عذراً...«كبرت دماغي»
علا صوت أمي كعادتها كل صباح تدعو الجميع لإفطار شهي؛ليتركوا نومهم وغفلتهم قليلاً.
استيقظتُ نشيطاً مبتسماً تاركاً تباطئي المعهود؛رغم أنيّ قد شهدتُ مولد الساعات الأولى من فجر اليوم قبل نومي.
جلستُ على (الطبلية ) مائدتنا الفريدة بين إخوتي،ننتظر أبي الذي أتى والتثاقل يملأ عينيه،وكأن الكسل–علي غير عادته–تركني ليستقر ببدن أبي المنهك.
لم أعبر عن تمردي الدائم على طبق الفول المعتاد،وانتويتُ التهامه،وكأنه تلك الشاة التي تسكن سريري كلما غفوتُ.
أتممتُ إفطاري سريعاً،وفي لحظات كنتُ مرتدياً ملابسي،داعياً أبي لمصاحبتي لدائرة التصويت؛فاليوم يوم الانتخابات.
لكنه عاجلني بإشارة من يديه رافضاً الخروج،ومفضلاً النوم عله يُريح بدنه المنهك في يوم إجازة.
غضبتُ غضباً شديداً وثار عقلي بل واتهمته بالسلبية واللامبالاة فرد في هدوء
قائلاً:-لا يهم ... سلبية .. سلبية المهم هو راحة العقل ..يعنى أنام وأرتاح ... يا بنى كبر دماغك"
ولكني بحماسي الشديد أمطرته مقالاً يحمل مبادئ الديمقراطية ، وكل معاني الحرية بل وبينتُ جريمته الشنعاء،وكيف حوكمت عبارات" أنا مالي ... و ما ليش دعوة ... وكبر دماغك "وقد أعدمتْ بلا رحمة.
ابتسم أبي ابتسامته الواهية–تلك الساخرة–فسحبتُ نفسي طاوياً مبادئي تحت إبطي،سائراً نحو دائرة قريتي.
الطريق مزدحم بأمواج البشر..رجال..نساء..أطفال..وشفاههم تزهو مبتسمةً..ووجوههم تشرق مبتهجة بين هتاف الألسنة برغم أن صدورهم يملؤها الحزن؛ فكم توسلوا للشمس ألا تشرق،وكم نادوها أن تغيب؛فلم لا تأخذ إجازة..فقط ذلك اليوم؟!
فكم تمنوا أن تمضي الأيام بلا شمس وأن تطول فترة الانتخابات؛فغداً من جديد سيتذكرون رنين الملاليم،ستنادي أمعائهم الفارغة هبات المرشحين؛فكم تناولوا اللحم الداكن الحمرة طوال شهر مضى الذي وهم قلما رأوه.
شهر يتكرر كل خمسة أعوام،يهتفون لمَنْ يهب أكثر،وسيحيا هتافهم إلى مساء هذا اليوم فقط.
بعد قضاء واجبي المصون..بعد تصويتي المبين،وقفتُ بين الحشود بين هتافات التأييد لهذا،وزجر وسب لذاك.
أمسيتُ جالساً علي إحدى المقاهي،وقد احتشد فيها ثلة من الناخبين منتظرين النتيجة أمام دائرة التصويت ودار العمدة وفي الطرقات.
أقر الجميع بنزاهة التصويت،وحريته التي لم يعهدوها،مؤكدين أن الفائز هو ذاك الطبيب الماهر؛فلقد أسرنا بحلاوة حديثه،ونبرة حماسته الخطابية،و سحرنا جميعاً بحسن منطقه،كما أجرى عشرات العمليات الجراحية لأهل البلدة المساكين ، و أتم بناء المسجد ، بل حقق أهم أماني البلدة في رصف ذلك الطريق الذي يربطها بالمركز.
جلستُ بينهم صامتاً مفكراً معاهداً نفسي الأبية على مقاطعة كل سلبي التفكير حتى ولو كان أبي.
فجأة علتْ فرملة قوية مدوية،تشد بقوة على الطريق،تشق حديثهم..تصمتْ لغوهم ..قاطعةً أواصر القلوب بالأبدان..تصم الأذان إلا عن صرخة أم حنون تناشدهم أن يهبوا.
لبَّ الجميع النداء مهرولين،متوعدين السائق المجنون؛فتلك السيارة ذات السرعة الجنونية كادتْ أن تدهس طفلاً صغيراً تحت إطاراتها،تهبه الموت بلا إبطاء لولا عناية الله.
نزل سائق السيارة الحمراء فإذا به السيد طاهر طبيبنا الهمام ، الذي هاج ثائراً ،وماج غاضباً،لاعناً الأم معطياً إياها دروساً في كيفية المحافظة على ابنها ثم قال:-
" الطريق ده مش ليكم .. يا ريت ما عملته .. محدش يستاهله .. متعرفوش قيمته .. وانتو اللى جبتونا ورااا "
أسرع الجميع يهدئون ثورته ويلومون الأم وابنها بأقذع ألوان اللوم.
تساءلت أهذا الوحش السافل هو مَنْ خط له قلمي هذا الصباح ؟!أهو مَنْ آمنتُ بمبادئه..بإصلاحاته..بمنجزاته ؟!
فجأة علا صوت هاتفاً بنجاح السيد طاهر؛فتهافت الجميع..يهنئونه،وانزوى الجميع حاملين زعيمهم المنتخب على الأعماق،تاركين الأم وبين أحضانها طفلها الصغير يبكي وهي تمسح دموعه في حنان،تقبله على خديه بلطف مداعبة إياه...أمام السيارة الحمراء.
تمت