الثلاثاء ١٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصة "الخروج "

للقاص محمود شقير

ظهرت قصة "الخروج" في مجموعة "الولد الفلسطيني" الصادرة طبعتها الأولى في القدس، عن منشورات صلاح الدين، في العام 1977، المجموعة التي سيصدرها القاص في العام 1990في القاهرة في طبعة خاصة مع مجموعته الأولى "خبز الآخرين" (1975)، بعد أن حذف منها بعض القصص، وأسقط عنوانها الخاص بها، لتغدو المجموعتان معا تحت عنوان الأولى – أي خبر الآخرين، بالإضافة إلى عبارة "وقصص أخرى "، والقصص الأخرى هذه هي، إذن، بعض قصص"الولد الفلسطيني" .وقد أعاد شقير طباعة طبعة القاهرة في القدس، في العام 1995، بعد عودته إليها، من المنفى .

وسيكتب القاص في نهاية القصص الأخرى، الملاحظة التالية:

"كتبت هذه القصص في الفترة مابين 1975- 1977، ماعدا قصة واحدة هي ..."الخروج" التي كتبت عام 1969."
وليست الملاحظة هذه دون دلالة، ذلك أن قصة "الخروج " تنتمي شكلا – أي من حيث الشكل – إلى قصص"خبز الآخرين"التي أنجز أكثرها قبل العام 1967، عدا واحدة هي"البلدة القديمة"

التي كتبت بعد الهزيمة، وتحديدا في العام 1968. وكان يفترض أن تدرج قصة "الخروج"، اعتمادا على شكلها، لا على بنائها الفني، ضمن :" خبز الآخرين ". وأما اعتمادا على الموضوع، فكان ينبغي أن تدرج، هي و"البلدة القديمة " ضمن الولد الفلسطيني ؟ لماذا؟لأنها تخوض في الموضوع نفسه الذي تخوض فيه بقية القصص، قصص "الولد الفلسطيني"، هزيمة حزيران وما نجم عنها، أما من حيث بقية القصص فقد لجأ القاص إلى التجريب والابتعاد عن كتابة القصة تقليدية الشكل، وغدت لغته أكثر شفافية، وفصيحة، فقد ابتعد في أكثر ما كتبه في نهاية السبعينات وما بعدها، عن توظيف العامية التي غلبت على لغة الحوار في قصصه الأولى.

بين يدي القصة:

تصور هذه القصة ما ألم بقرية فلسطينية اثر هزيمة حزيران 1967، إذ انقسم مواطنو القرية إلى قسمين، قسم يريد الهجرة خوفا من أن يكرر اليهود ما فعلوه في دير ياسين في العام 1948، فيقتلوا ويغتصبوا النسوة، وقسم يرفض الهجرة، ويقرر البقاء على أرض الوطن والصمود، ومن ثم، مقاومة الاحتلال. يرحل من يرحل ويبقى من يبقى . والفكرة هذه طرقت، من قبل، في قصص فلسطينية أنجزت عن نكبة العام 1948، ولاحظنا هذا في قصة توفيق فياض"الكلب سمور"، من مجموعة" الشارع الأصفر" (1968)، ولاحظناه أيضا في قصص أخرى كتبت قبل"الكلب سمور"، وتحديدا في قصة"أمر الاختيارين" لنجوى قعوار فرح. تتكرر التجارب، فتتكرر الكتابة، ولا ادري إن كان شقير قرأ قصتيْ فياض وقعوار.

الكاتب الأيدولوجي والسارد المنحاز :

حين أنجز شقير قصته هذه كان على صلة بالحزب الشيوعي الفلسطيني، الحزب الذي أخلص له، وظل وفياً لأفكاره، فأبعد بسبب نشاطه فيه، في العام 1975، وتعرض لمضايقات عديدة، وهو في المنفى، أيضا، بسبب استمراره في عضويته.
ولما كان من أهم مبادئ الواقعية الاشتراكية التي آمن بها شقير، كونه شيوعيا، حزبية الأدب والأديب، وشعبية الفن ووظيفته، فإننا نلحظ هذا، أوضح ما يكون، في قصته" الخروج"، القصة التي تمثل فهمه، في حينه، للواقعية، قبل أن يتغير- أي فهمه، وهذا ما سيعبر عنه في مقابلات عديدة، وفي مقالات أيضا عديدة نشرها في الصحف . (انظر: محمود شقير:عن أدب المقاومة والواقعية، الطريق، العدد18، كانون ثان2005، ملحق يوزع مع جريدة الأيام ) .

يخدم شقير في قصته أفكار الحزب، ويدافع عنها وعنه أيضا، بل يبدو، من خلال سارده، منحازا لمن يدافع الحزب عنهم، ويقف ضد أولئك الذين يتبنون أفكارا أخرى، مناهضة لأفكار الحزب.
يختار شقير لقصته شخوصا ذوي دلالات رمزية، يختار طحانا وحجارا، ومقابلها يختار شيخا ومختارا. يضع هؤلاء مقابل هؤلاء، ويترك شخصية القصة المحورية الحائرة، وهي شخصية عادل أبو جابر، تقارن بين سلوك هؤلاء وسلوك هؤلاء، وبين أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء، وبين أفكار هؤلاء وأفكار هؤلاء، لينحاز عادل أبو جابر، في نهاية القصة، إلى الطحان، إلى سلوكه وأقواله وممارساته.

وكما ذكرت يختار شقير قرية فلسطينية ليصور، من خلالها، ما ألم بسكانها إثر هزيمة العام 1967. هزمت دولة إسرائيل ثلاث دول عربية، وستدخل، عما قليل، إلى قرية، فماذا سيفعل سكانها الذين ما زالت تجارب العام 1948 ماثلة في أذهانهم، سكانها الذين يفضل أكثرهم العرض على الأرض. وسيبدأ الخروج، سيتكرر هذا الحدث ثانية. كان الخروج الأول في العام 1948، وها هو الخروج الثاني يمارسه الناس، دون أن يتعلم أكثرهم من تجربة الخروج الأول.

سيشرع المختار وشيخ الجامع وآخرون بالاستعداد للرحيل، وسيبقى العامل الطحان في مطحنته، لأنه يريد الصمود ومقاومة الاحتلال، وسيحث الناس على ذلك، ما يجعل المختار وشيخ الجامع يسخران منه، ويهجوانه، فهو شيوعي (بلشفيك)، يدعو إلى التعايش مع إسرائيل، وهو فوق هذا لا يهتم بالعرض . هكذا كان بعض الناس ينظرون إلى الشيوعيين. ويبرز القاص، من خلال شخوصه، للشيوعيين، فكرة مغايرة، فهم يحافظون على العرض أكثر من المختار وشيخ الجامع عشرين مرة، وهم أيضا يدعون إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وسيبرز القاص للطحان صورة أكثر إشراقا، فإذا كان الناس نهبوا مخلفات الجيش الأردني، فان الطحان لم يمارس النهب. وهكذا تغدو القصة قصة يدافع فيها كاتبها عن الشيوعيين، فيمجدهم، وفي المقابل يفضح الآخرين ممن يعتنقون أفكارا أخرى، موروثة، تحارب الفكر الشيوعي .

وسيبدو انحياز السارد، ومن ورائه الكاتب – إذ ليس هناك ما يشير إلى أنهما مختلفان-، انحيازا واضحا للشخصيات ذات الدلالة الرمزية، الشخصيات التي تنتمي إلى الحزب الذي يدافع عنه، الحزب الذي يتبنى الطبقة العاملة ويدافع عنها وعن طموحها في السيطرة على مقدرات الحكم/ ليتخلص العالم من الاستغلال، ذات يوم. الطحان جدع. وهذا ما يورده السارد نفسه.فهو- أي السارد – ان كان شخوص القصة ينقسمون فيما بينهم، حول الطحان، يؤيده فريق ويدافع عنه ويفضله على المختار، ويعارضه فريق ويقلل من شأنه، بل ويهاجمه ويزعم أنه بلا أخلاق، فإن السارد/الكاتب، له رأي في الطحان، وهكذا ينعته بأنه جدع، ما يعني أن السارد ليس محايدا، بل هو سارد منحاز، وانحيازه يبدو أوضح ما يكون للطحان. وسنجد أن عادل أبو جابر، في نهاية القصة، يرفض ممارسة سلوك المختار وشيخ الجامع اللذين يرحلان، ويمارس ما مارسه الطحان: البقاء على أرض الوطن، والصمود لمقاومة الاحتلال .

شتم الوطن/الانتماء إلى الوطن:

يورد السارد ما يلي عن موقف عادل أبو جابر من القرية :

"اندس عادل أبو جابر في الزقاق، وأحس بالوحشة والكآبة... ياما كان يسب البلد ويلعنها حينما يعبر الزقاق الرطب... كانت برك المياه الآسنة تلفحها برائحتها العفنة، فيرفع يديه إلى السماء مبتهلا: يارب .. زلزال يردم هالبلد وما يخلي من أهلها أحد. ولكنه الآن يشعر أن رائحة الزقاق المألوفة تثير في نفسه مشاعر مفعمة بالحسرة والحزن ..."

وتبرز الفقرة السابقة، على لسان السارد العليم بما يعتمل في نفوس من يروي عنهم، موقفين لعادل أبو جابر من القرية/ الوطن. الأول قبل الهزيمة حيث كان يتمنى لها الهلاك والدمار. من خلال زلزال رباني يدمرها، لأن أهلها لا يستحقون الحياة، حيث لا نظافة ولا تنسيق، والثاني بعد الهزيمة، فمع أن رائحة الزقاق، الآن، هي رائحة الزقاق من قبل، الرائحة المألوفة، إلا أنها غدت تثير في نفسه مشاعر مفعمة بالحسرة والحزن، كل ذلك لأنه سيخسرها، بسبب الهزيمة التي استوعب معناها، حيث سيترك قريته وتعبه وشقاه ليعيش في المنافي.
وربما تذكر المرء هنا ما كتبه محمود درويش عن التملك والخسارة. حين نمتلك الأشياء تفقد معناها، وحين نخسرها تكتسب معنى جديداً مغايراً: يصبح الحلم سيفا، حين يبلغه صاحبه ويقتله.نحلم بفلسطين، وحين نمتلكها تصبح عادية، ونخسر فلسطين التي لا يعجبنا ما فيها، من بشر وشوارع وبؤس، فنراها، وقد خسرناها، الجنة، وندافع عنها.

هل كان(ثيودور هرتسل)إذن مصيبا حين نعت فلسطين، حين زارها بطله، بأنها مستنقعات؟ لماذا إذن نرد عليه ونرفض مقولته؟ لماذا ردّ عليه كنفاني في روايته"عائد إلى حيفا" (1969) لماذا جعل بطله سعيد. س يقول لزوجته صفية، بعد أن رأت ما قامت به الصهيونية خلال عشرين عاما وما أجرته من تحسينات، لماذا جعل كنفاني سعيد. س يقول لزوجته: كان بإمكاننا أن نجعلها أفضل بكثير؟
ولا أريد أن أناقش هنا الأمر بتوسع، فسواءٌ جعلنا فلسطين أفضل مما جعلها اليهود عليه، أو لم نجعلها، وسواء أكانت صحراء قاحلة أم لم تكن ؟ مستنقعات تكثر فيها الحشرات ويصاب سكانها بالملا ريا أم لم تكن؟ فان هذا لا يبرر للحركة الصهيونية ما قامت به، حيث اقتلعتنا من أرضنا، ورمتنا في المنافي. نشتم الوطن والناس ونحن فيه وبينهم، وحين نغادره ونغادرهم، نحن إليه واليهم. ترى هل نكرر: الحجر مكانه قنطار، وهل نكرر قول الشاعر:

بلادي، وإن جارت علي، عزيزة
وأهلي، وان ضنوا عليّ، كرام
وهل نكرر أيضا ما قاله مظفر النواب في قصيدته: " المسلخ الدولي: باب أبواب الأبجدية":

فلا أحبابه يوما بأحباب، ولا سألوا
وما مسحوا له دمعا كما الأحباب، بل عملوا
ونقل قلبه، لكنهم كانوا هم الأول
فلم يعدل بنخلة أهله الدنيا، فنخلة أهله الأزل
وماؤهم الذي يروي، وماء أخر بلل

ثنائية الأرض / العرض:

تبرز هذه القصة ثنائية أخرى هي ثنائية الأرض/ العرض، وهي ثنائية سيتوقف أمامها دارسو علم الاجتماع، ممن درسوا المجتمع العربي، مثل د.حليم بركات في كتابه: المجتمع العربي المعاصر، ورأوا أن تفضيل العرض على الأرض، كان سببا من أسباب تفريغ فلسطين من سكانها العرب، وتقديمها، كما لو أنها هدية، لليهود لإقامة دولتهم . ويبدو أن الحركة الصهيونية نفسها أدركت جيدا نفسية الإنسان العربي، فارتكبت في هذا الجانب أفعالا ساعدت على ترحيل الفلسطينيين، هي التي كانت توظف أيضا فتياتها، وما زالت، للإيقاع بالشباب العرب، من الإقطاعيين سابقا، ومن المقاومين حاليا، حتى تجبر الأولين على بيع الأرض، والآخرين على التعامل معها .

وليست هذه فرية عربية، فلقد أنجزت رسائل ماجستير في الجامعات الإسرائيلية عما قامت به الحركة الصهيونية، أيام الانتداب، من اجل تنفيذ مخططاتها، وأتت على توظيف فتيات يهوديات مضيفات يدخلن السرور إلى قلوب الجنود البريطانيين. ولقد أشار المؤرخ الإسرائيلي (إيلان بابيه) في كتابه الصادر مؤخرا: "التطهير العرقي" (2007) إلى ممارسة سلوك الاغتصاب من أجل ترحيل العرب في العام 1948.
ويعرف من تعرض للسجن أيام الاحتلال أن عناصر الشاباك كانت تبتز المناضلين بإحضار أمهاتهم أو أخواتهم أو زوجاتهم من أجل تهديديهم، حتى يعترفوا. وليست هذه أيضا فرية. سنقرأ في قصة "الخروج" المقطع التالي حول ثنائية الأرض/ العرض:

"هذي آخرتها، عيش يا أبو جابر، واتعب واشقى، وبعدين أترك دارك وحقلك وبقرتك، واطلع تلطوط على وجهك مثل النوري في بلاد الناس، وأنا مش قاهرني إلا ملعون الوالدين اللي جاء البارح من القرية المجاورة يصيح وزرع الرعب في قلوب الناس: يا ناس، هجموا على القرية، وطوقوها، وفظعوا في البنات والحريم، وذبحوا الشباب مثل ما تذبح الغنم...."
وسيتذكر الناس ما حدث في دير ياسين، وسيحاول بعضهم أن يكرر تجربة اللجوء/ الخروج، وسيحاول آخرون حث الناس على البقاء، باعتبار الخروج خيانة للوطن، وسيكون الطحان، النموذج الذي يبث السارد، من خلاله، آراءه، هو من يقول هذا. وأما شيخ الجامع فسيقول: يا ناس.. هذا الطحان كافر، وإن سمعنا كلامه هتكوا عرضنا، وسيوجه خطابه للطحان: وأنتو بلشفيك لا يهمكم العرض. وسيكون جواب الطحان على رأس لسانه: والله يهمنا أكثر منك ومن عشرين لفة مثل لفتك.

وأقول أن الطحان هنا إنما ينطق بلسان محمود شقير، لأن الأخير في بعض كتاباته ومقابلاته أشار إلى أنه قبل أن ينتمي إلى الحزب الشيوعي كان حذرا لسبب يتمثل في الفكرة الشائعة عن الشيوعيين، وهي عدم التفاتهم إلى العرض، وأن المرأة لديهم مشاع، ولن يتردد شقير في الانتماء إلى الحزب وقبول الأفكار الشيوعية حين أدرك أن الشيوعيين يحافظون على العرض، وأن الفكرة الشائعة عنهم في هذا الجانب، ليست صحيحة إطلاقا.
دال العنوان:

إلام يوحي دال العنوان "الخروج"؟ هل اختيار القاص لهذا الدال، لا لدال البقاء أو الصمود، يعني أنه مع الخروج، وأنه يقف إلى جانب المختار وشيخ الجامع، لا إلى جانب الطحان وعادل أبو جابر؟ إذا قلنا نعم، فمعنى ذلك أننا سنخالف ما ذهبنا إليه سابقا. وربما كان الأجدر أن يختار القاص دال "البقاء" عنوانا للقصة، لأنه يريد تعزيز فكرة البقاء، لا فكرة الخروج، ولأن الطحان الذي يعجب به السارد يختار البقاء، بل ويختار عادل أبو جابر المتردد البقاء أيضا.

وإذا كانت النهاية تعزز فكرة البقاء، إذ تنتهي القصة بالأسطر: "وارتسمت صورة الطحان في مخيلته، ثم غذ السير صوب القرية"، فقد كان على القاص أن يختار أيضا عنوانا يعزز هذه الفكرة، لا عنوانا يقول نقيضها. وهذا اجتهاد.

النهاية التفاؤلية:

في أثناء الحديث عن الكتاب الذين انطلقوا في كتابتهم من منطلق الواقعية الاشتراكية، يجدر التوقف أمام نهايات قصصهم، ذلك أن (جورج لوكاتش) أبرز منظري الواقعية الاشتراكية، أتى في كتابه "معنى الواقعية المعاصرة" على أهم الفروق بين الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية ومنها النهايات التي تبدو في الأخيرة متفائلة تبعث على الثقة بالمستقبل، في حين تبدو في الأولى متشائمة تقول إن الواقع أسود. ويبدو أن هذا لم يغب عن ذهن محمود شقير الذي أنهى قصته بالأسطر التالية:

"وكان غضب عادل أبو جابر يتلاشى كمياه بركة في يوم حار.. وفي المدى البعيد، كانت بيوت القرية منزرعة تحت وهج الظهيرة في رسوخ وثبات، وثمة مئات من الشبابيك والأبواب تطل على الطريق الترابية بصمت حزين لكأنها تودع النازحين بعيون خفية دامعة.. وفي السهل المترامي إلى الجنوب، تمتد أسراب من أشجار الزيتون التي غرسها الأجداد، وكانت هي الأخرى ترنو إلى الطريق الترابية برؤوسها الكئيبة.. كان عادل أبو جابر يتفحص البيوت والحقول والأشجار، وحينما سمع الدقات الرتيبة المنبعثة من المطحنة، توقف قليلا، وارتسمت صورة الطحان في مخيلته، ثم غذ السير صوب القرية."

بيوت القرية منزرعة تحت وهج الظهيرة في رسوخ وثبات. حقا إن رؤوس أشجار الزيتون كئيبة، لكن عادل أبو جابر غذ السير صوب القرية، لا صوب الشرق، ولم ترتسم في مخيلته إلا صورة الطحان الذي دعا إلى الثبات والمقاومة، لا إلى الرحيل والهجرة.

توظيف التراث الشعبي:

التفت، وأنا اكتب عن قصة توفيق فياض "الحارس"، إلى جانب فني يتمثل في توظيف المثل الشعبي، وأتيت أيضا على توظيف خليل السواحري له في قصصه. وسيلحظ المرء في قصص محمود شقير الأولى انه كان يوظف الأغنية الشعبية، العتابا والميجنا، وهذا ما تخلى عنه فيما بعد، في قصصه منذ "طقوس للمرأة الشقية" وما بعدها. بخاصة حين لم يعد يختار شخصياته من الواقع الذي كان قريبا منه في بداياته، وابتعد عنه بسبب إبعاده، إجبارا لا طوعا.

يختار شقير في "الخروج" شخصيات ريفية، وليس غريبا أن ترد الميجنا والعتابا على لسانها، وليس غريبا أيضا أن تبرز هذه في القصة. سيسمع عادل أبو جابر دندنة تنبعث من نهاية الزقاق.

شالوا الخيام بالليل ما ودعونا وهيلي يا دموع العين إن كنت حنونا
وسيدندن أبو صالح بصوت حزين ممطوط:
جيت أودعك يا دار رايح غريب وع بلاد الناس رايح

ولن يقرأ المرء في القصة كتابة بالعربية الفصيحة، عدا ما يرد على لسان السارد، بل سيقرأ عبارات ترد باللهجة العامية على لسان شخوص القصة، تتناسب ولغتهم في الواقع، وهذا أيضا ما سيتخلى عنه محمود شقير في قصصه في مرحلة الثمانينات وما بعدها، لتغدو قصته، غالبا، مصوغة بالعربية الفصيحة.

كلمة أخيرة:

في العام 1977 أو العام 1978 قدمت قراءة لمجموعتي "خبز الآخرين" و"الولد الفلسطيني" ونشرتها في جريدة الفجر المقدسية. وتوضح قراءتي هذه، حين يقارنها المرء بقراءتي الأولى، الفارق بين قدرتي النقدية في زمنين مختلفين. وسأستحضر هنا، ثانية وثالثة ورابعة... الخ، مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمان (ياوس وايزر): إن قراءة نص واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين". وسأكرر عبارتي التي نسجتها على مقولة (ياوس وايزر): إن كتابة كاتب نصا ما حول فكرة ما في زمنين مختلفين تؤدي أيضا إلى كتابتين مختلفتين، وعليه سأقول: إن موقف كاتب ما من نص له، في زمنين مختلفين، ستؤدي غالبا إلى نظرتين مختلفتين، ما لم يتطور هذا الكاتب. إن تغير وثقف نفسه، واختلفت آراؤه ورؤاه، فلسوف ينظر إلى نصوصه السابقة نظرة مختلفة. وهذا ما نلحظه لدى شقير نفسه.
سأعتمد على مقالة نشرها شقير تحت عنوان "عن أدب المقاومة والواقعية" (الطريق، ع18، كانون ثاني 2005) لتبيان نظرة شقير إلى قصته هذه "الخروج".

لا أظن أن شقير ينظر الآن إلى هذه القصة بعين الرضا، ولكنه كان يفعل ذلك حين كتبها. لماذا؟ لأن نظرته إلى أدب المقاومة من ناحية، وإلى أدب الواقعية الاشتراكية من ناحية ثانية، قد تغيرت. وهذا ما يقر هو به شخصيا في المقالة المذكورة. ولم يكتف بالإقرار بذلك، بل لقد أقدم على ما يعزز هذا، فهو لم يعد يكتب نصوصا على شاكلة تلك التي كتبها في مرحلة الستينات، وهو أيضا عمد على إسقاط بعض القصص التي تتسم بالشعارية والمباشرة والأيديولوجيا، حين أعاد نشر مجموعاته الأولى أو التي تلتها وحفل بعضها بما حفلت به قصصه الأولى. وربما يكون للأمر هنا عودة. وهو أيضا حين عاد يكتب قصصا تعالج الواقع الفلسطيني، برزت في "صورة شاكيرا" و"ابنة خالتي كوندليزا" كتبها بأسلوب مغاير، وقد أقر بهذا مرارا، في المقابلات التي أجريت معه، وفي المقالات التي كتبها وعبر فيها عن تجربته الكتابية.
سأقتبس الآراء التالية من مقالة شقير المذكورة، وهي آراء تعزز ما ذكرته.
"ضمن هذا السياق، فإنني كنت ميالا، في نصوصي القصصية التي كتبتها في السنوات الأخيرة، إلى الابتعاد عن الرصد المباشر لواقع الانتفاضة الفلسطينية.."

"انطلاقا من ذلك، فإنني أدعو إلى إعادة النظر في فهمنا للواقعية الاشتراكية، وفي ضوء تجربتي الشخصية في هذا المجال، فلا بد من الاعتراف، بأنني كنت أكتب القصة وأنا متسلح بموقف مسبق من الواقع. والشخصيات التي كنت أخلقها في هذه القصص، كانت محكومة بنظرتي الأيديولوجية المسبقة، بحيث يصبح المختار أو شيخ الجامع أو الفلاح الفقير، نمطا معروفا سلفا، تتحدد صفاته وتصرفاته وفقا لموقفي الأيديولوجي من الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها كل واحد منهم، وليس السياق الذي يحكم القصة والشخوص، وما يعنيه ذلك، من احتمالات أن يتصرف المختار أو غيره بطريقة مخالفة لما قررته له سلفا."

ويقول شقير أيضا الشيء نفسه عن النهايات التفاؤلية التي كانت تمتاز بها قصصه الأولى، ويرى أن ذلك كان يعود إلى فهمه المسطح للواقعية، وإلى التنظيرات التعبوية التي تسللت في زمن ما إلى الواقعية الاشتراكية " فقد كنت... معنيا باسباغ التفاؤل، ولو كان غير مبرر، على نهايات القصص، بحيث تشتم رائحة التبشير والقصدية وحتمية انتصار قوى الخير، تلك الحتمية التي قد لا تكون هي الخيار الذي لابد منه".
ولسوف تكون دراسة، تقوم على منهج التوازي، مجدية حين يقرأ قارئ ما أراء شقير في العام 2005، وآراءه في العام 1977، ولسوف تكون دراسة ثانية، لما أنجزته أنا ألان في العام 2007 ولما أنجزته في العام 1977 أو 1978، لسوف تكون أيضا دراسة مجدية، لتقول لنا ما التطورات التي طرأت على القاص وعلى ناقده أيضا .

للقاص محمود شقير

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى