عبد السادة البصري.. رسالة من تحت الماء
عبد السادة في نصه أدناه والموسوم (سرّالماء) كان مروضا للكلمة أو الفكرة العصيّة فقصيدة النثر هي عبارة عن مضمون ومعنى وفكرة متخيلة أو واقعية لكنها تستطيع أن تكون جزءاً من عالم كل ماهو صلب فيه تجعله يتبدد ويصبح كالأثير. تحدث عن أبعد مديات التاريخ وكيف كانت الآلهة والربّات في الأساطيرالتي نقرؤها عن السومريين وتلك الدهور وما احتوت من شعوب وأمم مغايرة تماما لآزمنتنا وتقاليدنا وأسلوب حياتنا وبالتالي نقرأ عن السعادة أنذاك ليست كغاية وإنما إسلوب حياة.
عبد السادة في نصه هذا تحدث عن الإله (أبسو) والذي يعني الماء وعمقه كما المياه الجوفية في الميثولوجية وهو اصل البحيرات والأنهار وهو الماء المقدس. الماء هو المطهر لدى بعض الديانات ومنها الصابئة. أوكما جاء لدى ديموغريطس من اننا لايمكن أن نسبح في نفس ماء النهر مرتين. عبد السادة هنا يكتب ليس شعرا فقط وانما حواسا وأنماطا على مختلف المفاهيم بحبكة شعرية شاملة وليست ثنائية او ثلاثية بل أنه يكتب حبكة الإستدراك كما انه قسم الشعر الى مفازات عديدة منها النعومة والتحليق والشدو الهاديء وإعطاء الشعر مهنته الفطرية مع موسوعية الثقافة التي جعلت النص يخبرنا عن الكثير من الحكايا وماوراء الأجمة.
يقول عبد السادة في احد شذرات النص:
العذراوات يأتين من كل فج
محملات بأمانٍ خضر
دفءّ، عذب، سرّ هو الماء
هنا الشاعر كان فلكلوريا عراقيا صرفا يعزف ويهلهل بقريحته من المنحى السومري الأصيل أما قال فاضل عواد في أيام الزمن الجميل (إلتمن الحلوات من كل بيت حلوة إلتمن/ أترف اصابع ليلة الحنة بعذاب التمن). وينداح الشاعر عبد السادة ليصور لنا مدى علاقة المرأة بالماء سواء ان كان في قرى وأرياف العراق كما في الناصرية وأهوارها وهن يعبئن القوارير الفخارية بماء الهور وكيف نراهن يرفعن عباءاتهن كاشفات عن سيقانهن عند النزول في الماء مع رقصهن المموسق بأنغام الريف. أو مثلما قال الشاعر كريم العراقي: نزلت للبحر تشمس الحلوة/ رفقا بالبشر آيا بنت حوا) فهنا أيضا علاقة المرأة بالماء البحري. ويبقى العشق المائي هو المتجذر في شتى صوره مثلما نقرؤه أدناه:
أنى للماء خيار آخر
أنى للإنسان خيار آخر
أنّى للعاشق والمعشوق خيار آخر
نعم أغلب عناصر هذا الكون ليس لديها خيارات فنحن جئنا من رحم أمهاتنا من دون خيار، الماء في جريانه وابديته ليس لديه خيار، سلوكنا اليومي روتيني دون خيار. هنا لو أردتُ الذهاب بعيدا في مفاهيم النص المائي فأقول: أحيانا يُحاصرالعاشق فيتخذ قرارا واحدا لاغير لصعوبة الموقف وأهدافه، وخصوصا إذا ما كان العشق يمتزج بحب الأوطان والدفاع عن الأرض مهما كلف الأمر مثلما حصل بين العاشقين كليوباترة وعشيقها القائد أنطونيوس وهو إتخاذ الإنتحار للخلاص من عارالهزيمة وضياع أرض الوطن بيد الأعداء القادمين عبر ماء البحر، فهذا هو الماء الذي أوصلهم الى الأمصار الآخرى. وبقي العشق المثالي لكل من كليوباترة وأنطونيوس هادرا حتى اليوم بالموقف البطولي الذي قل نظيره فظل هادرا مع أبدية الماء. وهناك امثلة عديدة للكثير من المناضلين الذين اتخذوا صعود المشانق وأثروا ذلك على هوان حبهم لعقيدة حفروها في سماء عشقهم ولاخيار لهم غير ذلك. ويستمر النص مع سر الماء ومن يعيش في الماء وحوله وفوق سطحه فيقول عبد السادة:
على مهلٍ يأتي (البلاّم) بفالته
الزورق يحتضن المويجات المتراقصة
سمك يُصطاد، سمك يَقفز
(يلبط)..
صورة شعرية كتبت بكلمات مرئية كما يفعلها كاتب السيناريست السينمي والذي يتطلب الآمر منه أن يكتب المرئي لاكما يفعلها كاتب الرواية أو المسرحية. فهنا عبد السادة إستطاع أن يصف الطبيعة وجمالها من خلال سر الماء وعلاقته بالإنسان أو الصياد صاحب الزورق مثلما فعلها هيمنغواي في (الشيخ والبحر). الزورق هو الوسيلة للعبور الى الضفة الأخرى ولكنه لدى مظفر النواب إتخذه بمعنى آخر حين قال: (إمرأة ليست أثرٌ من زورق لعبور الليل) فهنا مظفر قالها عند الحاجة القصوى للرغبة وكيفية خمودها وانطفائها فمحمود درويش قال ذات يوم: نلجأ للجنس أحيانا حين نفتقد الحب. الزورق هو الذي إتخذه بطل رواية غابرييل ماركيز (الحب في زمن الكوليرا) وكيف ظل يبحر به مع حبيبته رافعا الراية البيضاء لمرض الكوليرا لكي لايقترب منهم احد فيفسد صفوة عشقهم، واستمر بالإبحار والحب شهورا وشهورا حتى قالت له، الى متى نظل نبحر فقال لها: حتى الأبدية.
أعلاه يذكر عبدالسادة مفردات عراقية متجذرة لدى كل عراقي فكان شاعرا مروضا لغوريلا الحرف (تطبطب، البلام، يلبط، الفالة). مثلما رددها مطرب الشعب العراقي فؤاد سالم (يابو بلم عشاري). أحيانا يلجأ الشاعر لمثل هذه المفردات ربما يجد نفسه من أن تلك الكلمات لابديل لها في النص فتأتي جميلة أذا ذكرها هكذا باللغة العامية فذات يوم عبد الرحمن الأبنودي طلبت منه المطربة نجاة الصغيرة أن يغيّر كلمة (تشبع) في قصيدته عيون القلب حيث يقول بها (ونا رمشي مذاق النوم / هو عيونو تشبع نوم.. روح يانوم من عين حبيبي) فقال لها عبدالرحمن باللهجة المصرية (طيّب ياسيتي) أعطيك إسبوعاً ان وجدت غير كلمة (شبع) للنوم أنا موافق ياست نجاة. وفعلا عادت نجاة ولم تجد غيرها وبقيت الأغنية بهذا الجمال المنفرد حتى يومنا هذا.
ثم يتطرق الشاعر لموضوعة القرابين في الماء وما مثلنا هنا هو إبنة النيل التي كان يقدمها المصريون القدماء حيث ترمى فتاة شابة في مقتبل العمر قربانا لهذا النيل العظيم. أو لدى شيعة آل البيت يقدمون الشموع كقربان في نهر الفرات للمهدي المنتظر وهذه لاتزال موجودة في وقتنا الحاضر وباقية هادرة مع أبدية الماء وأسراره وأعماقه السحيقة. سر الماء له مدلولات عديدة فهو الذي يشكل نسبة 80 بالمئة من جسم الإنسان ـ أنا كاتب المقال قلت بشأن الماء بنص بسيط قبل يومين (أنا شاعرٌ كما الماء / كلما حوصرتُ / أستطيع أن اشق طريقا آخراً). المرء حين يبكي يهطل دمعا فالدموع ماء مثلما قالها نزار قباني (علمني كيف تموت الدمعة في الأحداق). وفي النهاية أقول من أن الشاعرعبد السادة قد رسم لنا العلاقة الضاربة بالإحساس الأدبي المحظ، كما أنه كتب رسالة من تحت أعماق الماء إستوفت العديد من الأمور الواردة في شعوبنا منذ الأزمنة الغابرة حتى هذا اليوم والإنسانية جميعا مجبرة أن تعيش بالقرب من الماء فهو أوكسجين الحياة الذي يبقينا أحياء ومن دونه سيكون الموت شبحا يطاردنا.
أدناه نص سر الماء...
يفيقُ الإله (آبسو)
على الشواطئ يحنو برفقٍ
بركاته (تطبطب) على أكتاف النهر
وتفيضُ عذوبةُ المحبة !
الربّاتُ الست يقمنَ قدّاساً للطفلِ
بأدعيةِ العشقِ يهدْهدنَ المهدَ
على صفحاتِ الموجِ،،
يرششنَ ورود اللقيا
العذراواتُ،،،
يأتينَ من كلّ فجٍّ
محمّلات بأمانٍ خضرٍ
وبأحلامهنّ يمشطنَ خصيلاتِ الشاطئ
دفءٌ،،،عذبٌ،،،،
سرٌّ،،،،،، هو الماء !
والعصرِ،،،
انّى للماءِ خيارٌ آخر
انّى للانسانِ خيارٌ آخر
أنّى للعاشقِ والمعشوقِ خيارٌ آخر!
أيّتها الربّاتُ،، ترفقنَ قليلا
الطفلُ،،،
القمرُ،،،
فسيلُ البرحي،،،
يتباركُ بالحلم
أقمْنَ القداسَ
إبتهلنَ،،،
ترنّمنَ
ولنحذو جميعاً حذو الكهنة !
(آبسو) يمدُّ أنامله المعروقةَ
من فرطِ الشوقِ
الحزنِ،،،،
الألم،،،،
أصابعه تنضحُ طيباً عبقاً،، يباركنا
نتمشى،،،،
يسبقنا حشيشْ الشطآنِ
أغانٍ وترانيمَ
ــ على مهلٍ ــ يأتي (البلّامُ) بفالتهِ
الزورقُ يحتضنُ المويجاتِ المتراقصةِ
سمك يُصطادُ،،،،
سمكٌ يقفزُ،،،،
(يلبطُ)،،،،
يتناسلُ،،،
يتلألأ،،،،
والقمرُ يدورُ،،،يدورُ،،،يدور
يداري الاحلامَ
ويغازلُ
والماء السرُّ
فينا عاشَ سنينا
معنا ارتحلَ قرونا
وإيّانا إلتحفَ العمرَ
فظلّ السرُّ،،،هو الماء !
القرابينُ،،،
القرابينُ المحمولةُ،،
فوق أكتافِ الصيادينَ
تطرحُ أوجاع العمرِ
وتبارح همساتِ الوجدِ
عيونُ العذراواتِ
يغازلهنّ الماء
ويغازلْنهُ،،،
ويظل هو،،،،،ا،،ل،،م،،،ا،،،ء،،،،!!