الاثنين ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

قراءة في «نصفي سماء» لآمال جبارة

المولدي عزّوز

عندما نغوص في ديوان "نصفي سماء" للشّاعرة آمال جبارة نستشفًّ الكثيرمن المعاني المعبّرة عن صرخات عميقة واختلاجات متداخلة تصبّ كلّها في بحرمن المشاعر المتلاطمة وهي رحلة مضنية تتدفّق بالمعاني الغزيرة والمقاصد المتنوّعة في مشهديّة مفعمة بشتّى الصّور وبفسيفساء مكتنزة بلوحات تتداخل فيها الألوان والأطياف والأحلام بلغة سلسة رقراقة كان اللّفظ فيها ركيزة أساسيّة لبناء نصّ شعريّ أقامته على صروح متينة ودعائم لغويّة عذبة تلاعبت فيه الشّاعرة كيفما شاءت وبكلّ اقتدار بأجمل العبارات وأرقّها وأصدقها وأقربها إلى الوجدان فركّبتها تركيبا محكما واستحضرت أنبل المعاني ذات الوقع الشّديد على النّفس والتّأثير العميق على الخاطر فخطّت أجود الكلام وأدقّه و لامست كيان القارئ وسبرت أغواره ودغدغت عقله وقلبه فكان لها ما أرادت أن تبلّغه من أصناف المشاعر ومن ضروب الاختلاجات ومن ألوان الأحاسيس وبذلك طوّعت الحرف ليأخذ مكانه في صياغة المفردة التي كانت رهن اشارتها لتوظّفها الشّاعرة في سياقات ذات مدلولات عميقة وأبعاد غير متناهية من الدّلالات وبذلك كانت كلّ كلمة تحمل زخما من المعاني وتحتمل كمّا هائلا من التّأويلات و كانت كلّ كلمة تنبض بالحياة مفعمة بروح متحرّكة في ديناميكيّة متكاملة مع الجملة والمقطع و النصّ وهي في كل ذلك بعيدة كل البعد عن الاجحاف في المعاني وعن الحشو في البنية وعن التّكلّف في اللّغة وفي الجملة وفّقت الشّاعرة في انتقاء ما يناسب ما أرادت أن تبلّغه وما جادت به قريحتها من معاني ومقاصد تأرجحت في مجملها بين المعاناة والهدوء بين الشّقاء والنّعيم بين الخوف و السّكينة في الجملة هو ذاك الصّراع الأزلي بين السموّ بالذّات والخضوع للاكراهات وهو ما أوجزته الشّاعرة في العنوان "نصفي سماء" حيث يظهر التأرجح واضحا بين عالم المثل و القيم وبين عالم الواقع بسلبيّاته فلعمري ان الشّاعر هو كائن يتميّز عن بقيّة البشر بحسّه المرهف وبنفسه الرّقيقة وبذوقه الرّفيع وبطبعه الهادئ وبلين قلبه وبطلاقة اللّسان وإلاّ فلن يكون شاعرا وفي الجملة فهو يتوق و يسعى دائما إلى السموّ الأخلاقي والقيمي والارتقاء بذاته الى مراتب عليا ليحلّق في سماء المثل فهاهو" يجلس على ربوة الوقت" فالرّبوة بما تعنيه من ارتفاع و علوّ و الوقت بما يعنيه من زمن الشاعر الذي تختلف مقاييسه عنده عن مقاييس الزّمن العادي فهو يقيس الزّمن بمدى تحقّق أحلامه وبمدى سموّه وارتفاعه وهاهو يقشّر الكون من الغبش" إذا فهو الكائن الذي يروم إلى تطهير الكون من "الغبش" أي الأتربة وكل ما يحجب الرؤية و لعلّ كلمة " يقشر " تحمل أكثر من مدلول لصعوبة مهمّة الشاعر و رسالته فبعد "التّقشير" الذي يتطلّب دقّة ومهارة و مجهودا لابدّ من الوصول إلى اللبّ الذي هو قمّة الادراك وغايته حتّى يستطيع أن "ينزل السماء قليلا الى تحت " وبانزياحات ذكيّة سلسة تحيلنا الشّاعرة الى عدّة مشاهد منها حكايات الف ليلة وليلة من خلال النّبش في شخصية شهريار الأسطورية في علاقته بشهرزاد التي تجدّد فيه أمل الحياة كل يوم فهو " يمكث كالصّيحة في ذاكرة الفجر " وبذلك تتجلّى رسالة الشّاعر المقدسة في الانعتاق والأمل و التّجديد والرقي والتحليق في أجواء الصّفاء والنّقاء ولكنّه في علاقة جدليّة بواقع تعيس كئيب ذلك الواقع الذي كثيرا ما يكبّله ويعوقه عن ادراك مبتغاه لذلك لم يخل ديوان الشّاعرة من عناوين تدور في فلك "القلق" و "احتراق" و "رغوة " و "التباس" و "البكاء" و "وهم" وهي عناوين تنمّ عن تأرجح واضح بين المثل و النّقيض لذلك كان نصفها سماء....

المولدي عزّوز

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى