الخميس ٢٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم هاتف بشبوش

عبد الرزاق جاسم، الصدمة والتشويق..

يكتب عبد الرزاق بإسلوب الصدمة التي تشد القاريء لمعرفة حقيقة ماتؤول اليه أمور السرد مع التشويق الذي على غرار الفن السابع وما أنتجته السينما العربية والعالمية في هذا المضمار الجاذب للمشاهد. تبدأ القصة بأم تذهب الى قبر ولدها الذي مضى على مماته إسبوعا وإذا بها لم تجد القبر ولا الجدث سوى شاهدة قبره فتنذهل مذعورة من هول الحدث المريب. تذهب الى صاحب القبور قيقول لها من أنه فز من قبره وخرج حياً وأعطيناه رداءاً ومضى. تستأجر التاكسي فإذا به يقول لها نعم لقد أجّرني يوم أمس وسمعنا أنه عاد من الموت وتسأل الكثيرين حتى ينتشر الخبر من أن هناك رجل إسمه موسى عاد من قبره. لذلك قلت هناك صدمة عظيمة في الروي الذي لايصدق فلم يحصل في التأريخ البشري أن مات شخصا وعاد الى الحياة سوى (اليعازر) الذي أيقظه المسيح من مماته وهذه القصة ذاتها مشكوك بأمرها لآن العلم ينفي رجوع الحياة بعد تحلل كل الخلايا الجسمية لدى الإنسان. وهناك فلسفة تقول أن الميت لايعرف أنه قد مات منذ أول لحظة من مماته وهذا مما يعطي مفاد القول في الفلسفة العدمية أن الموت جميل. ثم بعد ذلك تسرع الآم الى بيتها وتدخل الغرفة فتجد إبنها نائما في سريره وكإن شيئا لم يكن. وهذا مما أعطى القاريء المضي قدما لمعرفة حقيقة الآمر وكيف ستسير الحياة بولدها وهل سيستمر كعادة الأحياء ويمارس نشاطه مع أصدقاءه وذويه.

حين نقرأ القصة القصيرة الموسومة (شاهدة قبر) لعبد الرزاق جاسم نرى رائحة افلام الخوف والرعب مع مسحة الأمل الذي لايمكن أن يتحقق في شعوب قد مضت شوطا من الألم والقهر الإجتماعي والسياسي. سوى ذلك الأمل المرتقب الذي لا يحصل سوى في الآحلام وهذا ماتناوله عبد الرزاق. وهل الحلم ينفعنا في الحياة لتحقيق مانصبو إليه، كلا : بل هو بمثابة المورفين الذي ينقذنا فترة قصيرة ثم الرجوع اليه وهكذا دواليك حتى يقتلنا بسمومه.

عبد الرزاق في هذا الإنثيال المذهل إعتمد على صورة فريدة من نوعها في الروي والتي تنطبق على أولئك الذين يحملون الصليب على ظهورهم كرمز من أنهم سوف يقتلون أو سيموتون في أي لحظة لآنهم ملاحقون من قبل السلطة الطاغية أو من القهر والضاقة الإجتماعية والجوع الفتاك ولذلك تراهم يرون الموت أمامهم في كل لحظة. فهنا القاص عبد الرزاق أعطى التأويل للمتلقي وما يراه وعليه أن يملآ الفراغات لأن المتلقي هو الذي عليه أن يعطي الرأي السديد تاويليا مثل المسرح (البريختي) الذي لايعطي النهاية المباشرة ولايعطي الحلول و لاالخواتم الواضحة بل يترك للمشاهد لوضع النهاية وفق ماتراه سريرته فنجد أكثر من حلول أو نهايات عند المسرح البريختي.

عبد الرزاق جاسم في هذه القصة دخل المدرسة الرمزية التي يصعب على القاريء البسيط ان يفك طلاسمها بسلاسة الا بعد تمعن وتفكير وهذا هو اسلوب القصة القصيرة التي غالبا مايتناولها الآدباء مع التكثيف والابتعاد عن الوصف الخارجي للطبيعة أو المكان بل يعتمد على المعنى والبنية الرصينة البعبيدة عن الاسفاف علاوة على دخوله المباشر في الحدث وسير الآحداث التي تعتمد على الوصف الداخلي والنفسي لبطل القصة وشخوصها. وهنا عبد الرزاق أراد أن يوضح لنا برسالة مفادها :أن رمزية الموت والرجوع منه تندرج وفق القول المأثور (نموت في اليوم الف مرة) أي أننا ميتون رغم أنفاسنا التي تسير في الرئتين لآن الحياة لاتقاس بنشاط النبض بل بما يقدمه المرء من أفعال نبيلة للآخرين أو بين مايعيشه من سعادة حقيقية بعيدة عن النكوص في أي لحظة تطيح بنا الى هاوية الموت، وهذه ناجمة عن الآوضاع السياسية والعدمية والفقر والخوف من المجهول والمستقبل المتأرجح بين الحياة والموت أو بين الرضوخ للواقع المؤلم والمضي به دون التفكير في عواقبه حتى لو كان الموت قريبا منا بين قاب قوسين أو أدنى.

عبد الرزاق اتخذ في قصته العلاقة الحميمية بين الآم والأبن التي لايمكن أن تقاس وفق الاخلاقيات لآن الآم وماتحمله من حب لابنها ذلك الحب غير المشروط فهي تعطي دون مقابل، وهذا ما اراد ايصاله لنا عبد الرزاق من رسالة واضحة أن الحب اليوم وكل الاخلاقيات الانسانية أصابها الضبابية لكثرة ما نراه من مآسي لاتحصى وان الحزن هو الطاغي مهما فعلنا ردمه فهو هنا قد حصر الإنسان أمام الآسوار التي يموت عليها الثوريون دون القابلية على الفرار فهناك السور خلفهم والرصاص من أمامهم مثلما يقول سعدي يوسف (على الآسوار ولدنا وعلى الأسوار نموت، فلم نعرف في بابل / غير القتل لآجل القوت). هكذا هو حال الحزن لدى العراقيين الذي لامهرب منه ولذلك قال عبد الرزاق في نهاية قصته حين دخلت الآم ورأت إبنها العائد من القبر نائما على سريره فقال (الحزن لايحتاج قبرا كي يظل حياً). وقبل نهاية القصة أوضح لنا عبد الرزاق من ان الآم كانت في حلم اليقظة أو حلم المنام فلا فرق، مما جعلها تتصور أن ابنها ميتا. هذا يعني خوف الآم من شدة العدمية على موت ابنها في أي لحظة لآنها لاتستطيع توفير المعيشة الهانئة له فم الممكن أن يموت بسببٍ أو بآخر. هذا يعني أننا نستنتج من الرمزية الهائلة التي اعتمدها القاص عبد الرزاق من ان الآم هي الوطن والأبن هو الشعب. وهنا الوطن نراه خائفا بشكل كبير على مصائر أبناءه في ظل ظروف مخيفة لاتستطيع حماية الابناء من الشرور وأحد هذه الشرور الكبرى هي الموت.

عبد الرزاق هنا إقترب من الفبلم العالمي (الموتى السائرون) والذي يجسد خروج الموتى كأشباح في الشوارع ويفعلون مايفعلون كثأر وانتقام لما عاشوه في الحياة الدنيا من ظلم وحيف. كما وأن القصة تبحث بشكل آخر عن مصير الإنسان وتداعياته وخوفه من الموت فيلجأ الى أساليب أخرى لعلها تخفف من شعوره بالموت والعدم الذي يصيبه فعلى سبيل المثال قال الممثل العالمي الشهير آل باتشينو وهو ينقل الى المشفى ويحتضر من ضربة رصاصة قاتلة فيقول (لاتنقلوني الى المشفى فهناك أطباء أغبياء في الطوارئء، وأنا لاأريد أن اموت، بل أريد الذهاب الى الفردوس) فهي كلمات غير مترابطة خرجت منه في حالة الهذيان، ويموت ويترك الآحلام التي كان بصدد تحقيقها.

عبد الرزاق جسد في هذه القصة إسلوبا آخرا تناوله المشاهير وهي (الخروج من اللوحة)، حيث تتناول لوحة معينة لشخص ما أو إمراة معلّقة صورتها في الحائط وهي قد نالت القهر في الحياة، فيصور لنا القاص خروجها من اللوحة في الليل وتجوب الشوارع لتحقيق إنتقامها أو ماتريد فعله ثم تعود في النهار الى اللوحة وبإسلوب شيق قل نظيره ومفاده أن المرء يحلم بالعودة بعد الموت لتحقيق ما كان عاجزا عن تحقيقه في الحياة وهذا ما لايمكن أن يكون ولكن المرء بإبداعه يحاول تهدئة نفسه لعله يجد مصيرا آخرا أفضل من الموت. وينهي عبد الرزاق جاسم قصته من أن الآم كانت تحلم بممات إبنها مع سطر بسيط في نهاية الفصة (الحزن لايحتاج قبراً كي يحيا)،. وهنا نجد مسألة التضاد في الأشياء التي برع بها عبد الرزاق لآن الحزن ساكن فينا ليل نهار وهو حي لايموت ولايحتاج قبرا كي يثبت أنه حي ومن الممكن أن يموت كما سائر البشر، أي أن عبد الرزاق صيّر الحزن كائنا بشريا يستطيع أن يفعل مايشاء بنا ويستطيع أن يكون طاغيا جباراً أو أن يكون بمثابة عزاء لنا لتهدئة مصائبنا وشرورنا القابع في نفوسنا. ويبقى عبد الرزاق قاصا إستطاع أن يبني له صرحا سردياً رصينا يحتوي على الكثير من الشروحات مع البنية والأنثيالات على أكثر من مفصل ومحور وفحوى تجعلنا نبحث عن التأويل كقراء ومستقطبين قادرين على ايجاد الحلول لمعرفة النفس البشرية المتأرجحة بين الشر والخير وحلمها في إنتصار الخير في مشاوير الحياة التي باتت لاتطاق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى