الجمعة ٢٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧

في حضرة المبدع محمد صوف

بقلم: شريشي الساوري

صوت الناقد

بفضاء مؤسسة الفاضل بحي الأحباس بالدار البيضاء نظمت الجمعية البيضاوية للكتبيين بتنسيق مع نادي القلم المغربي ندوة حول الكاتب محمد صوف، تحت عنوان: (الكتابة والتجربة، قراءات في أعمال محمد صوف)، في إطار اهتمامها بالأدب المغربي والتعريف به والاحتفاء بكتابه.

وقد ترأس الجلسة الأولى المعاشي الشريشي (باحث ورئيس نادي القلم المغربي) حيث قدم لها بالحديث عن محمد صوف ككاتب استثنائي تميز- في نظره- بخاصيتين اثنتين؛ الأولى هي أنه يكتب سرودا شكلت في مرآة السرد المغربي بروقا مميزة تعكس بصمات محمد صوف، كما تعكس صورة كاتب بيضاوي عبر عن هذا الواقع بصورة مكملة لما عبر عنه محمد زفزاف وإدريس الخوري وغيرهما عن هذ المدينة الآسرة. الخاصية الثانية وهي أنه ينكتب بصمته الذي، كما قال الشريشي المعاشي، سيجعل قراء في المستقبل يعتقدون أن محمد صوف شخصية خيالية من صنع كاتب مغربي قادم من قلعة السراغنة إلى مدينة غول اسمه محمد صوف.

وكان أول متدخل هو نور الدين صدوق (ناقد) بمداخلة عنونها ب "محمد صوف الروائي وعالمه"، وقد أشار إلى الفترة التي بدأ فيها محمد صوف الكتابة حيث أصدر أول مجموعة قصصية "تمزقات" سنة 1978، ثم فيما بعد أصدر روايته الأولى رحال ولد المكي (1980) وبذلك فتجربة محمد صوف السردية توازي بين كتابة القصة القصيرة والرواية، ومن ناحية أخرى نجده يشتغل على الترجمة وكتابة السيناريو، وجميعها حقول متداخلة تدعم رؤيته الفنية في الإبداع السردي.

وأضاف نور الدين صدوق إلى ان النقد المغربي المعاصر لم يواكب هذه التجربة باستثناء احتفائه بالرواية الأولى. وقد يعود ذلك إلى ما اتسمت به المرحلة من هيمنة النقد الإيديولوجي والاقتصار على تناول مجموعة من الأسماء دون أخرى.

ويمكن القول بان اهتمامات محمد صوف في المجال الروائي والقصصي قد اقتصرت على الجانب الاجتماعي في محاولة لرصد التفاوتات التي طبعت المجتمع المغربي، هذا فضلا عن اهتمامه بالطبقات العمالية وقضاياها الحساسة وختم الباحث مداخلته بالإشارة إلى أن محمد صوف ما يزال مواكبا وصامدا في ميدان السرد المغربي بإصداه لرواية "يد الوزير" التي لامست ظاهرة السلطة في المجتمع من خلال استثماره لحكاية تتعلق بإحدى الشخصيات السياسية.

المداخلة الثانية لعبد الرحيم مؤدن (أستاذ جامعي وأكاديمي) جاءت تحت عنوان (حكاية شخص هامشي جدا، محمد صوف أو لعبة الدمية الروسية)، مبررا في البداية اختياره للقصة المدروسة، إذ اعتبرها من أهم تجارب المؤلف. ثم انتقل إلى دلالة كلمة "حكاية" الواردة في عنوان القصة، والتي أكد أنها تضطلع بعدة أدوار، منها:

 الحرص على امتلاك قارئ مفترض منتسب وجدانيا إلى مخزون الحكاية وبالتالي مد جسور المعرفة بين النص والقارئ.

 رغبة الكاتب في التأصيل أو تنسيب التجربة القصصية عن طريق محاورة هذا المفهوم التراثي.

 يسمح العنوان برواج مفترض كما تروج الحكاية دون حواجز، تراهن على المقروئية.

لكن الحكاية تتخذ أبعادا اخرى عندما تنتقل إلى المكتوب فتصير بؤرة حكائية داخل البنية القصصية، باعثة على الحكي، وهي التي فجرت كوامنه نحو بناء قصة قصيرة، تميزت بخاصيتين وهما: تقنية النهاية التي لم تكن بلا بداية. هذه التقنية لا يقدمها الكاتب دفعة واحدة. بل يقدمها من خلال مستويين؛ مستوى الحوار ومستوى المونولوج. وانتهي عبد الرحيم مؤدن في هذه الفقرة إلى أن النهاية تتحول إلى افتتاح سردي أو تمهيد حكائي.

ثم طرح بعد ذلك السؤال التالي: ما الذي تقدمه العنونة؟ مؤكدا انها تدمر الخطية السردية التي تسمح بتداخل الأزمنة، كما تسمح بتقديم معطيات متنوعة عن الشخصية، كما أن العنونة مطعمة بالمرجعية السينمائية فهي بمثابة زوم لتبئير المأساة والرفع من حدة درجة المعاناة. كما تلعب العنونة دور الدمية الروسية وما تتميز به من انشطارات، فيبدو لنا عنوان القصة واضحا، لكن بعد الشروع في القراءة نكتشف مجموعة من المفاجآت وهو ما سماه بتقنية التوالد النصي.

وأشار عبد الرحيم مؤدن في الأخير إلى ان النص القصصي عند محمد صوف ومجايليه كان ذا قضية وهو أمر أصبح مغيبا في الإنتاج القصصي الذي يفكر في ذاته أويحيل على ذاته.

المداخلة الثالثة قدمها بوشعيب الساوري (ناقد وباحث) بعنوان: (العين الساردة عند محمد صوف قراءة في رواية دعها تسير). الذي انطلق من خاصية جوهرية تميز الكتابة عند محمد صوف وهي الكتابة البصرية التي تراهن على الصورة، وتجعل منها آلية لإنتاج كتابة سردية تنسجها العين قبل أن تحول إلى اللغة التي تبقى عنده مجرد أداة مترجمة وناقلة لاشتغال العين وما تلتقطه وما تشكله من صور. حتى وإن كانت اللغة هي الوسيط الأساسي في عملية الكتابة، فهي مجرد وسيط للعين تلك الأداة السحرية التي يؤثث بها محمد صوف عوالمه السردية.

ثم انتقل بعد ذلك إلى دراسة العنوان في رواية (دعها تسير) إذ اكد أنه يؤدي وظيفة الإثارة والتشويق ودفع المتلقي إلى خوض غمار القراءة. وذلك لاعتبار أساسي وهو تضمنه لضمير متصل (ها) لا نعرف على ماذا أو على من يعود، الأمر الذي يرغمنا على طرح السؤال التالي: على ماذا يعود الضمير(ها)؟ أو على من يعود؟ وللجواب عن السؤال نكون ملزمين بالشروع في قراءة النص.

وقادت القراءة الناقد إلى العثور في الصفحة 99 من الرواية على الجملة التالية "عش حياتك. ودعها تسر." ليكون، بذلك، عنوان الرواية جزءا من جملة داخل النص الروائي اعتبرها الساوري هي الجملة الأساس في الرواية، وردت في حوار بين شخصيتين داخل الرواية. يحيل الضمير المتصل على الحياة؛ إذ تجد كل شخصيات الرواية نفسها مرغمة على الدخول في مسار حياتي معين يصعب عليها تغييره، وبالضبط تجربة الحب تلك العاطفة التي تتملك الشخصيات وتتحكم فيها وتجد نفسها عاجزة عن مقاومتها.

وفي نقطة أخرى متعلقة بالسرد أكد الناقد أن السرد يتأثث عبر تلاحق سريع لمجموعة من الصور والمشاهد وبشكل سريع والأوضاع الحكائية أساسه التغيّر السريع للأمكنة أو تغير المشاهد التي تكون إطارا للقاء أو لحوار بين شخصيتين أو أكثر، يعكس ذلك انفتاح السرد على تقنيات السرد البصري السينمائي. كما كان من تجليات السرد البصري هيمنة التكثيف مع تركيز السرد على انفعالات الشخصيات. وكذلك كان له أثره على حضور الزمان والمكان اللذين لم يكونا سوى مجرد إطار لعدة مشاهد. كما كان من تجليات السرد البصري هو خلق صور روائية وأهم صورة وهي قلب الصورة التي تكون عليها الشخصية في بداية الرواية. وهي سمة تنطبق على جل شخصيات الرواية مما فتح الرواية على لعبة المرايا فجعل الشخصيات مرايا لبعضها وتجلى ذلك في النقط التالية: الارتباط بالمحبوب إلى حد الهوس والضعف، الحب من طرف واحد، ظهور الشخصيات المحبوبة في الرواية على شكل ألغاز بالنسبة للشخصيات المحبة، تتماهى الشخصيات كذلك لتقدم لنا صورة عن الحب، وهي اقتناع الشخصيات بأن الحب قدر أو وهم تجد نفسها متعلقة به.

عين الكاتب

الجلسة الثانية والتي ترأسها أبوبكر العزاوي(أستاذ جامعي ) حيث عرض لمجموعة من التأملات حول كتابات صوف ليتناول بعد ذلك الكلمة أحمد بوزفور(قاص) في ورقة بعنوان (يد الكاتب قراءة في رواية يد الوزير) وذلك بالتركيز على ملمحين أساسيين ميزا الكتابة الروائية لهذا النص وهما التفريع والأنسنة.

بالنسبة للتفريع، تجلى ذلك في تفريع حكاية بسيطة (التربيت على مؤخرة امراة) إلى مجموعة من الحكايات. ويتجلى ايضا في تقطيع الرواية إلى 22 فصلا مرقمة ترقيما رومانيا. ومن تجليات التفريع كذلك تعدد الرواة لكل فصل راو لا يسرد وجهة نظره فقط ولكنه يلتمس أثر الحكاية فيه مما جعل السرد راسيا عموديا يدور حول نقطة واحدة من زوايا متعددة. ومن تجليات التفريع كذلك تنوع أنماط السرد الذي تنوع بين سرد خالص ورسائل وردود على رسائل أو مشاهد سينمائية أو حوارت او مونولوجات.

أما الخاصية الثانية (الأنسنة) فقد تجلت في أربع مستويات وهي:

 الانطلاق من الذاتي إلى الإنساني.

 التناصات الثقافية (التاريخ، الخرافة، الماثورات، الشعر الرسم، الأغنية، التلفزيون، السينما...)

 المونولوج عادة ما يخصص لكنه في رواية يد الوزير يعمم ولا يخصص.

 التبئير: لا يتعلق الأمر ببؤرة سردية بل بمعنى الحفر في كل شخصية بئرا عميقة، والبئر هو شخصية (يزيد) الحاضرة في كل شيء هي ضمير الرواية فوق وتحت وامام وخلف.

وثم اختتام هذا اللقاء بشهادة للكاتب محمد صوف المحتفى به كانت كما يلي:

ماذا يفعل الروائي؟ أو القاص؟ ألا يخلقان حكايات؟

إذن ما دام الكاتب يخلق الحكاية. فما الذي يميزه عن بقية الناس؟ كل الناس يقصون. كل الناس يبدعون قصصا. والإنسان بطبعه حيوان سارد.. هو يقص إذن هو موجود..

ليست كيمياء الخيال ولا حتى بلورة هذا الخيال هي ما يميز الرواية.. بل قدرتها على خلق التواصل بين شخصياتها وبين القارئ وتجعل من أهم صفات القارئ قدرته على إحلال المتخيل محل الواقعي.. هي التي تفتح الباب او توصده أما العمل الروائي. وبالتالي أمام نجاح العمل أو عدمه. ثم إن احداث الرواية لا تستمد سلطتها من مصدرها أي من كاتبها ولكن من قدرتها على وضع يدها على نقطة الحساسية فينا. لدينا أمثلة لكتاب كبار كتبوا روايات لم يلتفت غليها سوى القلة. والسر يكمن في تواطؤ القارئ. إنه يعرف ان الشخصية غير موجودة ويتماهى معها رغم ذلك. لذا فإن فن الرواية أساس هو فن تواصل.

ليست الرواية إذن أداة للتحليل الاجتماعي ولا التحليل النفسي. إنها لاتبحث عن قوانين وعندما تبحث عن كائنات.. عن شخوص.. صحيح أن الرواية التقليدية كانت تمنح للقارئ كرسي المتفرج، ثم تمنحه حظوة الدخول به إلى اعماق الشخصيات. ومن ثم ترشده.. تملؤه بالحكم.. ندعوه إلى الاستفادة والاتعاظ. لم يعد هذا دور الرواية الان.. لعل الروائي اصبح وسيطا بين الشخصيات والقارئ. يسلم مفاتيح هؤلاء لأولئك ويظل هو -إن استطاع- في مساحة الحياد.

هناك من يتساءل: وماذا تقول أنت.. عنك؟ ككل من يكتبون.. وككل الذين يجدون ان الحياة حافلة بالمفاجآت. حافلة بغياب المنطق والإجحاف أحيانا.. ارى أن الكاتب يتشبث يقلمه وقرطاسه ويخربش اولا ثم يكتب ثانيا. شهرا شهرين سنة.. سنتين.. عشرين سنة.. يضحي خلالها بالكسل الجميل وبنوع من الرضا ويجد في نهاية المطاف أهمية لا ترى إلا بالمجهر لدى القراء.. لدى النقاد.. لدى البلد الذي يعيش فيه.. وقد يبتسم القراء والنقاد والبلد إشفاقا لمن لم يتحملوا هذا الهم بنفس الهم. ومع ذلك فيه تدور..

إن الكاتب عندنا مناضل عندما يشتغل ثماني ساعات في اليوم ويجد القدرة على الكتابة.. وهذا ما جعلني اهفو منذ البدايات غلى التحرر من إكراهات العمل دون ان انجح في ذلك. قصيت اكثر من عشرين سنة أستيقظ في الصباح واتنقل غلى مكان عملي فقط لأني أتقاضى مرتبا في آخر الشهر.. وقد ولد لدي ذلك رغبة البحث عن التحرر من هذا الإكراه.. لم انجح بعد.. فللإكراه وجوه عدة. في قلب هذا الإكراه، ظللت اهفو غلى كنابة عمل يثير اهتمام القارئ منذ الصفحة الأولى ويحثه على الانتقال إل الصفحة الموالية. ولا أعتقد اني توفقت في ذاك.. بحثت عن وصفة سحرية تضمن تحقيق إثارة اهتمام الآخر. وادركت أنه لا توجد وصفة جاهزة. ثمة شخصية الكاتب أولا وهي شخصية عصية على الوصف حتى من طرف الكاتب نفسه.

أدركت كذلك أن الكاتب يحمل داخله دائما احتمالات الفشل. ولعل هذا حافز على نجاح حققه عدد من الكتاب في عدد من المؤلفات. ثم إن احتمال الفشل مدرسة ومنبع للمعرفة والتعلم.

اعتقد أني كل مرة افشل وكل مرة اتعلم ولم اصل بعد إلى لحظة الذروة تلك التي تتمخض عن عمل يلقى إقبالا نسبيا.. أما الإقبال الواسع بين ظهرانينا فلا يوفره سوى تقرير العمل في المدارس.. وتلك قصة اخرى.

أجمل صفة منحها الكون للإنسان هي الاختلاف.. والاختلاف هو ما يصنع الكاتب أيضا.. النجاح في التعبير عن هذا الاختلاف لا يتيسر للكل. فهناك من يخطئ في تصور اختلافه لعل هذا ما حدث لي وأنا افكر في العمل الروائي الأول "رحال ولد المكي" بما ان المحيط الذي كنت اعيش فيه حافل ببذور أمكار.. واقتنصت فكرة رحال ولد المكي من طفولتي ومراهقتي وشبابي. وعندما انهيتها واخلدت غلى الراحة، رايت البذور التي زرعتها لقصة رحال ولد المكي لم تكن بذورا.. لربما كانت أي شيء ما عدا بذور رواية. ومع ذلك وجدت اني انساق خلف حديث صغير دار ذات يوم في مكان ما لأجدني أخط دون أن أعني الرواية الثانية "الموت مدى الحياة" وخلف ملاحظات ذاتية لأكتب "السنوات العجاف" وخلف خبر صحفي في صفحة المنوعات لأكتب "كازابلانكا". ولو كنت أستعمل مذكرة كما نصحني بذلك الشاعر إدريس الملياني مرارا، لتمكنت من توظيف ما ألاحظ لفائدة ما اكتب.. فاستعمال المذكرة إسعاف في لحظات القحط. وقد تتضافر ملاحظتان وتعطيان عملا روائيا.

ولو بدأت علاقتي مع الدب مبكرا لربما كان أفيد لتجربتي، فبحكم عمل في مجال المال كانت علاقتي بالدباء منعدمة تمام. وكنت أقرا دون منهج كذلك المسافر الذي يختار أي رواية يضادفها في محطة القطار لتمرير الوقت، ثم يتخلى عنها عندما ينهي سفره.. وقد أضعت وقتا كثيرا في القراءة بين محطتين.

لم أبدا علاقتي بالأدب إلا عندما بدأت انشر باستمرار، وانا في سن السابعة والعشرين ولم ابدا بتوطيدها غلا عندما أصدرت "أوراق" بمساعدة الصديق نور الدين صدوق.

وهاهي العلاقة قد توطدت والهم قد استفحل.. والكاتب لايزال يتساءل هل هو فعلا كاتب ام انه مجرد وهم يساعد على الركض خلف سراب تجهل ماهيته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى