الجمعة ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٧

عيون امرأة

صدر حديثاً للكاتبة أمل الجمل من مصر كتابها الأول (عيون امرأة) .. عن دار العالم الثالث في القاهرة، يقع الكتاب في حوالي 240 صفحة، وقد جاء في مقدمة الكاتبة ما يلي

أشياء عن بداية مشواري في الفن

في أحلامي لم أر نفسي ناقدة سينمائية أو مسرحية أو أدبية. ولم أر نفسي طبيبة أو مهندسة. منذ طفولتي رأيت نفسي عازفة بيانو. ربما يكون السبب أن أول حب في حياتي كان موسيقاراً. لا أدري هل وقعت في هواه بسبب وسامته أم بسبب عزفه الجميل، أم الأثنين معاً. كنت طفلة في الصف الرابع الإبتدائي، كان هو في الصف السادس، وكان العازف الوحيد "للأوكرديون" في المدرسة.

ربما مُدرسة الموسيقى "سلوى المُرسي" هى التي منحتني الفرصة والثقة بالنفس. أبدت إعجابها بي، وبقدراتي كعازفة. كنت أحتضن " الأوكرديون" وبجواري تقف المُدًّرِسة. أُنصت إليها، وعيوني وأصابعي تتحرك على آلة العزف مثل طائر أطلقوه من أسره. وفجأة اخترق أذني صوت قدمين تدبان على الأرض، لمحتهما تقفان أمامي، فأنا لا أُخطئه. إنه مُدرس اللغة العربية. تجمدت أصابعي كأنما أصابها شلل، رفعت بصري فوجدته يرمقني بنظرة إحتقار.

كان يُشبعني ضرباً على ظهر أصابع يدي، وعلى بطن قدمي. في إحدى موجات الضرب تساقط البول ساخناً من أعلى ساقي وأغرق حذائي القديم، فرنت ضحكاته في الفصل. لم أكن ضعيفة كما كان يدّعى، كنت متفوقة. في الإختبارات العملية أحصل دائماً على الترتيب الأول أو الثاني. في وجوده أصبحت أتعثر في نطق الكلمات وتختلط الحروف فتخرج العبارات غريبة مبهمة. كان لديه خيال واسع في إختراع حجج للضرب. السبب الجوهري لضربي هو أنني، باستثناء ابنة مدير إحدى الشركات، كنت الفتاة الوحيدة التي لا تأخذ دروساً خصوصية عنده، قال لها:
 دي فاشلة، وخايبة، لا تعرف تعزف ولا تهبب حاجة، بلاش تتعبي نفسك على الفاضي.

فأجابته " سلوى المُرسي" بابتسامة لا أنساها، ابتسامة حُفرت في ذاكرتي مثل حروف اسمي، ابتسامة صافية تُضيء وجهها مثل نبيّة رأت المستقبل:
 انظر إلى أناملها، إنها طويلة وجميلة، انظر إلى حركتها على أصابع "الأوكرديون".

قبل ذلك اليوم لم أعرف أن أصابعي جميلة. أصبحت أتأملها. أراها أجمل وهى تعانق أصابع الأوكرديون. أصبحت أحلم بالعزف ليل نهار، لكني كدت أفشل في أول اختبار في العزف أمام هذا المدرس. تسارعت دقات قلبي ونسيت ما حفظته من النوتة الموسيقية، فارتعشت يداي مثل مريض يُعاني من الحمى. صرخ فيّ لأتوقف عن العزف.. انتابني الخجل من مُدرسة الموسيقى، شعرت أنني خيبت أملها وتوقعاتها في قدراتي. لكنها أدركت حالتي فأمسكت يدي واحتضنتني حتى اطمأنت نفسي، ثم أبعدتني عنها قليلا ونظرت في عيناي:

 كثيرون يُخطئون في المرة الأولى. لكنك تمتلكين أنامل نادرة. إنها أصابع عازفة بيانو. وعندك موهبة حقيقية، المهم ألا تخافي من أي إنسان.
استعدت الثقة بنفسي وبحلم كاد يتبخر، لكن سرعان ما تتطور الحلم. في خيالي استبدلت آلة "الأوكرديون" بآلة البيانو. حكيت لأمي فشجعتني، لكني لم أُفصح لأبي عن حلمي خوفاً منه. عندما عرف صدفة أنني مشتركة في فريق الموسيقى صرخ في وجهي "عايزة تطلعي رقاصة ؟."، ضربني بحبل من التيل مفتول مُخصص لتوثيق البرسيم على الحمارة، هددني بالحرمان من الدراسة. كان يُدرك نقطة ضعفي. فالمدرسة هى طوق النجاة من الحياة التي أمقتها، من العمل في الحقل، والاستيقاظ في الفجر لمساعدة أبي في صيد السمك من مزرعة عمي " وهيب"، من "حِّش" البرسيم، وإطعام الماشية، من تشقق كعوب قدمي، وجرح يدي من زعانف السمك، وتخضب أناملي بلون البرسيم، من نظرات عائلة أبي الإقطاعية، وخجلهم من الاعتراف بنا.. قلت لنفسي ليس هناك مجال للمساومة، تُوجد أحلام كثيرة، فليذهب حلم العزف إلى الجحيم، لكني لن أتخلى عن الدراسة.

تدخل ناظر المدرسة وقال لأبي أنني أحقق أعلى الدرجات، أن الموسيقى لن تُؤثر على مستواي الدراسي، وأنه يتوقع لي مستقبل موسيقي مشرق، فخرج أبي من عنده وأصبح يفخر بي. توارى الحلم في المرحلة الإعدادية، كانت المدرسة خالية من أي آلة موسيقية، فاختفت مادة الموسيقى من جدول الحصص، وانتهى تماماً في المدرسة الثانوية، خصوصاً في ظل ظروف أسرتي رقيقة الحال.

بعد التخرج من الجامعة أقمت في شقة تعلو متجراً للآلات الموسيقية، فانتفض قلبي حنيناً للحلم الأول لم يهدأ إلا عندما اشتريت الكومبيوتر وأصبحت أدق عليه بأناملي فتخرج الحروف بمعان يطرب لها قلبي.

بحثت عن طموح جديد فاتجهت إلى كتابة الدراسات البحثية، إلى تأليف القصص الرومانسية والتراجيدية. هكذا أنا لا أستطيع الحياة دون حلم أو ربما وهم أستغرق فيه. هل كان لابد من فشل حلم العزف حتى أكتشف فيَ أعماقي الرغبة في الكتابة ؟.
أخرون ساعدوني في ذلك. في المدرسة الثانوية طلبت منا مُدرسة اللغة العربية كتابة قصة قصيرة. فخضت التجربة، أخذت أخلق شخصيات وحوارات، أكتبها وأقرأها على أختي الصغرى وأراقب رد فعلها. صرت أكتب ثم أُمزق الكثير مما أكتبه، أو أُغير في الأحداث، أقتل شخصيات وأستبعد أخرين، أُدبر مفاجأت.

حصلت على الدرجة النهائية مع الإمتياز والشكر. طرت بجناحين في السماء أرفع الكراسة في يدي ويقفز قلبي حاملاً جسدي متنقلاً فوق المقاعد. قَرْأتها صديقاتي وبكت إحداهن من شدة التأثر. انتشر الخبر في المدرسة وقِيل أني أكتب موضوعات حلوة في مادة التعبير، فتناسيت حلم البيانو.
اعتمادي على نفسي في توفير مصروفاتي الدراسية عطلني عن تطوير أدواتي في الكتابة، وعن إكتساب معارف كثيرة، لكنه شدّ من عودي، جعلني أكثر صلابة، منحني تجارب حياتية وعرّفني بشخصيات فيها ثراء. خضت تجربة العمل في مجال التمريض ، قمت بحياكة الأحذية الجلدية في أحد المصانع، عملت في بعض معارض الموبيليا، ومحلات البقالة، وفي عدد من السوبر ماركت. وذات يوم كنت أحمل فوق رأسي جوالاً من "البوطاس" فتسربت تلك المادة الكاوية إلى جبيني وحرقته، مع ذلك واصلت العمل.

إقامتي بالمدينة الجامعية خففت من وطأة المسئولية. لكن بعد التخرج واجهتني مشكلة توفير إيجار السكن وشراء أبسط أنواع الطعام. طلب مني والدي العودة إلى القرية فرفضت. قلت له: " لماذا أعود؟!. بعد أربعة أعوام من الغربة والصراع في هذه المدينة القاهرة أعود من حيث أتيت". أوهمته أنني وجدت عملاً وطلبت منه " سُلفة " من المال يستردها مني حين أقبض المرتب. رفض منحي مليماً واحداً، طردني من البيت ومنعني من دخوله، لكن تحطمت ضغوطه على صخرة العناد والتمرد ورثتهما من أمي.

في ذلك اليوم قبل أن أخرج من باب البيت دست أختى "أسماء" في يدي خمسين جنيهاً، كانت كل ما تملك، دّعمتني أمي بمالها دون علم أبي. ساندتني أيضاً صديقاتي في "سكن المغتربات" وبحثن لي عن مورد للرزق.. في هذا السكن عشش الأمل في أعماقي. غمرتني لحظات من السعادة يصعب تكرارها، مرت بي لحظات من اليأس القاتل، والتفكير جدياً في الهجرة حال دون تحققها ارتباطي بقصة حب.

علمتني أمي وقسوة الحياة ألا أخجل من أي عمل يقيني شر السؤال. عملت في مهن كثيرة من بينها مندوبة مبيعات لإحدى دور النشر العربية، في مجال جمع البيانات وملء استمارات البحوث العلمية في الشوارع وعلى أرصفة القطارات.. ساهمت في تكوين أرشيف معلومات لإحدى الشركات.. اشتغلت بالصحافة فشعرت كأنني دخلت الجيش وأنهم أعادوا تأهيلي. ثم التحقت بالعمل التليفزيوني. قمت بإعداد البرامج السينمائية والمسرحية. اكتشفت أن عالم السينما والكتابة يجذبني إليه بقوة. كتبت سيناريو لقصة "فوق حدود العقل" للكاتب "يوسف إدريس" أنتجتها قناة "النيل للدراما" في سهرة بعنوان "المجانيين". أُعجب بها زملائي وتوقع بعضهم أن أتجه إلي الكتابة التليفزيونية. لكني لم أسعد بالتجربة. أحسست أننا أفسدنا قصة "يوسف إدريس"." فقررت دراسة السيناريو، قرأت عدداً من الكتب حول هذا الموضوع، وحضرت دورات تدريبية في كتابة السيناريو.. أكثرت من مشاهدة الأفلام. عرفت أن الفنان "نور الشريف" يدعم الشباب، فاتصلت به. نصحني بقراءة كتب بعينها، قدم لي بعضها، وفر لي عدداً من السيناريوهات السينمائية لقراءتها ومناقشتها، نصحني بضرورة متابعة ما يحدث على الساحة العالمية، وبالاستمرار في مشاهدة الأفلام، بالصبر وبألاً أتعجل الكتابة، فالإعداد لهذا المشروع قد يستغرق وقتاً وجهداً كبيرين. أتاح لي فرصة حضور جلسات الإعداد لبرنامجه السينمائي "مع نور الشريف" على قناة دريم، فاقتربت من أبجدية الفيلم السينمائي. تحليله للأفلام ونقدها ساعدني على كشف كثير من أسرار العمل السينمائي. ثم بدأت في دراسة دبلوم النقد الفني. وعندما عرفت أن رواية " الشبكة" للروائي المصري الإنجليزي "شريف حتاتة" أعجبته، ويُفكر في إخراجها سينمائياً استعرتها منه. عند آخر صفحة من الرواية طلبته تليفونياً وقلت له:

 أنا اللي هأكتب لك سيناريو " الشبكة".
ابتسم وأجابني في سعادة:
 أكتبيه فوراً.
يبدو لي أحياناً أنني اقتحمت أرض النقد صدفة، فأنا أكتب النقد ليس من قبيل الإحتراف، لكن من باب الهواية أو ربما " الغوايّة "، فحينما تُغويني رواية جيدة أو فيلم ممتع أبدأ الكتابة عنهما. ربما لذلك وربما لأسباب آخرى لن يكون النقد هو مُبتغاي. مع ذلك من حين لأخر ربما تجذبني رواية جديدة أو فيلم جديد.

وهذا الكتاب هو مجموعة مقالات معظمها عن السينما وبعضها عن المسرح أوالرواية أوالشعر أو الفن التشكيلي. إنه كتابي الأول، محاولتي الأولى للنشر أبدأ بها لأُسجل بداية خطواتي، لأُعلن عن وجودي وقلبي يرجف. تُرى هل أنا قادرة على خوض الميادين التي أراها تناديني لأن أدخل في أغوارها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى