخرج من القطار ، وركب سيارة إلى فندق على شط البحر ، فى محطة الرمل ، وكان سعيدا جزلا طروبا ، وفى الصباح ذهب إلى القنصلية الرومانية وحصل على التأشيرة ، وعاد إلى اللوكاندة وجمع متاعه ، واتجه إلى الميناء فى الرابعة من مساء اليوم وهو يكاد يطير من شدة الفرح ، لأنه سيحقق أمنية عزيزة على نفسه ويركب البحر وحده يجوب الآفاق .
وانتهت اجراءات السفر وحينما هم بالصعود إلى الباخرة ، منعته سلطات الميناء وكان أكثر موظفيها من الكونستبلات الإنجليز ، وكانت المفاجأة فى البداية قاسية عليه ، ولكنه سرعان ما أفاق إلى نفسه واسترد أنفاسه ، ودخل مكتب بوليس الميناء للوقوف على أسباب المنع ، فوجد والده الذى جاء من الصعيد وعمه ضابط البوليس بالإسكندرية جالسين ، وأحس بأنهما وراء منعه من السفر ، وترقرق الدمع من عينيه وسال لضياع أمله فى الرحيل ، وأشفق عليه العم " تزوج البـدوى ابنته فيما بعد " وأحد الضباط الأجانب وحاولا إقناع الأب ليسمح لابنه بالرحيل ويقوم بتوديعه ، ولكن الأب يرفض خوفا عليه من بلاد الفرنجة ، وبعد طول مناقشة ، قام الأب وغادر الميناء بصطحبة شقيقه ، والبدوى لم يصدق بأن والده سمح له بالرحيل وارتاحت نفسه واطمأن قلبه .
وعندما ركب الباخرة ، وكانت هذه هى المرة الأولى فى حياته ، سمع صفيرها يرن فى جو الميناء ويتجاوب صداها فى قلب البحر ، ورفعت الباخرة السلم ودارت محركاتها ، وتصاعد دخانها ، وأخذت فى حركة استعراضية تبعد عن الرصيف ، فصعد إلى ظهر السفينة ، واتكأ على سورها الحديدى مع الواقفين يرقب حركة المسافرين ويستقبل تحيات المودعين ، ولم يكن له مودع كغيره من ركاب السفينة .
وشعر بسرور وهو يجاوب على تحيات المودعين بمثلها ، وأخرج منديله الأبيض كغيره من ركاب السفينة ، وأخذ يلوح به فى حرارة ، والعيون تغرورق بالدمع ، وانطلقت السفينة فى عرض البحر .
ولم يصبح البدوى وحيدا منذ ركب الباخرة ، فاختلط بالركاب ، وشاهد الوانا مختلفة من الناس من كل لون وجنس ، ووجوه كثيرة وثقافات متعددة ، وتصادق مع من ارتاحت له نفسه .
ويقول البدوى فى ذكرياته المنشورة فى مجلة القصة المصرية عدد يوليو 1985" سافرت إلى كونستنـزا " على باخرة رومانية قبل الحرب العالمية الثانية .. وكان الكساد والبطالة يعمان العالم .. والأسعار رخيصة فى كل مكان ..
وكان إقلاع السفينة من ميناء الإسكندرية .. وعلى ظهرها القليل من المصريين دون سواهم من الأجناس الأخرى .
ولكن فى ميناء " بيريه " ثم بعدها ميناء " أثينا " طلع إلى ظهر السفينة ركاب جدد من كل بقاع الأرض .. فامتلأت السفينة بهم بعد فراغ ..
وعلى مائدة الطعام فى السفينة .. وجدت بجانبى شابا وشابة فى سن متقاربة .. ويبدوان كأخ وأخته .. ولكن بعد الحديث الذى دار على المائدة عرفت أنهما زوج وزوجة ، وأتلفنا وأصبحنا نقضى زمن السفر كله معا ..
ووجدت مع " خيرالله " الزوج وهو فنلندى مسلم رواية مشهورة " لأناتول فرانس " .. فزادت هوايته للأدب منى قربا .. وأصبح حديثنا فى لون جميل جذاب تتخلله مشاعر الصبا ، وأحلام الجمال لكل مانراه فى هذا العالم .
وفى " استانبول " نزلنا نحن الثلاثة ، وكان " خيرالله " يعرفها جيدا فوفر لنا البحث عن دليل .. وطفنا بكل ربوعها ومعالمها " ضلمة بفجة " و "كوبرى غلطة " وصلينا الظهر فى جامع " أياصوفيا " .
ووقفنا على البسفور ، وقال خير الله :
" إن من لم ير البسفور لايرى الجنة .. ويقصد بكلامه هذا جنة الأرض طبعا ، فتعالت جنة الآخرة عن كل وصف وتشبيه .
وانتهت رحلة خيرالله وزوجته فى " استانبول " وعدت أنا إلى السفينة وحدى لأواصل السفر إلى البحر الأسود ".
كان البدوى يتكلم بالإشارة فى كل بلد يزورها خلال الرحلة وقل أن يجد من يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية التى يجيدهما .
وفى كل بلد يحل فيها ، يخرج يتجول مع أنفاس الصباح ، يجتلى مجالى الطبيعة ، يذهب ويتحرك هنا وهناك على غير وجهة وعلى غير هدى ، يشاهد مدنها ، ويتوغل فى طرقاتها وينظر إلى حدائقها ومنازلها ، ويرمى المارين بنظرة سريعة هادئا مسرورا ، ويستعرض حوانيت بائعى الكتب القديمة والحديثة ، يقف يقرأ عناوينها ويغرق فى بحار من الفكر ، ومن مكتبة بوخارست اشترى كتب " لأوسكار وايلد ولورنس وجويس " وإذا عضه الجوع ورمق أحد المطاعم ، يميل إليه ليأكل ويجلس بعد الطعام يستريح .
وعاد البدوى من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة ، ويزخر رأسه بمئات الأحداث الصغيرة والكبيرة ، فكان لابد أن يخرجها على الورق ، وكتب قصصا استوحاها من هذه البلاد على النحو الآتى :
1 ـ الرحيل " قصة طويلة " ونشرت فى عام 1935
2 ـ دمعة .. ونشرت بمجلة صوت الإسلام 11|8|1935
3 ـ فى القطار .. ونشرت بمجلة صوت الإسلام 1|9|1935
4 ـ فندق الدانوب .. ونشرت بمجلة الرسالة 17|2|1941
5 ـ سارق النساء ..ونشرت بصحيفة الزمان 16|1950
6 ـ فى الظلام .. ونشرت بصحيفة الزمان 5|12|1950
7 ـ فى القطار .. " قصة مغايرة عن سابقتها " ونشرت فى عددين بصحيفة الزمان 19 ,21|12|1950
8 ـ غرفة للإيجار .. ونشرت بمجلة القصة 20|4|1951
9 ـ ليلة فى بوخارست .. ونشرت بمجلة الجيل الجديد 4|10|1954
10 ـ ساكن البحر .. ونشرت بمجلة الجيل 24|10|1955
11 ـ ذكريات من الدانوب .. ونشرت بمجموعة العذراء والليل 1956
12 ـ فى البحار .. ونشرت بصحيفة الشعب 21|2|1957
13 ـ العاصفة .. ونشرت بصحيفة الشعب 28|2|1957
14 ـ الغجرى .. ونشرت بمجلة الثقافة يونية 1979