

قراءة نقدية في قصيدة حميد عدنان
خالدة تلك القصائد التي تحمل أنفاسها بعيدا؛ لتعبر بلغتها الثالثة عن كل مدينة أوحبيبة أوصاحبة لا تموت، خالدة تلك القصائد الصامتة التي لا تباشرك باسم ولكنها تعبر عن كل الأسماء، خالدة على الرغم من كيانها المغمور في عالم أدبي لا يعرف فن التقميش، ويستسهل بضاعة أدبية تحمل ماركة عالمية بقشورها البالية، تاركا صناعة محلية عالمية لن تبور.
وعلى المتذوق الفني دور كبير في قراءة النصوص الجيدة وعرضها دون العودة إلى سجل الأحوال المدنية وبريده الشخصي، وعليه دور آخر في أن يقول كلمته في تلك النصوص التي لاقت شهرة لأنها خرجت فقط عن شاعر ربما عرف بقصيدة أوقصيدتين، ووجد دورا للنشر وجماعة ما صدقوا القراء فيما زرعوا.
لقد قرأت في دنيا الرأي يوم الثلاثاء 14 – 4 - 2009م قصيدة للشاعر حميد عدنان بعنوان (يا قديستي الحلوة)، وهي قصيدة تحمل طابع العالمية بكل مقاييسها الفنية، وتصلح لكل احتفالية ومناسبة خاصة أوعامة، وأنا اخترت أن تكون قصيدتي لهذا العام في احتفالية القدس عاصمة الثقافة 2009م، وإن لم يذكر الشاعر اسم القدس أوفلسطين في كل قصيدته، ولكنه الشعر بدفقاته الخالدة وبتجربته الصادقة يناجي كل ميل في القراءة والفهم فيرضيه، وهوشعر جديد حر لا يسير على بحور الخليل الصافية والممزوجة، ليؤكد حقيقة وجوده الشعري، وإن أنكرها الملتزمون بالوزن العروضي، أوأخرجوها من دائرة مفهومهم الضيق للشعر المحصور في اشتراك العضوية في نادي الوزن، هوالشعر عندي جنين يتنفس من غير صفار بعد مخاض التجربة الشعرية بطريقته الفنية التي تقتضيها الضرورة الفكرية المرافقة للحالة النفسية بشرارة الاستجابة الأدبية.
ومع عنوانه النزاري، وبدايته الأولى التعظيمية (سيدتي)، وانطلاقته بدرامية أوجست سترندبيرج في مسرحية الآنسة جوليا في ليلة منتصف الصيف أوليلة عيد القمر، نؤكد خطاب الشاعر الشامل لكل قديسة وسيدة تستحق هذا اللقب، وتستحق أن نحتفل بها، فربما كانت القدس، أودمشق، أوالقاهرة، أوبغداد، أوعمان، أوالرباط، أوالأم، أوالحبيبة المجردة من كل رمز، أوما شئت من المسميات تجد القصيدة في ثنايا هذه المعاني المختارة لتلك الشاعرية الحالمة:
سيدتيهذا العيد سأكون شاعرالأحتفي بك عندما تغيب الشمسويزين القمر وجه السماء
نعم هي تلك الحقيقة الصادقة بعفويتها الشعرية المتسائلة في جوها الاستنكاري لكل ريح ساخرة لا تعزف لحنها إلا في حضرة محبوبته التي لم يجد في معجم رضاها ومواساتها وحبه الماضي والحاضر والمستقبل لها إلا أن يقول في حضرتها:
كيف أمنع الريح من العزف بسخريةعلى أبجديات شعرك؟لن أهدي إليك وردةلأنها ستموت في المساءولا قصيدةفالقصيدة كلام ينسل من ثنايا الصمتوأنت صمت لا يليه كلام
ويعود الشاعر حميد عدنان في مقطعه الثاني ليبرز بتشخيصه ملامح سيدته القديسة التي لا يؤثر في صفاء وجودها وبهائها شيء مادي؛ لأنها قبس من السماء المحفوظ بعناية إلهية لا يشوه وجودها عمل بشري:
سيدتيفيك قبس من السماءعلى بهائك تمر سحابةوفجأة يعود إليك الصفاء
وفي هذه الرمز(سيدتي القديسة) الخالدة بسحر وجودها الإلهي، وجودٌ مصدريّ في مجرى غيرها من الرموز التي تنشد موسيقا جبران في الحياة المتفائلة بخلود اللحن الصادق فيها:
تعلمت من جمالكأنك سر بقاء الورودوسحرك سحر للوجودعندما يهب نسيم الأياممن أعلى شرفة في ذاكرتيتستيقظ الحياة
ويرفض الشاعر في ظل احتفاليته النزارية بمحبوبته الإلهية أن يكون تقليديا أوزعتري الوجود والرائحة حتى في أجمل معاني التقليد المتمثلة بطقس الوردة التي لا تمل الحبيبية التقليدية من تكرار حضورها في كل مناسبة، فحبها استثنائي وهديته استثنائية:
لن أهدي إليك وردةفأنت وردة أجمل من كل الورودوعيب أن أقدم زعترالإلهة لا تموت...فكري مليا يا سيدتيإن عشت ستين عامافسأهدي إليك ستين وردةسأكون شاعرا وأقول لككل ورود الدنيا لا تكفيلتكون قربانا إليكيا قديستي الحلوةفاسمحي لي أن أحتفي بكعلى طريقتي...
ويجدد الشاعر ولاءه وانتماءه لمحبوبته في احتفاليتها الذاتية، ويترك شاعريته على فطرتها مستعينا بعندليب روحه الذي ينشد جمالها بلحن تعرفه ويعرفها؛ فينصت في حضرة النشيد المولود على عتبات وجودها العبق بأصالتها وقدسيتها وتطلعاتها المستقبلية مع كل عام جديد:
في كل عيدسأكتفي بتجديد الولاءوسأرنوإلى العندليبففي غنائه قبلة إليكوسأنصت للقصيدة التي تولدعلى جبين نظراتك وأريج شفتيك
هذه هي سيدته المقدسة التي أحبها حبا صوفيا، وعاش أجواءها التقليدية وطقوسها، وتغنى بملامحها الخارجية، قد عادت إليه في عامها الجديد بوجه رمزي جديد تحسس خلاله مواطن الجمال الحقيقية فيها، تلك الملامح التي تجاوزت حدود الذات المكانية وكلاسيكية الجسد؛ لتستقر روحا مقدسة في صومعته الجديدة التي انصرف إلى عالمها، واعتزل الاحتفال بغيرها:
أنا راهب لم يعد يتعبد كما كانلقد غيرت المكان بالمكانوتركت الزمان للزمانكي أعيش في هذا العالمعلى إيقاعات همس الجمال
ويمضي الشاعر متعمقا في رحلته الذاتية مع حوائجه النفسية الجديدة التي لم يعد فيها طقسيا في خدمة محبوبته الاستثنائية؛ ليؤكد فلسفته الشعرية الجديدة التي لا تخضع لبرمجة الشعائر التقليدية، أوكذبة الحياة كما عبر عنها هنريك إبسن في بطته البرية، وهوبذلك ينتقد كل احتفالية لا تتجاوز حدود المكان أوساعة الاحتفال حتى تغيب عاما كاملا لتعود من واقع إرشيفنا القديم لها باهتة لا أثر لها في الآخرين، ولا نقدم لها شيئا في إبراز هويتها وحقها المشروع في البقاء دون فاصل زمني ما بين العام والعام:
لقد تعبت من طقوستحول القلب إلى جدرانوالحب يولد ليدفن قبل الميعادلقد أخذت حصتي من الألموغادرت معبديلأبحث عن حصتي الأخرىمن الألم الجميللم أعد أطرب للطقوسلن أقطف وردة من هذه الأرضلن أشتري زهرةأوبستانا من زنابقسأحتفي بك على طريقتيفي الزمن الذي لا أعيشهوسأكتب أجمل ما عندي على جبينك
ويستعين الشاعر بالأجواء الأسطورية الحربية، ورمزية الدموع والأسى والنكران، وثنائية الموت والحياة؛ ليقف حائرا أمام سيدته القديسة الصامتة، وتلك الأطماع التخريبية المحيطة بها، والتي تسعى إلى مصادرة حلمها في البقاء فريدة في عالم الجمال الروحي، وحلمه في التواصل مع ملحمة حبها كما أرادها في تناسخاته المتواترة والقائمة على التنوع والتغيير:
أنا حائر أمام السؤاللماذا تنحني الأمواجأمام قدميك؟يا عروس البحرلا تقتربي من الشاطئفكل الشباك ألقيت في اليممنذ الأمسولا تغني عندما يمر ايليسدعيه يبحث عن مدينته الخالدةويكتب حبه على أسوار التاريخ
ويظهر الشاعر بعد ذلك أمام قديسته الحلوة وسيدته في كامل أبهته الأسطورية ليكون بطلا طرواديا أوإلها من آلهة الحب يدافع عن حريتها ووجودها الروحي الذي ارتضته جمالا لها من براثن التقليد الجسدي الممل في حضرة الاحتفال بها:
يا سيدتيسأرافق سندبادفي رحلته القادمةأرغب في ركوب الموجوالغوص في أسرار البحارلا أريد أن أجمع ثروةمثلك يا سندبادلا أريد أن أعتلي عرش بابلمثلك يا بلقيسأريد أن أفك شفرةالجمال الذي في عينيكأريد أن أعرفما الذي يموت في الحياةويبقى سرا في شعرك...؟أريد أن أغازلكل نسيم يذكرني بصمتكيا قديستي الحلوةلماذا ألقوا بشباكهموهم يعلمون أنك تسبحين في الماء؟
ويختار الشاعر أن يختم قصيدته بتكرار المقطع الذي أعلن فيه فلسفته الشعرية في التعامل مع محبوبته، وهوتكرار استعان به للخروج من أجواء قصيدته الدرامية التي أخذ حصتها منها، أوربما هي استراحة المحارب لجولة قادمة يواصل خلالها اكتشاف المزيد في جمال قديسته الخالدة:
لقد تعبت من طقوستحول القلب إلى جدرانوالحب يولد ليدفن قبل الميعادلقد أخذت حصتي من الألموغادرت معبديلأبحث عن حصتي الأخرىمن الألم الجميل...
هكذا مرت هذه القصيدة الصامتة دون إعلان حقيقي لسيدة الشاعر القديسة، وبقيت رمزا ذكيا تحاكي كل رمز يستحق الخلود ويعاني هبة الجمال الإلهي، واستحقت بهذا المرور الفني، الذي أجبرنا الشاعر أن نخوض رحاها النفسية وتطلعاتها الروحية المتناسخة بحاسته السادسة، أن تكون خالدة في عالم التعاطي الثقافي.