الاثنين ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٤
بقلم عطا القيمري

عطا القيمري يكتب عن عمر القاسم

وقف عمر القاسم في أقصى ساحة سجن نفحة في أيار ١٩٨٥ ، ولا أدري لماذا أختير لهذه المهمة، او اذا كان هو الذي اختار القيام بها، ليتلو قائمة السجناء الذين سيتحررون ضمن صفقة الأسرى. وقفنا دائرة حول الساحة نستمع إلى الأسماء. كل ينتظر اسمه بتوتر ونفاد صبر.

سمعت اسمي وكدت لا أصدق بل وسألت من كان بجانبي اذا كان سمع اسمي، وذهبت بعدها في غيبوبة عما يدور حولي وكدت لا أسمع شيئا بعد ذلك.

وما إن استعدت رشدي حتى رأيت عمر القاسم قد أنهى تلاوة الأسماء فارتخت يداه، تتدلى الورقة من إحداها وأخذ يدور حول نفسه. ولم يدرك أحد بعد اذا كانت القائمة شاملة أم ينقص فيها أي منا. وكانت تفتقد الى اسم عمر. فهل سقط سهوا أم أنه أسقط عمدا ولم تشمله الصفقة.

أصبت بالصدمة بعد أن تأكد أن عمر لن يتحرر معنا، بل إني كنت أخجل من نفسي كيف سأتحرر دون أن يكون عمر معي. لم نتحرر فورا واستغرقت عملية اعدادنا لذلك بضعة أيام لعلها وصلت الى نحو اسبوعين من لحظة التبليغ. وكنت في هذه الفترة أمتنع حتى عن الخروج الى الساحة عندما يكون عمر فيها خجلا وتواضعا. فقد كان الفرح غامرا ولم أكن أرغب في أن يبدو فرحي في حضرته.

تعرفت على عمر القاسم عندما وصلت إلى سجن الرملة، وتأثرت بشحصيته جدا. كان مناضلا صلب الروح كما كان صلب الجسد. وخلف هذه الصلابة كانت تختبئ رقة وطيبة لا حدود لها.

كتب عن عمر الكثير ولن أزيد هنا ما بات معروفا للملأ. وسأذكر تجربتي معه وما خلفه عمر في روحي ووجداني.

رأيته ذات مرة يدندن بنغم ما، وكأن بي أمسكت به متلبسا بعاطفة ورقة. وقلت له أيعقل انك تحب الغناء أو الموسيقى.

فأعترف في لحظة صفاء أن أغنيته المفضلة كانت طقطوقة مصرية طريفة هي ماشربش الشاي أشرب كازوزة أنا. وصرت كلما رغبت في مداعبته أغنيها له على سبيل الانتعاش والترويح على النفس.

كان عمر شريكي في الحفلات التي كنا نعقدها في المناسبات الوطنية في إنشاد ما أحببناه معا وأطلقتها عنوانا لكتابي: السجن ليس لنا نحن الأباة .. السجن للمجرمين الطغاة.. فكنا نقف وقفة عسكرية وننشده معا.

وكنت أنا وآخرون شركاءه في ركض مسافة قصوى على مدى كل فترة الفورة لساعة ونصف في يوم ذكرى اعتقاله كونه كان يسبقنا، فنحتفى بالذكرى كتأكيد على الانتصار والصمود.
انتقلنا معا الى السبع ثم كنا في الدفعة الأولى الى النفحة. وكان هو ممن نقلوا إلى رحلة التصفية في الإضراب وخضع لضغوط لا تحتملها الجبال وصمد فيها وعاد منتصرا.

عمر القاسم عاد منتصرا

في مرحلة ما انتقلت بتعليمات من التنظيم للعيش في غرفة مشتركة مع الديمقراطية تعزيزا للعلاقات السياسية بين الجبهتين وكانت هذه أول مرة أجتمع فيها معه في غرفة واحدة هي غرفة ٣ قسم ب في النفحة. وعشت هنا معه قرابة سنة كاملة. وهنا بان لي عمر الرفيق الحنون كالام والحريص كالاب والسند كالاخ.

اذكر انه كان لدينا مريض بالقرحة. وكان هؤلاء يحصلون على وجبة حليب في الصباح على سبيل العلاج وكان هذا لا يحب الحليب، فيقوم عمر بتوزيع كأس الحليب مخلوطا بالقهوة لمن يرغب وكنت بالطبع ممن تبرعوا باستهلاكه. كان عمر شخصيا يأتي لي بالحليب مع القهوة كل صباح إلى سريري كالام الحنون. وبقيت هذه المشاعر الرقيقة منه ترافقني دوما.

لي مع عمر لحظات من الثقة المتبادلة لدرجة من الصراحة والتوافق ما لم يكن عاديا بين أعضاء من تنظيمين مختلفين. وكان بوسعي أن أصارحه بأمور تتعلق بتنظيمه وعناصره وهو يتقبل مني لمعرفته بحبي وحرصي. علاقة رفاقية راقية.

التقيت بعمر بعد تحرري وبقائه في السجن خلفي عندما اعتقلت مرة أخرى بتهمة نشر مقالات عن غسان كنفاني. مررت بمعفار الرملة وكانت هذه محطة تنقل تتكون من غرفتين واحدة للسياسيين الأمنيين وأخرى للجنائيين. رأيت عمر في الجنائية فقلت للسجان أنا هنا فأدخلني. وكان لقاء شوق وود لمدة ساعتين مرتا كالبرق.
قال لي أتذكر يا عطا كيف كنت ادعو للإمتناع عن التدخين!؟
أذكر، أجبت.
أما الآن فإني أروج للتدخين!
وكيف ذلك؟ سألت.
فقال إنه عندما يكون التدخين بديلا عن إبر ومسحوق الكوكايين فانه يكون نعمة. انظر حولك وانظر الجنائيين المساطيل الذين أعيش غصبا عني معهم.

اعتقلت وكانت زوجتي حامل وأنبأته أني سأسمي ابني عمر تيمنا به.
لاحظ السجانون أني في غير مكاني فأخرجوني من عند عمر ونقلوني إلى غرفة السياسيين. وهناك قمت بحملة تكللت بالاضراب الى أن يعاد عمر الى موقعه بين السياسيين. ولما كنا زوارا على المعفار فقد إقتادونا جميعا الى الزنازين لنقضي ليلتنا فيها ونرحل في اليوم التالي كل إلى وجهته كما يفترض بالمعفار أن يكون وبقي عمر في مكانه الذي قيل لنا أنه "طبيعي".

اصيب عمر بسرطان في القولون ونقل بعد عذاب إلى مستشفى أساف هروفيه. ذهبت إليه والتقيته هناك وكان على شفا الموت ولكنه كان عمر نفسه ذاك الصنديد قوي العزيمة سامي الروح رغم وهن الجسد.

أسفت له لان خيبت أمله فقد كان مولودي أنثى وهي لم تنل اسما لعدة أيام بعد مولدها لأن أملي كان ولدا ولأني كنت مصرا على أن أسميه عمر.

استشهد عمر خلف القضبان في الرابع من حزيران يونيو ١٩٨٩ وأجريت له جنازة مهيبة في القدس تليق بمناضل عظيم بمستواه.
انجبت بعد ذلك ذكرا وأسميته عمر ابني حفظه الله ورعاه وكان فيه من الصفات والحمدلله ما يمجد ذكرى عمر القاسم وكل عمر ولا يخجله أبدا.

رحمه الله


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى