ليس دفاعا عن العروبة لكن إظهار للحق
طالعت فى أخبار الأدب الغراء (8 فبراير 2004) مقالا للأستاذ محمد البدرى بعنوان "المصريون ليسوا عربا" يتضح منه سعى الكاتب إلى تخرج الهوية العربية عن وطنه، "والتمسك بأصل وهوية مصرية هى أعمق وأرقى". المقال رافد فى تيار بدأ اصطحابه غداة العدوان الأمريكى على عراقنا الحبيب، وقد وصل هذا التيار إلى حد أن يحاول أحدهم بعث اللغة المصرية القديمة، باعتبار اللغة العربية لغة غربية عنا، أتى بها غزاه غرباء عنا.
وليس الهدف من مقالى هذا هو الدفاع عن العروبة، إنما الهدف هو توضيح ما عليه أعداء العروبة وخصومها من تهافت فى أحيان، وما هو أكثر من التهافت فى أحيان أخرى.
يبدأ الكاتب مقاله بالحديث عن الأهرامات، والفرية التى روج لها كاتب مصرى بأن بناتها هبطوا من السماء، والفرية الأخرى التى روج لها بيجين بأن بناتها هبطوا من إسرائيل، وكيف أن الرئيس المؤمن وقف من هذه الغربة الأخيرة موقفا سلبيا، وشاركه هذا الموقف السلبى "القوميون والعروبيون وجميع المؤمنين بالديانات السماوية الثلاث على اختلاف مشاربهم". وما يذهب إليه الكاتب غير صحيح فقد تصدى للإرهابى الصهيونى والكاتب المصرى معا مصريون قوميون وعروبيون ومؤمنون أجل من أن أحصيهم.
يعزو الكاتب السبب فى شيوخ هذه الغربة تلك إلى موقف الإسلام من التراث القديم، ومنه التراث القديم باعتباره تراثا وثنيا، وموقفه من الفراعنة - فراعنة الكتب المقدسة- باعتبارهم قوما وثنيين، ومن ثم يجد المصرى نفسه فى حيرة من أمره، فإذا هو دافع عن هذا التراث واعتز به "يصير فى موقف لا يحبذه الدين" فيصمت أو يبرأ من تراثه، و يتيح الفرصة لمن يختلسه أو يدعيه.
منطق ساذج.. أليس كذلك؟!
يا هذا.. أذكرك ببدهية، تقول بأن العرب المسلمين أقاموا حضارتهم على عمد، يعود بعضها إلى عصور الوثنية، أليسوا هم الذين حفظوا العلوم اليونانية (الوثنية) وأضافوا إليها، لينهل منها الأوربيون فى عصر النهضة، أذكرك كذلك بأن التنزيل العزيز يحمل على الفرعون (أى الملك) لأنه لم يؤمن برسالة النبى (موسى عليه السلام أو غيره من الأنبياء)، ولا يمكن أن يستخرج من هذا التنزيل حملة على المصريين ولا على حضارة المصريين.
فى هذا السياق يسخر الكاتب من الخليفة المأمون، ويأتى بحكاية، لا ندرى مدى صحتها، هى إنه عند مقدمه إلى مصر، أمر أحد أتباعه بقياس مساحة الهرم، فحددها بمبرك ثمانى جمال، ثم يعلق- أى الكاتب- "هكذا تقاس المساحة عند الخليفة العباسى فى بغداد، حيث بيت الحكمة ومنبع العلم العربى والحضارة الإسلامية، إذا قارناه بعلوم مدرسة الإسكندرية، حيث إقليدس واضع أساس الهندسة كما نعرفها اليوم..". وينسى، والأرجح يتناسى أن من علماء بيت الحكمة فى زمان هذا الخليفة، من قاس محيط الكرة الأرضية، وجاء قياسه على نحو يكاد يتطابق مع ما وصل إليه العلم الحديث فى عصرنا هذا الحديث.
الغريب أن الكاتب يردد بدوره فرية، مفادها أن العرب لدى فتحهم مصر أحرقوا مكتبة الإسكندرية القديمة.. وهذا دليل فادح على جهله بتاريخ وطنه، فحرق العرب لهذه المكتبة كذبة كبيرة، تم فضحها على نحو قاطع قبل مائة عام أو يزيد، وحتى لا يتهمنى الكاتب بالعوربة أو الأسلمة، أقول أن الذين قاموا على فضح هذه الكذبة مؤرخون أوربيون كبار، لا نسب لهم فى عدنان ولا قحطان.
الأغرب أن الكاتب يوحد بين مفهوم العروبة ومفهوم البداوة (ويضع العرب واليهود جميعا فى سلة واحدة باعتبارهم بدوا) ثم هو يؤسس على هذه البداوة زعمه بأن العرب لم يعرفوا الاستقرار الذى يؤهل لقيام الحضارة، ولم يتوافر لهم تراث معمارى ضخم كالذى توافر لأجدادنا المصريين القدماء.. وكل ما خلفوه قبل إسلامهم تراث شعرى أثبت انتحاله طه حسين فى كتابه "فى الشعر الجاهلى".
الكاتب يذهب بعيدا فى شططه، فقد عرف أجدادنا العرب البداوة وعرفوا كذلك الحضارة، وأسسوا دولا، بعضها كانت دولا كبيرة فى زمانها، كما عرفوا التراث المعمارى الفخم، وإن لم يصل فى ضخامته إلى تراث أجدادنا الفراعنة، ولدينا فى بلاد اليمن شواهد شتى على هذا التراث (هياكل صروح، وقصر غمدان، وسد مأرب وغيرها) ثم أن ما ذهب إليه العميد مع إجلالنا له، ذهب إلى نقيضه آخرون نجلهم كما نجله، بينهم شوقى ضيف وناصر الدين الأسد، أطال الله فى عمريهما.
وعلى ذكر الشعر الجاهلى، فالكاتب يفسر بكاء الشاعر على الأطلال، بأنها تذكره بالاستقرار الذى يتوق إليه. وهذا ليس صحيحا، فالشاعر يبكى على الأطلال، لأنها تذكره بحبيبته التى رحلت وخلفت له لوعته وأساه، وهو ما نلاحظه فى مطلع معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل.. وفى مطلع قصيدته الشهيرة:
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالى.. وهل يعمن من كان فى العصر الخالى.
الكاتب -إلى ذلك- يتعامل مع التاريخ على نحو انتقائى، شاهدنا على ذلك حكايته عن الخليفة المأمون إبان مقامه فى مصر و هاك شاهدا آخر، فهو يحكى عن محاولة لهدم الهرم تنسب إلى أحد ملوك الأيوبيين، ويعلق: "ذلك هو موقف القادمين بالدين الجديد من هذا التراث".
ونرد بأن هذه المحاولة على افتراض صحتها، ما هى إلا حادثة مفردة، لملك من عشرات الملوك وربما مئاتهم، الذين حموا مصر خلال تاريخها الألفى الطويل، وليست ظاهرة عامة، وإذا نحن نهجنا نهج الكاتب فى تعميمه، لوصمنا هؤلاء الملوك جميعهم بالعته، لأن أحدهم -وهو الحاكم بأمر الله- كان فى أرجح الأقوال معتوها.
لا يتوقف الكاتب عند هذا الحد، فإذا نحن غضضنا البصر عن وصفه الفتح الإسلامى بأنه غزو، وغضضنا النظر كذلك عن وصفه بعض ملوك الأيوبيين بأنهم طواشية (طواشية معناها خصيان، ولم يكن أى منهم خصيا) فإننا لا يمكن أن نغض البصر عن وصفه الإسلام بأنه "الطور الأخير للديانة العبرانية" أليس فى هذا الوصف، استفزاز لمشاعرنا الدينية، وتبرير لدعاوى من يدعون بالإرهابيين.
بعد هذا القدر الهائل من التعميمات والمغالطات والأحكام الظالمة المرسلة، يأتى الكاتب بفقرة، أوردها كما هى، ثم أعلق عليها.
يقول: "معروف أن" الشعر هو مقياس الفصاحة والتمكن اللغوى، ذلك إذا كانت هناك حياة شعرية، فأقدم شاعر مصرى هو محمود سامى البارودى، أى من 120 عاما فقط، ثم تأتى باقى القائمة العريضة فى هذا القرن فقط. أما منذ مجيء العرب وحتى الثورة العرابية، فهناك ندرة شديدة فى هذا المجال، منهم عمر بن الفارض، ابن سناء الملك، ابن قزمان، والبهاء زهير، ولم يتعد زمان آخرهما عام سقوط بغداد، (وأسمائهما الصحيح وأسماؤهم) تدل على جذورهم العرقية من خارج مصر، وكثير من أعمالهم ليس لها من الشيوع، ولا يذكر أحد شاعرا طوال ال 700 عام التالية وحتى البارودى، فأين السيادة اللغوية لعروبة المصريين التى يمكن التعويل عليها، بأننا عرب طوال اثنى عشر قرنا. أما فى الأوساط الرسمية فلم تضع اللغة نفسها فى التعليم إلا مع قرار وزير المعارف سعد باشا زغلول وفى الحياة العامة إلا مع قرار وزير الشئون الاجتماعية عبد الحميد عبد الحق وفى المحاكم وأمور التقاضى إلا مع المستشار عبد السلام ذهنى بك".
– الكاتب يجعل البارودى أول شاعر مصرى، باعتبار أن من سبقه من شعراء، يعودون فى معظمهم إلى أصول غير مصرية، وهو هنا يناقض نفسه فالبارودى نفسه من أصول غير مصرية (جركسية) وكذا كانت حال شوقى، فهو من أصول كردية.
– ومع ذلك فنحن نقول بمصرية البارودى ومصرية شوقى ومن سبقهما من شعراء، لأن المصريين لا ينتمون إلى عرق واحد، إنما هم ينتمون إلى أعراق شتى، وإن كان العرق المصرى القديم والعرق العربى هما العرقان الأساس.
– وعلى ذلك فابن الفارض وابن سناء الملك و البهاء زهير وغيرهم ممن لم يذكرهم الكاتب شعراء مصريون وبعضهم شعراء كبار.
– وبهذه المناسبة، فابن قزمان الذى يجعله مصريا ليس مصريا، إنما هو أندلسى، ولد بالأندلس ومات بالأندلس، ولم تكتحل عيناه بمرأى مصر ولا أوطان أخرى غير مصر.
– وليس صحيحا أن كثيرا من أعمالهم لم يقدر لها الشيوع، ويكفينا التنويه إلى "تائية ابن الفارض" (760 بيتا) وقد كتب عنها ما لا أحصيه عددا، والتنويه كذلك إلى "دار الطراز" لابن سناء الملك وقد وضع فيه عروض الموشحات ونظامها، كما وضع الخليل عروض الشعر ونظامه.
– وهناك أسماء أخرى كبيرة نسيها الكاتب وربما تناساها، منها البوصيرى صاحب البردة التى ترامت شهرتها إلى عصرنا، مما أهم أمير الشعراء وشعراء كثير غيره إلى معارضتها، منها كذلك حطان بن المعلى صاحب القصيدة الجميلة فى حب الولد التى يقول فيها:
وإنما أولادنا بيننا.. أكبادنا تمشى على الأرض.
– ومن هذه الأسماء من كانوا ينتمون إلى أرومه قبطية صريحة، ويحضرنا مثال ذى النون المصرى الإخميمى الذى كان متصوفا إلى كونه شاعرا بل كان أول المتصوفة فى الإسلام.
– وما دام الشئ بالشئ يذكر فالبويطى المحدث، وورش القارئ، والليث الفقيه، وابن مماتى المؤرخ.. هؤلاء جميعهم ينتمون إلى هذه الأرومة القبطية بل إن من الأقباط من ظل قبطيا، لكنه شارك فى صناعة الحضارة العربية الإسلامية فى وطنه مصر، ومنهم سعيد بن البطريق (مؤرخ وطبيب).
– وإذا كان الكاتب يرجع وجود اللغة العربية فى التعليم المقرر لسعد زغلول، وفى الحياة العامة إلى قرار لعبد الحميد عبد الحق، وفى المحاكم وأمور التقاضى إلى قرار لعبد السلام ذهنى، فإن اللغة العربية كانت هى لغة التعليم والحياة العامة والمحاكم وأمور التقاضى قبل هؤلاء الثلاثة بألف عام ويزيد، وظلت على هذه الحال مع تعاقب الحكام وغالبهم ليسوا من العرب، بل ليسوا من المصريين، إلى أن نكبت مصر بالاحتلال البريطانى، فصارت الإنجليزية (وإلى حد ما الفرنسية) هى لغة التعليم (الأميرى وليس الأزهر) والحياة العامة والقضاء لمدى لا يزيد على أربعين أو الخمسين سنة، إلى أن أتى هؤلاء الثلاثة الأجلاء فأعادوا اللغة العربية إلى مكان هى جديرة به.
أيها الكاتب: أنا مصرى عربى... أعتز بتراث أبائى المصريين القدماء، كما أعتز بتراث أبائى من العرب النبلاء.أولئك آبائى فجئنى بمثلهم.. إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
ملحوظة: كتب د.عبادة كحيلة هذا المقال ردا على مقال كتبه محمد البدرى حول هوية مصر منشور بجريدة "أخبار الأدب" القاهرية فى عدد 8 فبراير 2004.