لم يكن له ملامح
لم يكن له ملامح.. يبدو دوما وكأنه غارق في الظلام، هكذا يخيل إلي، جسد متهجم وعينان مرهقتان، يتحرك في وجوم قاتل، منذ أول ليلة لدخولي المنزل، كنتُ أرى في وجهه تقاطيع موت قادم، زواجي من والده أيقظ فوضى مشاعر عديدة لديه، لم أره يبتسم ولا يضحك ولم يكن حتى صالح للبكاء، وكأن رحيل والدته في ذلك اليوم الأغبر، ودخولي حياته وحياة أخوته، قد قلب كيانه وجعله يعيد حساباته مرة أخرى في كل شيء، في اليوم التالي لزواجي دفعني الفضول للدخول إلى غرفته، لا أخفي إعجابي الشديد به، حتى قبل زواجي من والده..
كنتُ ألمحه من بعيد، ويتلمس قلبي المندهش بتفاصيل الحياة، كل شيء جميل فيه، عدا تهجمه وسخطه الواضح، وعدم وضوح ملامحه أو نبرة صوته الخشنة..
دخلتُ غرفته، لا يوجد بها ما يثير، صغيرة، بها سرير ومكتبة قديمة، بعض رفوفها مكسورة، حتى الكتب التي فيها تبدو رثة، وقديمة، ولكن ما لفت انتباهي كومة من الجرائد الملقاة على الأرض بإهمال، وهناك دوائر حمراء وأخرى زرقاء، قد وضعتْ على بعض الجمل والعبارات والمقالات بصورة مثيرة، التقطها بين يدي، أغلبية القصاصات تتحدث عن أشخاص ماتوا بطريقة غير طبيعية، مثلاً بصواعق من السماء، أو شحنات عن طريق الرعد؛ تراجعتُ إلى الخلف، وكدت أسقط على ظهري، أثر التفاف ساقي بواحدة من الجرائد المتكومة، لولا يد قوية أمسكتني، وألتفت لأنظر في خوف، كان هو، عينيه الحادتين، وجهه الغارق دوماً في ظلام محير، تلاقت عيوننا في نظرة خاطفة، وأسرعتُ بالفرار..
ظللتُ طيلة اليوم متوترة، ولم أخرج من غرفتي، حتى زوجي- والده - استغرب من تصرفي، ولكنني تعللتُ له بأنني مريضة، وأريد أن أظل في فراشي، ولم يبالي بي، لقد رمقني بنظرة فارغة، ثم خرج لزيارة رفاقه..
وبقيتُ لوحدي في المنزل، أقصد لوحدنا، تسللتُ من فراشي في خفة متوترة، لا يوجد أحد، الأطفال في الحديقة مع المربية، وأنا وحدي، اتجهت ساقي نحو غرفته، فتحت الباب فوجدته جالساً، وفي يديه جريدة يقرأ فيها دون أن يبالي لخطواتي، إنه يبهرني، اقترب منه، أضع يدي على كتفيه، تتحرك في أعماقي رغبات مدفونة، متوهجة، يلتفت إلي في برود، ويزيح يدي بقسوة، يا إلهي، نظراته الجليدية، تقتحمني في عنوة، تثلج قلبي، فأتراجع، ولا أشعر سوى بصفعته القوية..
وتدور في عيني أحداث ماضية..
زواجي من والده..
وفاة والدته ..
قسوتي على أخوته.. طفولتي المحرومة..
فأبكي في ألم، وأنا أعدو إلى غرفتي، لا أعرف عدد الساعات التي نمت فيها؟ ولكنني استيقظت على صداع عنيف، وجلبة قوية، لابد إنه واقف أمامي، هاهي ملامحه تتكون جزء، جزء، في مزيج رائع، ولكن لا لا..
إنه زوجي العجوز، يطلق صرخات أشبه بعواء كلب جريح، أنهض من فراشي في صعوبة، ماذا حدث؟
إنه هو..
ماذا به ؟
يجرني زوجي من ذراعي بقسوة مجنونة، وأجد نفسي واقفة أمام غرفته، لالا أريد الدخول، جسدي يرتعش، روحي تنتفض وكأنني طير مبلل ظل يوم كامل تحت أمطار يناير، كان بابه مفتوحا ، وهناك جمهرة كبيرة من النساء والرجال والشرطة متجمعين داخلها يتحدثون بأصوات مبهمة، والنسوة كن يبكين بصوت مبحوح، وهن ينظرن لي في احتقار.....
اقتربت منهم بخطى مرتجفة، وجسدي يتأوه، ويلفظ حمم بركانية، لالا لا أصدق، لقد كان ميتا، جثة ساكنة، لا تتحرك، وسط الجرائد الملقاة بإهمال في المكان، وفراشه، هناك بقعة حريق كبيرة على فراشه، لا أصدق، اقتربت أكثر منه، وضعت يدي على جسده، تلمستُ وجهه الذي طالما تمنيتُ أن أضع أناملي عليها، خفتُ من نظرات النسوة، تراجعتُ وأنا أبكي بنحيب مكتوم، كيف مات بهذه السرعة؟ كيف؟
قبل ساعات كنتُ معه، دارتْ نظراتي في الغرفة، يا إلهي لم يرحل؟ وقفت أنظر إليهم وهم يحملون جثته، وتكومتُ في مكاني، ونظراته الباردة تعود إلي في أنغام سريالية..
بعد يومين جاءتْ نتيجة البحث الجنائي، بأنه مات ميتة غريبة، فلا توجد أعواد ثقاب ولا سجائر، ولم تصل النتائج للسبب الحقيقي للحريق الموجود على فراشه، سوى أنه ربما احترق جسده احتراق ذاتيا..
لقد أراد أن يكون هكذا، هذه غرفته مفتوحة الأبواب، وكومة الجرائد لا تزال موجودة كجثة متعفنة على أرضية الغرفة.