«ما على العاشق ملام»
العاشق والليل والناس والصحاب
دراسة نقدية لديوان «ما على العاشق ملام» للشاعر حمدي منصور
يعني انت عارف الدواأيوة أنا عارف الدواءبس النهاردة فيا داءإني أنا عارف الدواء
من قصيدة «حوار محمد نصر يس» من ديوان «ما على العاشق ملام» للشاعر حمدي منصور، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وهذه الأسطر الشعرية السابقة تمثل مفتاح الرؤية المتضمنة في الديوان، فالرؤية الشعرية المقدمة هنا هي «التأمل» والبحث في أعاجيب البشر وأحوالهم في هذا الكون، إنه محاولة لتشخيص الداء، والوقوف على الدواء، كل ذلك في قالب شعري وفني جذاب، عماده الأساسي العامية بأسلوب البسطاء.
فالشاعر يحاول تحليل الواقع المصري ـ الريفي الجنوبي بخاصة ـ بنكهة انسانية مميزة، ويحاول موقعة ذاته الشاعرة وسط الأحداث، ووسط هذا الكون، وهذه الموقعة تتم في الديوان عبر أربعة أقسام بحسب تحديد صاحب الديوان نفسه، وهي بعناوين: «ما على العاشق ملام»، «ناسي»، «الليل»، و«حوارية إلى محمد نصر يس»، وسنحاول المضي مع هذه الأقسام الأربعة لنقف على رؤية الشاعر المتضمنة بشكل أكثر وضوحا.
القسم الأول: ما على العاشق ملام:
يتكون هذا القسم من أربعة قصائد: «صرخة» ـ «بحبك في صلاة العصر» ـ «»دوتة الحب» ـ «ما على العاشق ملام»، ولعل اللافت للنظر في هذا القسم الانسحاب التدريجي للمفهوم التقليدي حول المحبوبة من كونها "المرأة" أو "الأنثى"، بحسب ما تشير إليه التلميحات الأولية، إلى معناها الرمزي بكونها "الوطن"، ويتم ذلك بشكل صريح عندما يقول الشاعر في قصيدة «باحبك في صلاة الفجر»:
باحبك في صلاة الفجريا مصر يا أمي يا يا أطهر حجربأدوق المر ساعة الليلوساعة الليل دي ساعة هجر
وعند وضع هذه الصورة بالمقارنة مع الصورة العاطفية الصريحة التي قدمها لنا الشاعر في القصيدة الأولى «صرخة» عندما يقول:
حيبتي شالت
من خدودي خدودها
وكنت حاسس بالدفا
وخدودها لتمة صوف
ومنقد فحم
ولحاف غزير اللحم
إذن أسس الشاعر لرؤية "المحبوبة الأنثى"، ومضي ليذبذب هذا المفهوم أو على الأقل ليخلطه بالمحبوبة الوطن، لكن مع الوصول لقصيدة «ما على العاشق ملام» وهي القصيدة التي يستمد الديوان منها عنوانه، يترسخ المنظور الوطني، فيحل محل المنظور العاطفي، يقول الشاعر:
وأنا المليان شجر أخضررح أقدر يوم أنساكيوأغلق بابي .. شباكيونجم الليلوست الدار وانتي غنوتي الخضرا
إنها مجموعة من الصور المتسلسلة المتراكبة التي تُقَدَّم معا، ولا يخفي المعادل الموضوعي للشجرة كرمز للوطن، وكذلك المعادل للقلب المليء بالشجر الأخضر، أي المليء بالمحبة والأمل المنتظر لهذا الدار ـ هذا الوطن، إن هذا القسم بكل قصائده يمثل انتقالية تدريجية وتوطئة أساسية للمضي في قصائد الديوان، إن الشاعر هنا ما يزال متفائلا منتظرا للخير، أو يبشر به على الأقل ، يقول:
وانتي يا نبقايتي يا شجرة غنايورقي .. ورقي ..زقزقي .. زقزقي..دا انا تقيمش فقي!فافردي فوقي الملايةواحفظي الاحلام معاياولا تنامي ولا أنام..ما على العاشق ملام!
القسم الثاني: ناسي:
مع المحطة الثانية في الديوان نتساءل: هل ما يحدث هو تأسيس لمفهوم الأنا في مواجهة العالم، أم مفهوم العالم من منظور الأنا؟ أي هل الشاعر مهتم بذاته كمعادل موضوعي للعالم كله، وهي نظرة نجدها أحيانا منتشرة عند بعض الأدباء الذين يجعلون من أنفسهم ذاتا تقابل كل ما يتحدثون عنه في كتاباتهم، أم أن ذات الشاعر تتواري لتقدم العالم من خلالها؟
يقول الشاعر:
ناسي فقرافقرافقرايرضعوا بالليل من بز القمرةيطلعوا بنهار يبقوا شعراناسي فقرافقرافقرا
إذن الشاعر مهتم أكثر بموقعة المجتمع الذي يعيش فيه، مهتم أكثر بتحديد الواقع الذي يرتهن إليه هؤلاء الفقراء، ليحاول الشاعر تأسيس ملحمة كونية لهؤلاء المطحونين، إن الذات الشاعرة تتواري لتبرز لنا الذات المصرية، إنها الذات التي جاءت من زواج النيل والشمس، فكانت ولادة «عبد المعين»، ذلك الفارس الذي لا يجد له أهله طعاما، فيسقوه (الحواديت)، ويرضعوه لبن الغنا.
لكن قفزة سريعة تحدث مع انتقال الشاعر إلى «الغريب»، يقول:
في الصدر خنجر دموفي الوشوش العدموفي العيون الخوفوعدم الشوفوع الخدود دمعة ندم!
هل «الغريب» و «عبد المعين» بعدما كبر وصار يشعر بغربته في هذه الدنيا القاسية؟ إن بداية تعميق الرؤية التأملية في الديوان تبدأ مع هذه القصيدة: «الغريب»، يقول الشاعر:
الشارع قناديل صدت من عفن الناسوانا ماشي فـ راسي خبطة فاسجوايا صوت عجلات القطر ع القضبانبرايا / قداميورايا خطوة ديدبان.
إنها تعرية للواقع الجاف، وكأننا في القصائد السابقة كنا نشاهد طفلا صغيرا يشدوا في لفحة هجر، ثم بعدما أصبح شابا فيلسوفا ها هو يكشف لنا عن جوانب الحياة المرة، إن الخطاب الشعري هنا يكتسب مرارة في القول، وجرأة في الايضاح عن مكنونات النفوس، إلى أن ينته الشاعر لنهاية قاسية جدا، عندما يقول:
الزمان دا ...مش زمانيوالمكان ..ما هوش مكانيوالغيطان دي مش غيطانيوالأدان دا مش أدانيواللي ضاحك دا أزانيالزمان دا ..مش زماني.
إنه ليس تمردا على الكون بقدر ما هو اغتراب واستسلام لعدم المواجهة، إذا كان الإنسان يعيش في زمان ليس زمنه، فما المطلوب منه أن يفعله؟
ويبدو أن احساسا ما تسرب للنص بأن هناك افراط في الرؤية التأملية حول الكون، فأراد الشاعر أن يخفف من ذلك، فجاءت قصيدة الولد، تلك القصيدة التي بدأت بداية توحي بأنها تؤسس للرؤية الصعيدية حول الذكر، ذلك الذي هو مسار الحسد والعين، وذلك الذي يجب أن تراعيه أمه وتتباهي به بين الناس، وهو يتزين ويتبختر ويتمايل بالشال وساعة البندر، ويجدر بنا أن نلتفت للصوت النسائي الذي صارت القصيدة تنطق عنه، فالمتحدث هنا أنثى، أنثى سرعان ما نكتشف أنها تفوق من حلمها المكنون، لتلامس أرض الواقع من جديد، يقول الشاعر:
شدي شعرك يا ولية وهاتي لنا الولد ..عدي الشهور بالعدالأب عايز الولدوالأم عايزة الولدوالعيلة عايزة الولدطاب الولد يا ولد بالعافية والشدةولا الولد بيجي لما تكمل العدةلأ .. دا الولد بيجيلما تكمل العدة !!
عاد من جديد شاعرنا للرؤية المتأملة الباحثة في الكون، للرؤية الاجتماعية التي تحلل منطوق الجميع وتنظر للجميع، ليتوارى الشاعر خلف هذه التحليلات المنطقية، تلك التحليلات التي تخف قليلا مع قصيدة الأم، لتعود من جديد للظهور في قصيدة بطاقة شخصية:
ومنين انت يا اسمريا ابو الدراع مقلاعيا ابو الجفون شطوطوالمراكب في وداعـ أنا من هناك ..بلدي صبية سمراوية عفيةقمرة على الشباك
إذن سرعان ما ينزع الشاعر للحديث عن بلده وعن أهله وعن وطنه، سرعان ما يرغب في توصيف بيئته وبيوت الطين وأكواخ السبايت وغيرها، وسرعان ما يؤكد على الغربة الشديدة التي يعيشها الإنسان في هذا الكون:
مغنايا يرد العقل الغايبالشاب اللي أصبح شايبوالغربا التايهينويشد البني أدمين.
إذن مع نهاية هذا القسم نجد أن المحبوبة الأنثى توارت تماما في الخطاب، وتأكدت المحبوبة الأم، والمحبوبة الوطن، ويمكن القول بشكل أو بآخر المحبوبة "الفقرا"، هي التي ستستمر معنا في القسم الثالث.
القسم الثالث: «الليل»:
يحتوى قسم الليل على 8 قصائد، هي: «الليل وحوار الخندق» – «الليل» ـ «الهلال» ـ «»كوام التراب» ـ «قمرك اخضر» ـ «بلدنا» ـ «يا فجر» ـ «أغنية الخلاص» ـ «صلت»، ومن الملاحظ أن عدد قصائد هذا المحور أكثر من عدد قصائد باقي المحاور، بينما المحور الذي يليه هو الأكثر من حيث عدد الصفحات وعدد الأسطر الشعرية، فهل لهذا دلالة ما؟ سنستعرض ذلك معا:
واهو جبل الليل الأسود جوه الخندقطرحة امي السودا على كتفينالولا فتيل القنديل ما تفسرنا من بعضيناولا تعرف ده من ديّه
إنها تدوينة الشاعر عن حياته الجندية، عن (البرنجيات) التي هي دورية أول اليوم في الحياة العسكرية، إنه ايهام من الشاعر أنه فقط يدون ذكرياته الشخصية، لكن مع المضي للقصيدة التالية: (الليل) سنجد أن الشاعر يدون تأملاته وليست حياته، إنها (روح الاغتراب) التي ولدت من قبل، التي بعد أن عرفت الفرح عرفت التأمل، يقول الشاعر:
وكام من الأحلام بتحضن البيوتوبيوت بتحضن في العبادوعباد بتحضن في السكوتوعيال بتحلم بالنهار والشمسوتجري في الدروبوتلعب بالحصى والطوبوتغني حكاوي الهمس
فالتوجيه والاختزال المقدم هنا أشبه برسم دراما كبيرة عن حياة أولئك البسطاء الذين لا يملكون من الحياة إلا الحلم، إلا الألم والأمل، ويسيران بهما معا، فالصورة الشعرية (وعباد بتحضن في السكوت)، تشكل هالة رقيقة من التعبير الفني حول مقدار ما في داخل (العباد) من ألف سبب وسبب يجعل الأولى بهم الصراخ والصوت العالي، لكنهم يتمسكون بالصمت، يحضنون الصمت ويطبقون عليه خشية أن يعرف الأخرون ألمهم ووجعهم.
ويكثف «حمدي منصور» من الصور المقلوبة، التي تحول الكون لطيور، ففي قصيدة (الهلال)، والتي من الملاحظ ترتيبها المنطقي بعد الليل، يأتي الهلال موصوفا بأنه (بيضة بيضاها السما)، ثم يتم الانسحاب التدريجي لهذه الصورة لأصل الكون : الرجل والانثي: ((اجل وحرمة / بنت ولد)، وبقدر كبير من المخاتلة يتحول الهلال لمراقب يحلل ويبحث عما يفكر فيه أهل هذه القرية، فيرصد الهلال ـ ولاحظ معي الصورة المقلوبة فبدلا من أن يرصد البشر الهلال اصبح الهلال هو من يرصد البشر، فينظر الهلال (للعيال اللي بلون التراب)، وينظر الهلال للغيطان، وينظر للعجوز وللعمدة عالي المقام، ويحظى شاعر الربابة بمكانة متميزة من بين كل البشر الذين يراقبهم الهلال، وفي خاتمة القصيدة يؤصل الشاعر لمقدار الانشغال (بالحبل)، (وخلفة الولد) ومفهومها عند المجتمع الذي يتحدث عنه، يقول:
(فكرية) عدى عليها الحبلووليد (قدرية) نزت عيونه ميت السبلو(هدية) جاها الحيض .. عليها العادة،(قدرية) عيالها بينزلوا عميكفاياها بزيادةطلع الهلال .. شاف العيالشاف العباد بزيادة.
وفي نفس الاطار تمضي قصيدة (أكوام التراب)، التشبيه المقلوب، فالليل مرمي على البيوت والغيطان والفساقي، لكنه يتحول لكائن حزين على (الميتين)، ويلتف الليل بالبشر مثل السوار محيطا بالقبور، وفوق المشرحة، ثم يتم الانسحاب تدريجيا من كل هؤلاء إلى نظرة للأنثى، تلك الأنثى التي تستبيح البيوت الكلام عنها، يقول الشاعر: والبنت بنت بنوت/ خايفة كلام الناس/ وكرابيج البيوت!
وفجأة يقطع هذه الصور الحزينة القمر، إنه (قمر أخضر) بحسب وصف الشاعر، وهو قمر خاص بالبلد، قمر بينه وبين الشاعر أسرار ومواويل، فهو يسمع ويردد ويغني وراء الشاعر قصائده، إنه الوحيد الذي يعلم مقدار ما يقوم به الشاعر من تأليف ممتد منذ رضاعة اللبن من الأم، إلى أن أدرك معنى طين الأرض، ويتم التأكيد على محبة الوطن، تلك المحبوبة التي يتشارك الشاعر والقمر فيها الحب. وتعد قصيدة (بلدنا) امتداد لما سبق في وصف الحياة الريفية ووصف الفقر في بيوت البوص، أو البيوت التي لا تمتلك حتى أسقف البوص، لكنها تمتلك الكثير من الحكايات والأسرار والشبق فبها الغوازي والحلب والغجر، وهو ما يؤكد حرص الشاعر على اثبات تأريخي اجتماعي بوصف تفصيلي لما يدور من حوله، وأيضا قصيدة (الفجر) لا تبعد عن هذا المدار.
لكن قصيدة (أغنية الخلاص) رغم ما بها من تكثيف إلا أنها تفتح الذهن نحو أفق أرحب مما سبق، إنها نقلة نوعية لريف الإسماعيلية، والمقارنة بين طلق الولادة وطلق الرصاص، وتلك الأم التي تحتمل أن تكون أم المولود التي تطلب الخلاص من وجع المخاض، أو الأم مصر التي تطلب من أبنائها الخلاص مما وصل له حالهم؟ وهو ما يتأكد في قصيدة (صلّت)، يقول الشاعر:
صلت .. صليت وراهاصرخت كنت فـ حشاهاغنت غنيت معاهاصبحت هيى العشيقةوأنا العاشق هواها.
فهنا المخاتلة بين الصلاة وراء تلك المرأة، ثم التحول لمولود في أحشائها، ثم التحول لعاشق ومعشوق لها، إنها المزاوجة المستمرة منذ بداية الديوان بين الأم والوطن، والمزاوجة بين الصور الشعرية التي تستلهم الحياة من حولنا وتشعرك بالنشوى دون أن تجد شيئا ماديا تقبض عليه في يدك، يقول الشاعر مشخصا حبه لهذه الأم الوطن:
باحبك زي بكرةوزي نسيم العصرلما يلملم الذكرىوزي ربيع اللي جايورق أخضر وناعيضحكة في لمة عيالباحبك زي ا لرياح القويةوزي الوشوش في ساعة السفريةزي العيال في العيدوالفرحة بالعيديةباحبك
الملاحظ أن أغلب الحديث عن الفرح في السياق الشعري المقدم هو حديث عما هو قادم، أما الحديث عما هو قائم فهو حديث عن الحزن الشديد، وعن الألم، لكن "بكرة،" و"نسيم العصر"، "الربيع اللي جاي" هي محددات الأمل في الغد، إنها نظرة ليست تشاؤمية لكنها واقعية، تأمل في رحب التفاؤل في الغد الذي ربما يمكن الشاعر من الفرحة، ويحقق له الظفر بالعيدية.
القسم الرابع: حوارية إلى .. محمد نصر يس
إذن يعلن الشاعر أن هذه المجموعة من الأشعار موجهة للفنان والأديب الراحل «محمد نصر يس»، ابن قرية الحميدات بقنا، الكاتب المسرحي والقاص والممثل الذي رحل عن عالمنا في 7/4/2007م، والذي كان على قيد الحياة وقت صدور الديوان وفق دلائل كونه مدير التحرير لهذه المجموعة، فماذا يريد أن يقول شاعرنا لمحمد نصر يس، أو بماذا يريد أن يحاوره؟ وهو الجزء الأكبر من حيث الكم الشعري من قصائد المجموعة، والجزء الأكثر عمقا على ما سيتضح.
في القصيدة الأولى، والمعنونة بـ «محمد نصر يس»، يصف الشاعر «محمد نصر يس»، فكأنما الليل هو من ولد هذا الولد، بل بأسلوب ساخر، وصورة مقلوبة أيضا يقول:
وكأن الليل جابه ونسيهأسمر وطويلوكأنه نخيلوالتوهة في نني عينيه
إلى أخر هذه الصور المقلوبة التي تجعل الشموس في أكف يديه، لكن سرعان ما يتم التأكيد على تغريب («محمد نصر يس» عن مجتمعه، وكأن هذه صفات المبدعين عند الشاعر، يقول الشاعر:
و«محمد نصر يس»
يسأل لياليهوبيرمي سؤاله لحالهما يردش حاله عليهعايش في النجع غريبلا صديق ولا صدر حبيب
وبعد عدة اسطر يوضح الشاعر نوع الغربة التي يقصدها:
ـ أصعب غربة يا صاحبيلما تعيش بين أهلكوكأنك شخص غريب!
ألسنا كلنا في عالم الابداع هو ذلك الرجل؟ ألسنا جميعا كتاب ونقاد وشعراء ومؤلفون نعيش وسط أهلنا وناسنا وكأننا أشخاص غرباء؟
إنها إذن محاولة لخلخلة السائد للانتقال لما هو صحيح، إنها رغبة الشاعر في تبصير الناس بما يجب أن يعرفوه، فهو لا يمتلك مهارة المدح، وإنما مهارة التبصرة، يقول:
الشاب مثل المسيحبيتصلب في اليومفي كل ساعة تعديوانا حتى ما اعرفشي امدحبس اعرف اصيحكديك يأدن ساعة الفجريةيا بلدنا يا مسكينة.
ذلك يجعلنا نتساءل: ماذا يؤرقك أيها المبدع الفنان؟، ماذا يضغط عليك بهذه القوة ليجعلك تصيح؟ وتأتي الاجابة في قول الشاعر:
صوت الغلابة بيتقتلوصوتك انت اتقتللما اتقتل (زهران)يا شمس عودي بالنسيم للعيدان.
بهذه الصورة المكثفة يحدد الشاعر سبب معاناته، إنه الحزن العميق على الفقراء الذين يتم اغتيالهم واغتيال صوتهم، إنه المزيج بين الحزن على حال الوطن، والحزن على حال الفقراء في الوطن، ويجد الفنان والمبدع نفسه مضطرا لأن يكون هو الصوت لهؤلاء الفقراء، فالمبدع يموقع نفسه إما أن يكون صوتا للأغنياء، بائعا لضميره وبائعا لقيمه فيكون لصيق المصلحة ومادحا للأغنياء وفق المصلحة، أو أن يكون صوت الفقراء، محاولا محاولة اخيرة أن يكون هو ذلك الصوت لهؤلاء الأشقياء.
وينتقل الشاعر من التعريف بـ«محمد نصر يس» إلى حوار «محمد نصر يس»، فما الذي يود أن يقوله المبدع لمحمد نصر ، فلنحلل ولنرى:
تبدأ القصيدة بتحليل حول الفقر والغنا، حول الريف الذي يعدد قوة العائلة بعدد الرجال ورأس المال، بالعصا وعدد البنادق، ورؤوس المواشي أيضا، لكن سرعان ما ينحاز الشاعر لاختياره الذي اختار أن يعبر عنه، يقول:
طب والعيلة الغلبانةالفقيرة الجعانةاللي ما تملكش في الأرض ولا اللضاغير السما والفضاحتى بناتها ميتجوزوش ولاد الغنايحتى ولادهاخدم عند الناس الغناي
ألم أقل أن نظرة التحليل والتأمل هي المهيمنة على هذا الديوان، أليس هذا تحليل اجتماعي بامتياز يسمح لنا أن ننقل رؤية جورج لوكاش حول الرؤية للعالم، وحول المنظور الذي يستخدمه المؤلف لتحديد وجهة نظره في الكون إلى هذا المقام الذي نحن فيه.
يقول الشاعر:
بلدي مريضة .. مريضةمحتاجة لـ دوالطب غير أطبا الهوىغير أطبا العطارينوالبياعين والقوالين والدوايعني انت عارف الدواأيوه أنا عارف الدواءبس النهاردة فيا داءإني أنا عارف الدواءبس النهاردة ع السريرمطروح ومحتاج للعلاجعلشان أبوح بالدوا
إنها مجموعة الأبيات التي انطلقت منها في بداية دراستي هنا، والتي رأيت أنها تمثل الرؤية المفتاحية لهذا الديوان، إن الشاعر بعد هذا الاستعراض لتلك الملحمة الكونية التي حلل فيها الحياة، وجد نفسه منفردا هو ومحبوبته الوطن، ووجد نفسه مضطرا أن يكون صوتا للفقراء، ولكن يبدو أن الحمل فوق الاستطاعة، وأن أمل التغيير وعر، وأرض الصدق مليئة بالأشواك، بعكس أرض الباطل المفروشة بالورود والجوائز، كما يبدو أن الداء ليس في الأغنياء فقط، بل ربما الفقراء أيضا لهم دور في أنهم فقراء، كلها اشارات تلمح اليها تلك الكلمات البسيطة التي يمكن أن تستخرج منها ألف كلمة وكلمة، فشاعرنا الذي لم يفصح إلا بمعرفته للدواء ولم يوضح لنا ما هو الدواء، بل يوضح لنا أن معرفة الدواء لهذا الداء العضال الذي ألم بالناس هي معرفة يصحبها لعنة، يصحبها مرض وإعياء وتعب على السرير، فما إن يعرف المرء الدواء، حتى يصاب هو بداء أخر.
ووفق هذه النظرة فإننا سنعتبر أن القصيدة الأخيرة في الديوان «محمد نصر يس» هي محاولة الشاعر بأن يتغلب على الداء الذي أصابه، إنها الطريقة الوحيدة أمامه لأن يخرج من المرض، فلس أمامه سوى أن يغني، لكن ماذا يقول في أغنيته:شبابيك في قلبي آه يا قلبي شابابيكلو تنفتحتطل منها طيور خفيفة كالنسيمبجناحات بيضا صغيرةيبدروا في الأرض حب الحب مغنىيصبحوا الأطفال يغنوا ترانيم
ترى هل هذا هو الدواء الذي وصل إليه الشاعر ويضن علينا بالقول به، فجاءت أبياته لتظهر ما يخفيه، هل الحل في الحب، في إزالة الكراهية والبغضاء والتنافس بين الناس؟
فلنكمل مع الشاعر:
يا عيون غلابة الحي يا أصحابيأنا في قلبي ضيعايز أمد أيديا للميتينبض ويصبح حيعايز يطيب الني
يبدو أن هذه القصيدة تفضح الكثير مما أراد الشاعر أن يواريه، فالرغبة العارمة في احياء الميت، في تحويل الني إلى مستوى، كلها اشارات تحرك الذهن ناحية الواقع المرير الذي نعيشه، ذلك الواقع الذي يبدو أنه أسر حمدي منصور بشباكه، ولم يستطع حمدي منصور أن يخرج منها، لأنه، وهو في حالة غناه، سرعان ما يعود لذلك الواقع فيقول:
النيل اهو نايم وبيشخر زمانمليان بلهارسيا وانكلستوما وديدانوفـ جوفه غطسانين عيال عريانينعيال ممصوصين زعازيع من عيدانوالنيل اهو نايم عويل مرضانثم يستمر في تقديمه دفقه الشعري ليصل لقوله ـ قاصدا مصر ـ:يا جميلة يا بنت بنوتفيكي البكارة متوحشة النبوتإن رؤية التحليل والتأمل تصل لأقصى مدى عند الشاعر عندما يقول:بنشيعوا الميتينولا نسألوش بعضينا ماتوا ليهوكل واحد فينا بيغمض عينيهويكتف ايديهونخجل من الخجلونرد على عجلونقول دا أمر الله.
إن قدرة الشاعر على احتواء مثل هذه الأمور الفلسفية في قالب من قوالب العامية لهي أمر يستحق الاشادة والتعجب، ففي كلمات بسيطة يطرح الشاعر رؤى عميقة، وفي رحلة عبر الأقسام الأربعة داخل الديوان كأنك مررت بملحمة كونية شاملة عن الحياة الريفية، بل قل عن الحياة الإنسانية، مشدودا برؤية منحازة لأولئك الفقراء الذين كان قدرهم أن يأتوا للدنيا فقراء، ليجدوا أنفسهم خداما لدى الأغنياء، بينما الشاعر كان يملك الاختيار، أن يكون شاعر الفقراء، أو شاعر الأغنياء، لكنه اختار الانحياز للفقراء، ذلك الانحياز الذي نتج عنه تغربه عن المحيطين له، فا أصبح ما يشغله غير ما يشغلهم، وعندما تعمق في الرؤية والتأمل، وصل لمعرفة الدواء لعلاج المشكلات التي يراها، وهو الدواء الذي أرجح أن يكون نشر الحب بين الناس، فالشاعر بخل علينا بهذا الدواء، ولكنه بخل المجبر بعدما أصابه الوعثاء والإعياء، فما عاد قادرا على البوح للناس، ولأن شاعرنا لا يعرف إلا الغناء، ذهب يغني، لكنها أغنية ذات ترنيمة كونية، تساءلت عن الحياة والموت، وعن الوجود والكون.
وأخيرا يبدو أن الشاعر في محاولة الاستغاثة مما هو فيه يطلب من صديقه الذي أهدى له هذا القسم من القصائد أن يغن، فالقصيدة الأخيرة تحمل عنوان «محمد نصر يس»، لتؤكد على أن الفعل الأساسي الذي يلمكه الشاعر في مواجهة هذا الكون هو تلك الترانيم والأغاني التي يقدمها، وكأنما الشاعر يرغب بسماع ماذا يقول صديقه عما ألم به، إنه يتخيل ردة فعل مبدع أخر حول المعاناة التي يعيشها كل المبدعون المخلصون، والمفاجأة أن تأتي مؤكدة على استمرار سماع أصوات الفقراء، وعلى تأكيد استمرار التحليل والتأمل والنظر في الكون بحثا عن تلك الأشياء التي تمنع الفرحة والبهجة، يقول:
صوت القطط في الليلأطفال بتصرخ .. بتبكيهمس البنات في النيلمزمار في قلبك .. وسنكييا أبو الغنا عياييلصاحي في بحر المنامةبتلف زي الحمامةفوق اليتامي ..وتحكي
هكذا إذن يستمر قدر الشاعر في الكتابة عن صراخ الأطفال، وعن اليتامي وعن همس البنات في النيل، وهكذا تستمر رغبته في الحكي عن وإلى هؤلاء، عسي يوما أن ينجح الدواء في القضاء على الداء، داء الفقر والوحشة، داء الحزن والهم.