الخميس ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصة غريب عسقلاني "الجوع"

ينتمي غريب عسقلاني (إبراهيم الزنط) إلى جيل كتاب القصة القصيرة في فلسطين الذي بدأ يكتب في السبعينات من القرن العشرين، الجيل الذي بدأ يؤسس لحركة قصصية انقطعت، إلى حد كبير، عن حركة القصة القصيرة الفلسطينية التي سبقتها، لا رغبة في الانقطاع من أجل التجديد والتجريب، وإنما لأن احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967 فرض ذلك.

كان جيل الرواد يتمثل في خليل بيدس ومحمود سيف الدين الإيراني وعارف العزوني ونجاتي صدقي وعبد الحميد يس. وقد بدأ هؤلاء الكتابة منذ بداية القرن العشرين، فأسسوا المجلات وترجموا وألفوا، ومع العام 1948، عام النكبة، تفرقوا أيدي عرب. أقام الإيراني والعزوني ويس في الأردن، وواصل الأول كتابة القصة، ودرس على أنه أديب أردني، ومثله يس، وأما العزوني فلم يصدر أية مجموعة قصصية، وإن واصل كتابة القصة. وأقام بيدس في بيروت، وسرعان ما توفي (1949)، وواصل صدقي الكتابة، فأصدر، بعد مجموعته الأولى "الأخوات الحزينات"، مجموعة "الشيوعي المليونير" (1963).

وتلا هذا الجيل في كتابة القصة جيل جديد، من أبرز أعلامه في المنافي سميرة عزام التي أصدرت خمس مجموعات قصصية، وجبرا إبراهيم جبرا الذي أصدر مجموعة واحدة في العام 1956، ليتفرغ لفن الرواية، وليحث الكتاب على التوجه نحوه، فأصدر حتى وفاته ست روايات جعلته علما من أعلام الرواية الفلسطينية والعربية، وغسان كنفاني الذي كتب القصة القصيرة، فصدرت له خمس مجموعات قصصية، وكتب إلى جانبها الرواية القصيرة والمسرحية، وعرف روائيا أكثر، فالتفت إلى رواياته أكثر من الالتفات إليه قاصا.

ومع بداية الستينات من القرن العشرين بدأت كوكبة جديدة من الكتاب تكتب القصة القصيرة، وتنشرها على صفحات مجلة "الأفق الجديد"، وعرف جيل هؤلاء بجيل الأفق الجديد، وأبرزهم خليل السواحري ومحمود شقير وماجد أبو شرار وحكم بلعاوي وصبحي شحروري ونمر سرحان. وقد واصل هذا الجيل الكتابة، فمنهم من ظل وفيا لفن القصة القصيرة (شقير) ومنهم من التفت إلى الرواية (يحيى يخلف)، ومنهم من انقطع عن كتابتها ليتفرغ للعمل السياسي (أبو شرار)، ومنهم من واصل كتابتها على حياء، فقد مارس كتابة أنواع أدبية أخرى، كالمقالة والنقد (شحروري، السواحري، نمر سرحان).

ولما كانت الهزيمة لم يكن من هؤلاء في الضفة والقطاع إلا أقلهم، وتحديدا شقير والسواحري اللذين أبعدتهما سلطات الاحتلال إلى العالم العربي، الأول في العام 1975 والثاني قبل ذلك- أي في العام 1968، وذلك لنشاطهما السياسي. وهكذا غدت الضفة الغربية خلوا من أدباء جيل الأفق الجديد.

في منتصف السبعينات بدأ جيل جديد من الكتاب يكتب القصة القصيرة وينشرها على صفحات الجرائد المحلية والمجلات التي أخذت تصدر (البيادر، الكاتب) وعلى صفحات جرائد فلسطين المحتلة في العام 1948 ومجلاتها (الاتحاد، الجديد). ولم يكن لأكثر هذا الجيل صلة بأجيال القصة القصيرة السابقة، باستثناء الكاتب جمال بنورة الذي بدأ الكتابة في أواسط الستينات تقريبا. ويتمثل هذا الجيل الجديد في غريب عسقلاني وزكي العيلة ومحمد أيوب وآخرين من غزة، وفي أكرم هنية وسامي الكيلاني وآخرين من الضفة. وقد واصل هؤلاء كتابة القصة، فصدر لكل واحد منهم غير مجموعة قصصية، بل وأخذ بعضهم يكتب الرواية القصيرة، مثل غريب عسقلاني وعبد الله تايه وجمال بنورة.

وإذا كان هذا الجيل لم يطلع على قصص الرواد والأجيال التي تلته من كتاب القصة القصيرة في المنفى، فإنه كان أوفر حظا في الإطلاع على القصة القصيرة التي كتبها أدباء فلسطين المحتلة في العام 1948: حنا إبراهيم ومحمد نفاع وإميل حبيبي وتوفيق فياض ومحمد علي طه، ذلك أن بعض مجموعات هؤلاء وجدت طريقها لكتاب الضفة والقطاع، عدا أن بعض هؤلاء كان يطلع، بين فينة وأخرى، على صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد، بل وأخذ ينشر على صفحاتهما أيضا، بتشجيع من إميل حبيبي الذي نشر قصص مسابقة أجرتها جامعة بيت لحم على صفحات الاتحاد.

قصة الجوع: الدجاجة التي باضت شهرة:

هناك نصوص أدبية تبيض لأصحابها ذهبا، مثل نص الكاتب المغربي محمد شكري "الخبز الحافي"، فقد عاش صاحبه من وراء ترجماته، عدا أنه هو النص الذي حقق له شهرة واسعة. ومن النصوص التي حققت لأصحابها شهرة واسعة أيضا نص "قنديل أم هاشم" للكاتب المصري يحيى حقي، ورواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح، ورواية "عمارة يعقوبيان" للكاتب المصري علاء الأسواني. وقد عرف هؤلاء كلهم من خلال نص واحد، كان له تأثيره، ولا شك، على حياة الكاتب وبقية نصوصه. هل نقول أيضا أن قصة "الجوع" لغريب العسقلاني هي الدجاجة التي باضت له شهرة؟

نعم، يمكن قول ذلك، فهي أكثر أعماله انتشارا منذ صدرت. لقد نشرت في غير كتاب، وفي غير أنطولوجيا (مختارات) قصصية فلسطينية، وترجمت، دون غيرها، من نصوص الكاتب، إلى غير لغة.

نشرت في مختارات سلمى الخضراء الجيوسي، ومن قبل في أنطولوجيا القصة القصيرة الفلسطينية (1991) ومن قبل في "27 قصة قصيرة من القصص الفلسطيني في المناطق المحتلة" (1977)، وفي كتاب فخري صالح "القصة الفلسطينية القصيرة في الأراضي المحتلة" (1982)، ونقلت إلى الألمانية، فيما أعرف. وقد تناولها في دراساتهم كتاب كثيرون. ونشير أيضا إلى أن مجلة "مشارف" (حيفا) أعادت نشر القصة في كانون الأول من العام 1995.

بين يدي القصة:

قصة "الجوع" هي قصة مواطن فلسطيني (سعيد) بدأ حياته مناضلا ومقاوما للاحتلال الإسرائيلي، فقد انضم إلى المقاومة ما أدى إلى سجنه، حيث أنفق فيه بعض سنوات من عمره، وهناك التقى بالرفاق المقاومين، وقاوموا أيضا السجان الإسرائيلي واشتبكوا معه، ما كان يعرضهم أحيانا إلى قمع مضاعف، حيث يجبرهم السجان على بناء غرف جديدة تضم في جوفها مقاومين جددا يأسرهم الاحتلال.

يخرج هذا المناضل من السجن، ويغدو بلا عمل، ولما كان متزوجا وله أسرة، فهو مضطر لأن يطعمها، وهكذا يجد نفسه يبحث في مدينته غزة عن عمل لا يجده، فأرباب العمل، حين يعلمون عن ماضيه النضالي، يترددون في تشغيله، وهكذا نجده ينعت مدينته بنعوت قاسية: مدينة فاجرة وجاحدة وقاسية وزانية. يضطر سعيد لأن يبيع مصاغ زوجته حتى تسد الأفواه رمقها، وما أن ينفد المخزون، حتى يجد نفسه يمارس ما كان يعارضه ويقاومه: العمل في مصانع دولة إسرائيل ومرافقها. كان قبل أن يسجن يُعنف الذين يعملون في مرافق دولة الاحتلال، وكثيرا ما تعرض لهم، ومنعهم من مواصلة رحلة العمل.

وسيسري سعيد، ذات صباح إلى داخل الوطن المحتل في العام 1948، بحثا عن فرصة عمل يتمكن من ورائها إطعام أسرته، وسيعمل مع من كان يقف ضد عملهم، سيعمل مع المعلم أبي محمود الذي تعرض له شخصيا.

فكرة مطروقة:

وفكرة العمل في مصانع دولة إسرائيل ومرافقها فكرة مطروقة في نصوص الأدب الفلسطيني، فقد صور معاناة عمال الضفة الغربية وقطاع غزة في مصانع دولة إسرائيل كتاب بارزون منهم إميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974)، وسحر خليفة في روايتها "الصبار" (1976)، واضطرت هذه لأن تسري مع العمال، في الباصات والشاحنات، لتعيش تجربتهم وتكتب عنها. وجاءت قصة غريب عسقلاني لاحقا لهذين العملين الروائيين، وإن كانت الكتابة عن معاناة العمال لم تنقطع، إذ خاض فيها قصاصون آخرون، ولعل رواية المحامي مشهور البطران "آخر الحصون المنهارة" (2005) تعد مهمة في هذا الجانب.

الزمن الكتابي وأفكار اليسار والكتابة ومحمود شقير:

أنجز عسقلاني قصته، كما ذكرت، في منتصف السبعينات من القرن العشرين، وكان قريبا من التنظيمات اليسارية الفلسطينية التي ساد خطابها في حينه، حتى طغى على الخطاب القومي الذي ساد أيام مصر الناصرية- أي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ولقد انعكس الخطاب اليساري في الأدبيات السائدة في القصص والقصائد والروايات، بخاصة لدى كتاب اليسار ومن كان قريبا منهم، تماما كما ساد خطاب القوميين وبرز في أدبيات المرحلة السابقة، وإن كان الخطاب اليساري برز أيضا في مرحلة الخمسينات والستينات لدى كتاب الأرض المحتلة (درويش والقاسم وزياد وحبيبي وحنا إبراهيم وغيرهم). وربما يلحظ المرء الخلاف واضحا حين يقارن نصوص ناصر الدين النشاشيبي بنصوص درويش والقاسم وإبراهيم. ولكن هذا الاختلاف ليس كليا، فثمة تقاطع فيه يتمثل في نظرة اليسار والقوميين إلى اليهود العرب بعامة.

رأى النشاشيبي في اليهود العرب عربا. إنهم عرب بالدم، فالدماء العربية تجري في عروقهم. وأما اليسار فقد نظر إليهم على أنهم ضحية لليهود الغربيين الصهيونيين، حيث، اضطهدهم هؤلاء، وتركوهم في أسفل السلم الاجتماعي، يليهم العرب.

ولقد ترك الخطاب اليساري أثره على غريب عسقلاني، وتمثل هذا بوضوح في تصويره للصراع في القصة. يقوم الصراع أساسا بين المناضل سعيد وغيره ممن يذهبون إلى العمل في مصانع العدو، ولكنه سرعان ما يتحول إلى صراع طبقي، بين المضطهدين عربا ويهودا غربيين. بين سعيد والعامل أبي محمود والعامل اليهودي الشرقي عزرا من ناحية، وبين صاحب العمل شلومو من ناحية ثانية، فحين يزور الأخير مكان العمل يلحظ تراخي العمال بسبب ضعف عزرا، يوبخهم ويطردهم. وهنا يقف سعيد إلى جانب عزرا.

ويقابل هذا في القصة اضطهاد للسجانين أيضا. كان سعيد في السجن يبني ويبني معه زملاؤه العرب، يبنون غرفا جديدة لسجناء جدد فيما يضطهدهم السجان. وسعيد الآن، مع أبي محمود وعزرا اليمني يبنون للقادمين من وراء البحار، لليهود الغربيين الذين تنتفخ جيوبهم، في حين يموت أبناء عزرا والعرب من المرض والفقر وقلة ما في اليد، على الرغم من أن عزرا يعمل في مهنتين.

والسؤال الذي يثيره المرء الآن، بعد مرور ثلاثين عاما على كتابة القصة هو: كيف ينظر غريب عسقلاني الآن إلى قصته، وإن أعاد كتابتها، فهل سيكتبها كما هي؟

وربما أذكر هنا بما أوردته في مقالتي السابقتين عن محمود شقير، وقصتيه "الخروج" و"صورة شاكيرا". لم يعد شقير ينظر بعين الرضا إلى قصصه المبكرة، لأنها كانت قصصا نمطية، يصور فيها العالم وفق رؤية مسبقة، فالمختار وشيخ الجامع شريران سلفا، والطحان والحجار طيبان سلفا. هل كانت نظرة أكثر كتاب اليسار في السبعينات تنبثق من الرؤى المسبقة أكثر من كونها تصويرا للواقع المعيش؟ مجرد تساؤل أترك لغريب عسقلاني الإجابة عنه، وإن كنت أدرك أن كثيرين منا كانوا يتعاطفون مع اليهود الشرقيين باعتبارهم ضحية، ولكن هؤلاء كانوا أكثر قسوة من اليهود الغربيين، حين كانوا يخدمون في المناطق المحتلة.

حول الأسلوب:

لا يطغى على القصة، من أولها إلى آخرها، أسلوب واحد هو صياغتها عبر الضمير الثالث الذي تبدأ القصة به "أحكم سعيد لف حطته..."، فلقد تخللها، عدا الحوار الجزئي فيها الذي تم بالعربية الفصيحة، مع بعض مفردات عربية، السردُ بالضمير الثاني- أي الأنا/ أنت، وكثيرا ما نصغي إلى سعيد يخاطب نفسه "ومدينتك الغانية تغمز بعينيها أينما رأتك"... و"تتسلى بالحقد على عشاق مدينتك الفاجرة".

وهذا الأسلوب، أسلوب الأنا/ أنت، أو الضمير الثاني عرفته القصة الفلسطينية منذ سميرة عزام ومرورا بغسان كنفاني في "رجال في الشمس" و"ما تبقى لكم"، وفي الأخيرة يبدو واضحا بامتياز. وسيواصله محمود درويش في كتابه النثري "يوميات الحزن العادي" (1974) وكتاب قصة من الضفة والقطاع، وسأصوغ به روايتي "تداعيات ضمير المخاطب" (1993) ونصوصاً أخرى أبرزها "ليل الضفة الطويل" (1993)، وكنت بدأت أكتب فيه، في جريدة الشعب المقدسية، في العام 1981، تحت اسم مستعار هو ميسون. وكلما كان المرء وحيدا وقلقا لجأ إلى هذا الأسلوب الذي هو على قدر كبير من الجمال على أية حال.

وكثيرا ما كان سعيد القلق غير المتصالح مع الآخرين، وأحيانا مع نفسه، يلجأ إليه. كلما بحث عن عمل في مدينته، ورده الآخرون وسخروا منه، يخاطب سعيد نفسه، أو يخاطب الآخرين، إن المخاطب- بكسر العين- واحد، ولكن المخاطب يتعدد، فتارة هو سعيد نفسه، وطورا هو الآخرون، ولنلحظ هذه الفقرة: "مهنتي لا تقدرون عليها. آه لو تعلمون ما هي مهنتي. لقد مارستها حتى نخاع العظم أيها الأنذال.... وها أنت تخرج إلى نور الشمس، والجوع يستبد بك، والدنيا تدير لك ظهرها...".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى