على عتبة القدر
كان يجلس على شاطئ البحر لوحده يراقب غروب الشمس.
كانت أعمدة الدخان تتصاعد من معمل الكهرباء إلى أقصى اليمين منه في أطراف البلدة المجاورة. وعلى الصخور القريبة كان الصيادون يرمون صناراتهم في مياه البحر أملا في اصطياد الطحالب والحيتان. وقريبا منه كان فتية صغار يعبثون على الرمال، و يتراشقون الكلام والضحكات..
وكانت تتراشقه زحمة الفراغ...فلم يعرف من بعدها كائنا يواسيه..ولم تدغدغه أحلام..ولم يرتعش فؤاده لنظرات حسناء..ولم تبلل شفاهه من بعدها شفاه....كان يراها كيفما ولى وجهه ونظر..في الآفاق..في العتمة والضياء والسحر..ولكن لم يعد يراها..ولا يقدر حتى على استحضار ذكراها..
نسي ما حوله وحدق مطولا في الأمواج بين يديه تتراطم على الصخور. كان قرص الشمس قد بدأ يدب في جفنيه النعاس. فخلع عنه عباءة النهار،وأطفأ سراجه صابغا شفاه الأفق بحمرة المساء. ورويدا بدأ الليل ينصب خباءه. وبدا له البحر مثل إناء يكاد يفيض بما فيه من ماء.
وفي ومضة عمر رآها تبتسم بين ثنايا الموج.. فجفل..
كان قد رآها من قبل..وتساءل، أين؟أحس أنهما قد تعارفا في زمان ما.. في عالم ما..وغابت ابتسامتها في طية الموج.ولم ينم في ليلته تلك..وبقي بريق صورتها لأيام ينبش في ذاكرته، ويصقلها..
ومرت أيام لم تبارحه إبتسامتها.. فدأب يذهب كل يوم إلى شاطئ البحر أملا أن يرى في مرآة الأمواج ما رآه. ولكن لم يكرمه البحر بما تمنى.. فقد كانت لحظة سحر لا تتكرر.
ومرت أسابيع وشهور. كان يراها أحيانا ومضة في نومه أو في لحظات شرود وصفاء. حتى أنه في أحيان ليست قليلة كان يصحو من نومه على همس صوت دافئ أو لمسة يد حانية. حتى تهيأ له أنه سيراها أمامه جسدا وقامة.
لاحظت أمه العرافة أولا نحوله ثم إضطرابه. فأوعزت إلى أخته أن تحادثه فأبى أن يفضي إليها بما يؤرقه. فأقحمت نفسها في شأنه مباشرة. فصارحها بعد تردد طويل. فأنصتت إليه. وقالت له بعد صمت وجيز:
ـ أنت على عتبة القدر.. خرجت من قدر تنتظر قدر.
ـ وهي؟؟ من تكون؟
ـ تعرفها من عالم لا صورة لها فيه.. عالم ما قبل الأجساد.
وأغمضت العجوز عينيها. وتابعت تحادثه من عالمها هي:
ـ طوبى لك.. تتراءى لك الآن لأنها قريبة منك. فتأهب لها..
وفتحت عينيها. وابتسمت له:
ـ تعارفتما في عالم الأرواح.. وبقي أن تتعارف الصور والأبدان.