قراءة أولية في رواية «صهيل مدينة»
يكتب من قلب الواقع مجسدا أدق التفاصيل لحياة شعب في غزة، من خلال نموذج حي يعبر عن كل نبضات الحياة الواقعية في قطاع غزة. إن رواية "صهيل مدينة" للكاتب والمخرج مصطفى النبيه هي رواية واقعية تسبر أغوار الواقع الفلسطيني بكل تفاصيله الاجتماعية والسياسية من خلال مجموعة من الشخصيات يرسم ملامحها وتفاصيل حياتها البطل شكري بصفته العليم بكل شيء، فهو الذي يعيد تشكيل الواقع وفق رؤية تعبر عن حالة التناقض التي يعيشها الإنسان في واقع قطاع غزة، هذا الواقع الذي يحمل الكثير من الأحداث والوقائع التي أثرت على قيمة الإنسان، وأخلت بالقيم والسلم الاجتماعي.
يحاول البطل شكري قراءة الواقع وفق ما حدث في الماضي برؤية الحاضر، لكي يصل إلى السؤال الوجودي أين وصلنا؟، ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟، وماذا حققنا من انجازات طوال سنوات من النضال؟.
يأتي العنوان (صهيل مدينة) متوافقا مع دلالات السرد، فالصهيل هو للحصان الجامح المتمرد على العبودية والقيد، ومدينة غير معرفة بال التعريف تعبر عن المكان النكرة أو الذي أصبح نكرة، فهذا المكان الذي خاض النضال سنوات طويلة، أصبح اليوم يحتاج إلى إعادة تعريف بعد أن وصل به المتسلقون إلى حافة الانهيار والإنكار لدوره التاريخي. إذا ربطنا العنوان بأحداث السرد نجد أن الحصان الجامح المتمرد على الواقع هو البطل شكري الذي يحاول الانعتاق من العبودية بالوعي والمعرفة، لأن الجهل في نظره هو ما أوصلنا لتصبح غزة مدينة نكرة.
البطل شكري شخصية مهزوزة في واقع مليء بالمتناقضات، فهو ابن أسرة تعيش لاجئة في المخيم، والده ترك المخيم والتحق في الخارج مع الفدائيين، أمه تعمل خادمة في البيوت، وأخيه الكبير غسان معتقل لأنه قتل أخيه عدنان بتهمة العمالة، وأخته شمس منطوية على نفسها تخاف من نظرات الناس إليها، استسلمت للواقع، تزوجت أول قادم من خارج الوطن وترحل للمنفى معه. حياته كانت مجرد قفزات متتالية لم تمر بمراحل نمو طبيعية. عمل في مهن كثيرة ليسد جوع أمه وأخته، يرفض الواقع ويتمرد عليه، ولكنه لا يملك لا حول ولا قوة، حلم أن يكون محاميا أو صحفيا، لكي يدافع عن المقهورين، إلا أنه حرم من الدراسة، فجعل من جدران البيوت في الانتفاضة صوته لكل المقهورين، حاول أن يثقف نفسه من خلال مكتبة الهلال الأحمر متحديا الاحتلال الذي يريد أن يكون الكل عبيدا يفتقرون للمعرفة.
في المخيم يصادق يوسف الكفيف ابن مدينة يافا الذي أنقذ من الاحتراق بعد إحراق منزلهم من عصابات الهاجاناه عام 1948، وموت والديه، عاش طفولته مشردا حيث ربته أسرة مسيحية هاجرت إلى اللد، وفي مسجد دهمش تقتل هذه العائلة، فيهرب إلى غزة ليعيش عند العجوز أم صابر المجدلاوي إلى أن رحلت وبقي وحيدا، يحمل إرث الماضي ولم يتنازل عنه، روحه تحرس يافا وجسده ينام في غزة.
ينطلق شكري عبر شوارع مدينة غزة وأزقتها ومعالمها لكي يروي وقائع ما حدث من تغيرات في المدينة وناسها، وكيف تبدلت علاقاتهم الاجتماعية، فإذا كان مكان الانطلاق غزة إلا انه يغوص في أماكن أخرى لكي يسبر أحداث ما مرت به، فنجد يافا المدينة التي هجر أهلها بقوة السلاح عام 1948، وارتكاب اليهود المذابح في مسجد دهمش في مدينة اللد.
أما الفضاء الزماني الممتد عبر سرد الأحداث الروائية فانه يتجاوز النصف قرن، رغم أنه يبدأ من قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 كنقطة انطلاق، إلا انه يغوص في الماضي لسنوات طويلة، ويجعل من الأحداث التاريخية والوقائع الاجتماعية خلفية يبنى عليها البطل رؤيته للواقع وحال الإنسان في هذا الواقع، فنقرأ عن حصار الفالوجة عام 1948، واتفاقية رودس عام 1949، وقصف الطائرات الإسرائيلية لمخيمات اللاجئين في قطاع غزة عام 1948، والمذابح التي ارتكبت عام 1956، ومشروع سيناء عام 1955، وأحداث جامعة بير زيت عام 1986 وسقوط شهداء من قطاع غزة، وكيفية تهريب الجثث إلى ذويهم، وعن الانتفاضة الكبرى عام 1987 وما خلقته من سلبيات وأخطاء ارتكبت باسم الدفاع عن الوطن حتى وصل الأمر إلى أن الأخ يقتل أخيه بتهمة العمالة، والحفلات الماجنة في غزة زمن الاحتلال، ومحاولات الاحتلال غرس ثقافته في المجتمع الفلسطيني ومنع الطلاب من استكمال دراستهم.
الرواية مليئة بالتفاصيل والأحداث، فالبطل شكري لم يترك شاردة أو واردة في واقع قطاع غزة الاجتماعي والسياسي إلا وتحدث عنه، في محاولة للبحث عن بصيص أمل في واقع مليء بالشعارات.
وكل حدث من الأحداث التاريخية أو الاجتماعية يرتبط بوقائع يمر بها السارد، ويحاول أن يربط الحاضر بالماضي ليحكي عن مأساة عزة وناسها، فقد كانت غزة في زمن الاحتلال "شقة مفروشة، أنثى سريرها عفن، رائحتها قذرة، ملامحها كئيبة، شوارعها رملية، باستثناء بعض الشوارع المرصوفة التي تسكنها الحفر". أما في الواقع الحاضر فقد تغيرت الوجوه ولكن تبقى ملامح الشر تتشكل بصور مختلفة، منذ الأزل يلهث الإنسان وراء المال والسلطة، تستعبده نزواته، يسكنه ذئب جائع.
إن بناء النص الروائي في "صهيل مدينة" لا يسير في خط مستقيم، بل خط متعرج، لأن السرد قائم على الاسترجاع (الفلاش باك)، فنجد شكري يتحدث عن موضوع، فيتذكر موضوع أخر حدث قبل سنوات فيأخذ في سرده، ثم يعود إلى موضوعه الأصلي، وهذا السرد المتعرج لا يشعر القارئ بالملل بل يواصل القراءة بعيون مفتوحة وذهن متقد، غارقا في تفاصيل السارد الذي يعود بها إلى ذكريات عاشها القارئ أو لم يعشها.
إن البناء السردي قائم على تداعيات الذاكرة، حين يتوحد شكري مع صديقه يوسف في كفن واحد، ويذهب بهم المشيعون إلى البحر لإلقاء الجثة والتخلص منها، فقد كان موته مع دخول قوات السلطة الفلسطينية، ومشاهدة شكري فرحة الناس واستقبالهم لاتفاق أوسلو وعودة القوات الفلسطينية، ومنح جنود الاحتلال أغصان الزيتون، فيستنكر هذا الفعل ويعترض على الاتفاق لأنه شوه النضال الفلسطيني والحلم بالتغيير للأفضل، ويقف شكري نفسه في الموقف المتناقض ما بين المؤيد للاتفاق والمعارض للاتفاق، وتأثيراته على الواقع الاجتماعي.
يستقبل شكري السلطة عاريا، فتنهال عليه الجماهير ضربا، فتدافع عنه سوزان المسيحية التي أحبها وسعى للزواج منها، إلا أن الدين يقف حائلا بينهما حيث ترفض أسرتها الارتباط بمسلم، فيقف متحديا الطائفية والعنصرية، التي أصبحت تسكن غزة.
وإذا كان بحث شكري عن الوعي والمعرفة لأنهما أساس بناء المجتمع، فالقوة في المعرفة، لأن الضعفاء لا يصنعون وطنا، وصراعنا للبقاء هو صراع الأقوى المتسلح بالمعرفة، وليس عبدا للمتسلقين.