

قراءة في قصيدة (أبي وأمي وصفد)
أقدم اعتذاري إلى روح أمّي، وأقدم اعتذاري إلى روح أبي؛ لأنني لم أستطع أن أحقق وصيتهما.
(أبي وأمّي وصفد، ثلاثة في واحد، إنْ حلّ طيفُ أحدهم في خيالي حلّ معه الآخران...
إنْ ذكرتُ أبي ذكرتُه وهو يتحدثُ عن صفد، وإن ذكرتُ أمّي ذكرتُها وهي تتحدثُ عن صفد.
كنتُ ومنذ طفولتي أسمعُ منهما حواراً متواصلاً عنها... كان أبي يقولُ لها أتذكرين؟ ثم يروي لها قصة عن صفد… وتقول له أمّي أتذكر؟ ثم تروي له قصة من صفد... كنتُ أشعرُ وكأنّهما كانا يعيشان بيننا كجسدْ... وتركا كل ّما تبقى في صفد...).
بهذه المقدمة النثرية وما في طياتها من نرجسية الرومانسية ونزعتها الذاتية الغنائية الدرامية، وتلك الحساسية الشعرية المثيرة، قدم الشاعر أكرم عطوة لقصيدته (أبي وأمي وصفد) المنشورة بدنيا الرأي 27 – 3 – 2009 م.
هذه المقدمة النثرية التلقائية التي استعان بها الشاعر على صياغة تجربته الشعرية أضفت جمالا فنيا على هيكلية القصيدة، وأثارت فضول القارئ في التفاعل معها ومتابعة صراعها الدرامي الثلاثي المتمثل في صورة الأب والأم وصفد.
وتعود بي هذه المقدمة النثرية إلى الشكل النثري الذي تناوله أدونيس في انسجام الكلمات المتقاربة برؤيتها الشعرية والمتحررة من المتطلبات الشكلية المتصلة بالقافية والوزن الشعري، والمتمثلة بالإيقاع الداخلي في الكلمة الواحدة، وهذا ما جعل من هذه المقدمة النثرية المواكبة لتجربة الشاعر أكرم عطوة النفسية دفقة شعورية شاعرية لا تنفصل بحال عن بناء قصيدته حتى أصبحت في مقياسي النقدي وحدة واحدة متكاملة البناء.
وتعد هذه المقدمة النثرية الشعرية بمفهومها الجديد مفتاحا أو عنوانا آخر لنص أكرم عطوة (أمي وأبي وصفد)، مهد خلالها لحكايته الدرامية واعتذاريته في صراع الذات مع الوصية
وأحسن الشاعر فنيا حين بدأ بعد مقدمته النثرية بقوله: (سأحدثكم)، وحين كررها في نفس المقطع؛ لتودي الكلمة المقصودة دلالتها في مقدمته النثرية:
سأحدثُكمْ عنِ الذين ماتوا مرتينْمرةً حين هُجِّرواوأخرى حين أَغلقوا العينينْسأحدثُكمْ عْمَّنْجاءَ بجسدْ..وتركَ روحَهُ في صفدْ
وهذه الطريقة الشعرية لا بد في نضوجها أن تستعين بالطريقة النثرية التي تعطيها مرونة في التعبير عن حكايتها.
وقد أراد أكرم عطوة بخبرته الشعرية وذكائه الفني أن يعتذر من جهة ثانية خلال مقدمته النثرية عن أي تجاوزات عروضية، وخصوصا أن هناك متتاليات قصيرة لا تجوز في مفهوم قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية القديمة من مثل قوله:(جاء بجسد) التي فيها ثلاثة مقاطع قصيرة متتالية، وقوله: (وترك) بمقاطعها الأربعة كذلك.
وهذه المقاطع على الرغم من ذلك تؤيد نظرة أدونيس في إيقاع الكلمة، ومن يقرأ هذه الكلمات ضمن نسيجها الكامل لا يجد فيها تنافرا بل يجد انسجاما موسيقيا عاليا ومثيرا.
وحتى يكون الشاعر منصفا مع أمه وأبيه ومدينته جعل عنوان قصيدته يبتدأ بكلمة (أبي)، وبدأ مقطعه الثاني بكلمة (أمي)، ولم يخصص مقطعا لصفد بل جعلها في ثنايا المقطعين المتصلين بالوالدين لاتصالهما الحميم بها، ولتأكيد الهوية بالأرض، وهي لفتة ذكية تحسب للشاعر من جهة، ومن جهة ثانية تعبرعن صدق عاطفته التي عبقت بها مقدمته النثرية، تلك العاطفة التي أوقفت الشاعر عن متابعة قصيدته، وإن خرجت إلينا على أنها كاملة، ولكن المتذوق يشعر بحالة الشاعر البكائية عندما وصل إلى خاتمة قصيدته التي لم يستطع بعدها المتابعة، حتى جعلت القارئ يتساءل وماذا حدث بعد أحضاني:
ثم تأتيْ إليكَ، تبوسُ يَديكَ مِثلَ أمٍّ ثكلىْ، تَقولُ لكَ أهلاْيا أحلىْ، ويا أغلىْ ولدْتَعالَ إلى أَحضانيَ
هذه النهاية تؤكد بدورها أن القصيدة سارت بفطرتها الشعرية دون تكلف في بنائها أو تصنع في أدائها، وكانت نتيجة طبيعية لمقدمتها النثرية، وأرى في هذه الخاتمة المفتوحة نجاحا فنيا آخر يسجل لقصيدة أكرم عطوة الدرامية.
ومن المقدمة النثرية ومطلع القصيدة وخاتمتها المفتوحة دخلتُ إلى عالم الشاعر أكرم عطوة لأقرأ ما تبقى من مقاطع درامية غلب عليها عنصر الصراع، حيث استحضر الشاعر في المقطع الثاني الذاكرة المتمثلة بصورة الأم التي أخذ يحاورها في سبب حزنها الشديد:
أمّيْ...ماليْ أراكِ كغيمةٍ مَقهورةْ؟تَقطرُ من دوامِ الحزنِ والهمِّأمّيْ...يا جذوةَ الإيمانِ والعزمِأنتِ في قلبيَ نورٌوفي عينيَ أسطورةْماليْ أراكِ في هذه الصورةْ؟
وكانت إجابة الأم مستوحاة في بعض معانيها من عصفورتي أحمد شوقي في الحجاز، ولكن العصفورة هنا تسكن في صفد وتمثل روحا بلا جسد:
أحزَنُ يا روحِيْ على روحِيفارقتُها منذُ أمدْتَرَكْتُها في صفدْتَرَكْتُها كعصفورةْفي (حاكورةٍ) مهجورةْفي خامسِ بيتٍ على اليمينْفي (حارةِ الجورةْ)
وأكثر الشاعر في هذا المقطع من الجناس المتمثل بـ (روحي وروحي ـ أمد وصفد ـ عصفورة ومهجورة وحاكورة والجورة)؛ ليعبر خلاله عن تجانس الروح والجسد، وصعوبة أن تستقر أمه في مكان بعيد عن صفد، ولتأكيد هذه الحالة وتثبيتها في نفس القارئ استعان عطوة بتكرار الفعل: (تركتها)، وحرف الجر (في) الدال على الظرفية المكانية، وذلك إيحاء منه بأهمية المكان (صفد) في استقرار هذه العائلة وطمأنينتها، والظريف هنا أن اللغة ساندت صدق التجربة الشعرية، وأعني هنا أن الفعل في نحو العربية لا يدخل عليه حرف الجر، ولكنه يدخل على الأسماء، وكأن كل الأماكن في مفهوم الأم هي أفعال وصفد وحدها هي الاسم الذي يستحق أن تكون فيه، أو كل البلاد أفعال، وفلسطين وحدها الاسم التي يجب أن يكون فيها الفلسطيني دون تهجير قصري أو استبدالها بمكان آخر يصادر حق العودة إليها.
وتتابع الأم وصيتها بتكثيف الرمز المتمثل بشجرة الصفصفاف المتعددة المزايا، فهي للظل والحطب، ومواجهة الريح، ولكنها الآن حزينة كحزن أمه على صفد الظل والدفء، والبسمة لن تعود إلى صفد وأهلها إلا بالمعني الرمزي الأخير لهذه الشجرة المتمثل بالصمود والتحدي، أما الزيتونة التي تمثل الوجود الفلسطيني فهي جريحة أو مصلوبة باحتلالها، واليد المجرمة واحدة، هي ذاتها التي صلبت المسيح عليه السلام، وهي التي سيعود إليها ليخلص العالم من ظلمها:
تَرَكْتُها بين صفصافٍ حزينْوزيتونٍ جريحْ.. تَنتَظرُ المسيحْليشعل في ظلمة ليلها شمعةْ
وتبدو ثقافة الشاعر الدينية باستدعائه لسورة ياسين إشارة إلى الرسول الكريم صلى الله عليه أو من سار على دربه من المسلمين؛ ليخلصوا الأمة من الصهاينة المعتدين، وهنا يطالب الشاعر بضرورة اتحاد المسلمين والمسيحيين في مواجهة العدوان الصهيوني العنصري الذي لا يستثني أحدا ويريد دولة دينية واحدة تتألف من اليهود فقط، وفي استدعاء هذه الآية من هذه السورة الكريمة دليل ثان على أن ظلم اليهود قد عم المكان من أدناه إلى أقصاه حتى طفح الكيل:
تَرَكْتُها بين صفصافٍ حزينْوزيتونٍ جريحْ.. تَنتَظرُ المسيحْليشعل في ظلمة ليلها شمعةْأو يأتيْ لها ياسينْمنْ أقصى المدينةْ يسعىفيَصفعُ وجْهَ الباطلِ صَفعةْتَرَكْتُها في مهب الريحْمَغروسةً كالوتدْتَبـكيْ وتَصــيحْعودوا إلى صفدْ
وجاء الفعل المضارع في المقطع السابق ليؤكد استمرارية هذا العدوان، وليخدم درامية العمل الشعري بنوعي الصراع الداخلي والخارجي، ذلك الصراع الذي جعل الشاعر في نهاية مقطعه يطالب على لسان الأم الحقيقية والرمز بحق العودة، وما صفد إلا جزء من كل.
وبفلسفة الروح والجسد وضعنا الشاعر في المقطع الخاص بوالده، واقتضت هذه الفلسفة استعمال الفعل المضارع المجزوم بحذف حرف العلة؛ فالعلة ليست في جسد يفنى ويزول ولكنها بتلك الروح الباقية، وهذا يجعلنا من نداء الولد المستعمل في المقطع أن لا نعظم الجسد مهما كان:
أبيْ...وكان على فراشِ المنونْقالَ... وبِصَوتٍ خافِتٍ محزونْلا تَسلْ يا ولديْ عنْ جسديْ.. أين يكونْ؟بلْ عنْ روحيْ.. أين تحومْ؟
ويؤكد الشاعر باتكائه على فعل الأمر(كفكف، وارجع، وانظر)، والطباق (يبلى، وتبقى، الأجداد، والأحفاد، الأرض، والسماء) هذه الثنائية الفلسفية (الجسد والروح) بصدى والده الذي يكمل رضا الأم بذات الدعوة وهي العودة إلى صفد، حيث هذه الروح التي تسكن سماء صفد ستعود إلى طبيعتها بعودة أبنائها، وتلك هي بشرى الأرواح الطاهرة بشرى العودة التي يحاول المحتل مصادرتها بالمال الفاني أو بأرض لا روح فيها، وعندها فقط ستهدأ الروح وتعود إلى الجسد، وتعلن وقف الحداد على ما ضيع أبناؤها في حق الله، والجدير بالذكر حسن استعمال الشاعر للنكرة والمعرفة في هذا المقطع الذي خدم المعنى المطروح، ففي قوله (ولد) في بداية المقطع نكرة لا وجود له، وهو وحيد، ولكن في نهاية المقطع عند تنفيذ الوصية وتحقيق حلم العودة أصبحت الكلمة(الأولاد) معرفة معبرة عن الجماعة، فنحن نكرة دون وطن، ومعرفة بالوطن:
ماتَ أبيْ... وعَزائيْ في دموعيَسمعتُ صوتاً مناديَكفكفْ دُموعَكَ يا ولدْغداً يَبلىْ ذاك الجسدْ، وتَبقى منه عِظاميَارجِعْ إلى صفدْ، هناكَ روحيْ باقيةْوحينما تَعودْ، وتُنْـزَعُ القيودْانظرْ في عُلاكَ، تراها هنــاكَتَحومُ باكيـةْ، فوقَ (عينِ العافيةْ)مَلعبيْ في صِبايَ، ومُلتَقى الصَبـاياوحينما تَراكْ، تُصيرُ مَلاكْتَطيرُ إلى الجنَّةْ، كعاشقٍ جُنَّلتُخبِرَ الأجدادْ، بعودةِ الأحفادْفيهدأُ الفؤادْ، وينتهي الحِدادْوتُصبِحُ الجنَّةْ، حقيقةً جنَّةْوتُطلقُ الغِناءْ، في الأرضِ والسماءْهاهمْ أولاديَ، عادوا إلى صفدْهنيئاً لكِ يا روحْ، عاد إليكِ الجسدْ