السبت ١ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

لا أريد لهذا الليل أن ينقضي

في كل يوم، أشاهد الشمس من نافذة غرفتي وهي تخطو بخوف نحو الأفق وتجرّ معها أذيال الهزيمة حتى تتلاشى معلنة قدوم الليل! وفي ساعة الشفق، يغمرني شعورٌ بالسكينة وأتابع المعركة، فأرى جحافل الظلام تلاحق من تبقى من فلول النهار، ويتعاظم شعوري بالنشوة حين أستمع إلى صرخات استغاثاتهم اليائسة قبل أن تقطعها صوارم جنود الليل ويغشى سلطانُه الكونَ.

تنهدتُ بارتياح بعد انقضاء المعركة ليلة أمس، وشرعتُ في خلع الأقنعة التي اعتدت ارتدائها كل صباح، وما إن فرغت حتى تسللت نسمات الليل الباردة من نافذة الغرفة لتداعب وجهي فتحسستُه براحة يدي المرتعشة.

اقتربتُ من النافذة لأتنفس هواء الليل فحبستُه في صدري محاولاً الاحتفاظ به إلى الأبد ثم أطلقتُ زفيراً طويلاً وأخرجتُ رأسي من النافذة حتى كدتُ أن أسقط منها وكأنني أحاول الانعتاق من جدران الغرفة والتحليق بعيداً، وكعادتي في كل ليلة قبل أن أبدأ بالكتابة، رحتُ أتأمل السكون المخيّم في الحيّ مع لفافات التبغ وأغنيات الليل فأجولُ بنظري وأفكاري في تلك المساحات دون حسيب أو رقيب!

كان صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب الدافئ ينطلق من المذياع ويجول الغرفة مترنماً بكلمات الشوق بالعامية المصرية:

"وليه يبقى طول أنيني .. دا الليل سحرني سكونه..
قلت يمكن اللي هاجرني .. يكون وقوفي على غير مراده..
مشيت أنوح والليل ساحرني .. بقلب باكي صاين وداده.."

وبمرور الوقت، اقتربتُ تدريجياً من حالة السكون التام كالليل الذي أنا فيه، ثم ارتجفتُ حين سمعتُ صوتاً في الغرفة فالتفتتُ على الفور لأجد امرأة حسناء في العقد الرابع من العمر تسحب الكرسي الخشبي وتجلس عليه. نظرتُ إليها برعب غلبه يأس العزلة، فلم أتحرك وبقيتُ أراقبها بصمت ثم قلتُ بصوت خافت: "من أنتِ؟".

قالت بهدوء: "افترض أنني طيف، أو شبح.. أو كما يقول طبيبك الأحمق.. هلوسات بصرية! ليس المهم أن تعرف من أنا، بل أن تعرف ما الذي حملني إليك". اقتربتُ منها بخطوات بطيئة وسحبت الكرسي المجاور لها وجلستُ ثم قلتُ بذات النبرة الخافتة: "وما الذي دفعك إلى تحطيم أسوار عزلتي؟".

أطلقت المرأة ضحكة ناعمة ثم قالت: "الجواب موجود في سؤالك!" ثم اقتربت مني وهمست في أذني: "لقد حان الوقت لتحدثني عما ضاق صدرك عنه واتسعت أوراقك له. سأمنحك ميزة أعرف أنك بحثت عنها كثيراً ولم يمنحها أحد لك. سأستمع إلى كل ما تقوله دون افتراضات أو أحكام مسبقة، ولن أدفعك إلى التبرير والتوضيح كما دفعك كل من تسبب بعزلتك هذه".

نظرتُ إلى عينيها الصافيتين فشعرتُ بارتياح لم أعرف مثله منذ زمن، ثم أشعلتُ لفافة تبغ وانطلقت الكلمات من أعماقي لتكسر سكون الليل، وفقدتُ الشعور بالزمن إذ استغرقت هذه الجلسة الليل كله! فحدثتها عن شعور الوحدة الذي يلازمني حتى في الزحام، فالوحدة ليست خلوة المرء بنفسه وإنما وجوده في أي مكان لا يجد فيه من يشبهه. وشرحتُ لها طريقتي الجديدة في إدارة العلاقات الاجتماعية، فقد توقفتُ عن بناء العلاقات الجديدة وذلك لتوجيه ما تبقى لديّ من طاقة للحفاظ على العلاقات الحالية، وامتلكتُ من الشجاعة ما حملني على الاعتراف بالفشل الذريع لهذه الطريقة.

وصفتُ لها هشاشة كل شيء أحببته فيما مضى، ووضحتُ لها أن اليأس الذي يحيطني ليس استسلاماً فلا زلت أقاتل بشراسة في الحياة لا سعياً إلى الوصول وإنما لشرف المحاولة وللضرورة! ثم انتقلتُ بالحديث إلى مستوى أعمق، فأخبرتها بما لا أجرؤ على التفكير به حتى في خلوتي!

كانت عقارب الساعة تتحرك بسرعة جنونية. ومع اقتراب الفجر، ظهرت علامات الحزن على وجه المرأة، وقالت بصوت شاحب: "لقد وصلت طلائع جنود النهار، يجب أن أغادر الآن!". التفتتُ مذعوراً إلى النافذة لأرى خيوط الفجر تتسلل لتمحو ظلمة الليل وتبددها. أغلقتُ النافذة على الفور وأسدلتُ الستار لأمنع دخول أشعة الشمس إلى الغرفة ثم أسندتُ ظهري على النافذة فشعرتُ بالأمان. اقتربت المرأة مني وقالت متسائلة: "لم فعلت هذا؟" أمسكتُ يدها وقلتُ لها مبتسماً: "لا أريد لهذا الليل أن ينقضي!".


مشاركة منتدى

  • أحسنت التعبير أخي عارف وبوركت وبورك قلمك .... وأود أن أقدم تعليقي إعجاباً بإسلوب كتابتك وصورك البلاغية التي نقشتها ... وأقول :

    مفهوم العزلة هي عدم الاختلاط بالنّاس، وقد يسعى الإنسان بنفسه لهذه العزلة فتكون بإرادته، إذًا العزلة هي الابتعاد عن مخالطة البشر، والتي قد تكون لأسباب عديدة كاضطرابات نفسية أو ظروف العمل تفرض على الإنسان العزلة والتّأمل، وأحيانًا تكون بسبب أمراضٍ معديةٍ، وقد يلجأ إليها الإنسان بعد فقده لأحدٍ من أحبابه، والعزلة القسرية كانت في قديم الزمان كطريقة للعقوبة والتأديب، العزلة في بعض الأحيان مطلوبة من أجل راحة النّفس والابتكار للوصول لأفكار إبداعية، وطُرحت فكرة العزلة في جميع الديانات السماوية. وقد ذكرت العزلة بمقالك أعلاه بموقعين :
    "تحطيم أسوار عزلتي"
    "كل من تسبب بعزلتك هذه"

    أما عن الوحدة التي ذكرت في مقالك: "فحدثتها عن شعور الوحدة الذي يلازمني حتى في الزحام" فالوحدة هنا هو مدلول لمشاعر يحملها الإنسان بين جنبيه بأنه مقطوع عن الجنس البشري، بعيد عن جميع أفراده،وبأنه شخص لا يجد العون البشري فلا يجد أنيساً بقربه، ولا شخصًا يشاركه اّلامه وهمومه. الوحدة شعور سلبي وقد يميل للهروب من هذه الوحدة عن طريق الانتحار.

    لمعرفة الفرق بين الإثنين نود ان نشير الى مقال عالم الرّياضيات بليز باسكال "بأن الإنسان قد يصل لحالات تؤدي به للهستريا، إن لم يستطع أن يخلو بنفسه ولو لمدةٍ قصيرة، بل إن الأفكار المتميزة لاينتجها الإنسان المفكر إلا في حال اعتزاله قليلًا" ، وهذه هي العزلة والتي يجب أن نفرقها بين الوحدة السلبية والتي تؤثر بشكل سيء على صحة الإنسان. فالإنسان قد يشعر بالوحدة وهو محاط بالعديد من النّاس، وذلك لأنه فقد القدرة على التّواصل معهم لسبب نفسي أو عضوي وقد يكون الإنسان متزوج ومرتبط وعنده عمل ناجح فيه على جميع الأصعدة، وبالرغم من ذلك يعيش وحدة داخلية تؤلمه وتسبب له الحزن والكأبة والهم، في حين أن الإنسان قد يكون سعيدًا في العزلة لأنها توفر له بعض الوقت الخاص، و قد تغشي الوحدة العزلة فيقترنان . وقد رأى بعض العلماء منهم المتصوفه أن العبادة قد تكمن في العزلة وسموها الخلوة ،

    أقول عش عزلتك وأبدع وتناهى بفكرك كما أعيش لكن دع الشعور بالوحدة لأنها قد تخلو من الإبداع والإيجابية وأتذكر قصيدة للشاعر المغربي عبد الجواد العوفير في ديوانه "راعي الفراغ" يقول:

    المنعزلون في أبراج ذواتهم العالية

    ينزلون في الصبحيات الجميلة الباردة

    إلى الشواطئ

    يجمعون الخريف

    في سلال من القش

    ويعودون

    وسلالهم ملآنة بالحب

    نراهم في الليل يخلقون نساء

    يسمونهن: نساء الخريف الباهتات

    يغلق أهل المدينة أبوابهم

    كي يمروا بخفة الريح

    وتغلق النساء قلوبهن

    كي لا تتسلل العزلة

  • أخي العزيز بلال

    لا أعلم إذا كانت كلماتي هذه ستصلك، ولا أكتب كلماتي هذه للرد، فلا أجد ما أضيفه بعد ما وضحته في تعليقك الرائع

    كل ما أود إيضاحه أن هذه المقالة هي حالة وجدانية حرصت على استثمارها والكتابة تحت تأثيرها قبل أن تذهب، وهذا ما يبرر مجانبتها المنطق في بعض المواطن كالخلط بين مفهومي العزلة والوحدة

    أشكر لك إضافتك الرائعة فهي جزء لا يتجزأ من المقالة

    أتمنى لك يوماً سعيداً وكل عام وأنت ومن تحب بخير

  • شكرا جزيلا أخي عارف .... نعم أنا هنا تابعت وأرد لك التحية والتبريكات بمناسبة عيد الأضجى وأتمنى لك ولمن تحب تحقيق الأماني وقبول الطاعات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى