قبلتانِ ودرس
من الدّرس تعلّمتُ أن لا قُبَلَ بالمجّان، أنّ كلّ شيءٍ قد يصيرُ شيئًا آخرَ.
حينها كنت صبيًّا أقبعُ، أنا والعالم، داخلي، وكانت ملامسة العالمِ الآخرِ مجازفةً لا تتّمّ إلاّ عند الاقتضاء، قالت لي نجلاءُ، بصوتِها الطّازج، بلون بشرتها الرّمليّ:
ـ أنت إنسانٌ ورقيّ.
ـ لمَ؟
ـ لأنّكَ لم تقوَ على تقبيلي.
علّقتُ مستغربًا:
ـ ولمَ لا تقبليني أنتِ؟
ـ إنّ الصبيان هم من يركضون خلف الصبايَا.
كان عمري في مثل عمرها؛ ثلاث عشرة سنة، غير أنّها كانت تفوقني فطنة وذكاء. حينها تعلمتُ أنّ كلّ أنثى في سنّك هي بالضّرورة أكبر منك.
لمْ أعدْ بعد حصص المساءِ إلى بيتنا، انتصبتُ تحت أمطارِ ينّاير الغزيرة بإرادة محارب حتّى أثبت براءتي، رجولتي. فتحتُ ذراعيّ، احتضنتُ السّماء ومطرًا عاصفًا، ثمّ أعلنتُ تمرّدي على مدى ساعاتٍ. دخلتُ المنزل متأخّرًا. صرخ أبي في وجهي: ’إذا كرّرتَ فعلتك طردتك من البيت’، وعاقبتني أمّي بحرماني من وجبة العشاء. رفضتُ أن أبكي، كما لمْ أقدّم اعتذارًا لأحدٍ، نعم، صرت على قناعة أنّني رجلٌ، أنّني لستُ ورقيًّا.
صباحًا، ومحفظتي على ظهري، واجهتُ نجلاءَ بحقيقتي:
ـ أنا رجلٌ حقيقيّ.
ـ ودليلك؟
ـ وقفت تحت المطر ولمْ أصبْ بنزلةِ بردٍ، حُرمت من وجبة العشاء ولمْ آبه.
ـ هذا لا يكفي.
ـ كيف تقتنعين إذن؟
ـ قبّلني.
كان امتحانًا صعبًا، جميلا وعسيرًا.
يومٌ مشمسٌ، تحرّرت فيه السّماء من وجومها، طيورٌ تملأ ذاكرتي، ثمّ شفتيّ بخشوعٍ ترسمان براءتي على خذها الغضّ.
بكتْ، اشتكتني للمُدرٍّسة.. أحضرتْ من رآني أقبّلها، فلم أجدْ غير الاعتراف بخطيئتي.
27
عوقبت مجدّدًا. ضربتني المُدرِّسة لتطاولي، ثمّ أرغمتني على تقديم الاعتذار أمام التلاميذ. قالت:
ـ زميلتك في الصّفّ كأختك، وجب عليك احترامها.
رفضت نجلاء اعتذاري، تمسّكت بحقّها في القصاص. قالت ناظرة للمُدرّسة:
ـ إذا كان كأخي، فلأقبّلهُ كما قبّلني، ولينته الخلاف.
سخر منّي الجميع، عدّوني مغفلا، لكنّني واسيتُ نفسي، لأني عدت بقبلتين ودرسٍ.