الجمعة ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٣
من أدب السجون

عاشـق من جنين ـ الحلقة الاولى

رأفت خليل عطية حمدونة ـ سجن نفحة الصحراوي

إهداء

إلى الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى هذا الوطن الغالي …
إلى الأكرمين منا جميعاً …
إلى الشهداء جميعاً وشهداء جنين القسام خصوصاً …
إلى أخوتي الأبطال خلف القضبان …
إلى والدي ووالدتي الأوفياء …
إلى كافة أبناء شعبي الأبطال …
أقدم هذا العمل المتواضع …

كان يوم ميلاده في ظروف صعبة ، كان أبوه مولعاً به وعندما يضيق به الحال يقول له مازحاً : تذكرني بدخول البريطاني إلى القدس يا خليل ، كان خليل يتأثر بهذه المقولة ، رغم أنه يدرك أنها ليست من قلب أبيه .

تربي خليل وهو يكره البريطاني الذي ألصق به هذا التشاؤم ، وحينما أصبح يافعاً قوياً كان يسمع من الناس أن هنالك شيخاً جليلاً أسمه عز الدين القسام يخطب في مسجد الإستقلال على مسافة غير بعيدة من منزله .

تعلق خليل بالشيخ وأحبه ، فداوم على دروس الشيخ بعد صلاة العصر ، في ذاك المسجد الذي كان يعج بالمصلين من حيفا ومناطق مجاورة في جنين .

كان خليل يتربي علي خطب الشيخ المجاهد الذي طالب الناس بالجهاد ورأي فيه فريضة كالصلاة والصوم ، كان على يقين بأنه لا مفر من محاربة البريطانيين وأعوانهم ، فطلب من الناس جهراً شراء السلاح والتدرب عليه .

انبهر خليل حينما رأى الشيخ المجاهد في إحدى الخطب وهو يرفع سلاحه أمام المصلين ويقول : من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليتقن مثل هذا ،هؤلاء البريطانيون يتعمدون إضعاف قدراته المعيشية ، ويعرقلون سير تجارتكم ، حتى تكسد محاصيلكم ، ولا ترون في فلاحة الأرض شيئاً مجدياً فتتركونها أو تبيعونها ليستوطنها اليهود .

أيها الناس عليكم شراء السلاح وإخفاءه ، فالبريطانيون يحرمون عليكم اقتناء السلاح ، في حين أنه يعد اليهود بوطن على أرضنا ، ويمدهم بالسلاح .

هاهم يلاحقوننا في كل شئ ، في استقرارنا ورزقنا وأرضينا ومستقبلنا .

كان خليل يصنع علي عيني الشيخ ، ويتمني لو كان من صحبه المجاهدين ، الذين خرجوا لنصرة الدين والوطن في قضاء الناصرة ، كان يحلم بالخروج معهم إلي أحراش يعبد في جنين ، غير أن هذا الأمل تبدد حينما حوصر القسام واستشهد مع إخوانه .
تعلم خليل معني الصمود من هذه المعركة التي خاضها الشيخ ، واستمرت من الصباح حتى العصر وامتلأ قلبه حباً حينما رأى الجماهير المهيبة في حيفا وهي تهلل مكبرة في موكب الجنازة .
استطاع خليل أن يلمس جثة الشهيد ، وأقسم ألا ينساه ، لم تكن الأيام طويلة ، حتى دخل كل الشعب في انتفاضته التي دامت ثلاثة سنوات .

لم يضع خليل رأسه على الوسادة ، حتى يتذكر موكب الشهيد فيقبل يديه اللتين لمستهما .

أيام كثيرة كانت تمر ، وخليل يراقب حركة الجنود البريطانيين ، وأخيراً حدد هدفه لجندي اعتاد أن يرتاد إحدى الحانات في المدينة ، فشرب الخمر حتى الثمالة ، ثم يعود للبناية العسكرية التي كان يقطنها ، في ساعة متأخرة من الليل .

عزم خليل أن ينتقم ، وفي إحدى الليالي استل سكينه وانتظر ثم اقترب من الجندي وطعنه في الصدر ، فصرخ طالباً النجدة ، فانتبه له أحد الجنود الذي أطلق النار باتجاه خليل الذي اختطف بندقية الجندي وهرب .

تحامل خليل على ألمه وواصل طريقه وهو مصاب ، وعلى جناح من السرعة انتشرت الدوريات البريطانية تجوب أنحاء المنطقة ومنعت التجوال فيها .

اضطر خليل أن يلتجئ إلى أحد البيوت للحماية ، وتضميد الجرح النازف ، طرق باب بيت مستور في زقاق ضيق ففتحت له ابنة صاحب البيت .

رأت الفتاة خليل فأشفقت عليه ، وهرعت إلي والدها وهي ترتجف خوفا من حالة الشاب المصاب .

تعرف صاحب البيت على خليل وعلم بقصته ، فأخفى قطعة السلاح وباشر بعلاجه وبعث من يطمئن أهله عليه .
تشافى خليل من جرحه ، وهدأت البلدة من جنود البريطانيين الذين فقدوا جندياً وقطعة سلاح .

تعرف خليل على عائشة التي ساعدت والدها في حمايته وعلاجه ، فكان مديناً لها بوقفتها إلي جانبه ، في حين أنها رأت في خليل البطل والمناضل .

عاد خليل إلي بيته معافى وهو يحمل في قلبه لعائشة حباً كبيراً وذاكرة جميلة ، كان يشعر بالفضل لهذه الفتاة وأهلها فأحبهم وأحبوه ، واحترموا بطولته وشجاعته .

احتفظ خليل بقطعة السلاح التي رأي فيها رمز نصره ، واحتفظ في قلبه لعائشة مكانة كبيرة كان يفكر فيها ليل نهار ويسرح بابتسامتها المعبرة ولم ينتظر الكثير ليطلب من والديه الارتباط بها ، لم يفكر الوالدان الكثير في طلب عائشة فقد رأيا فيها وفي أهلها خير ونسب وزوجة صالحة لابنهم ، وبعد أشهر تزوج خليل من عائشة ، وتعاون المحبان على قهر صعوبة الحياة ومن ثم رزقهما الله بحسن وعبد الله وفاطمة ونعمة .

شعر أبو حسن ككل أهل فلسطين بالمؤامرة ، وقبل النكبة تخلت بريطانيا عن الانتداب في فلسطين ، وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة فرار التقسيم المجحف ، فسحبت بريطانيا قواتها قبل انتهاء الانتداب من المناطق اليهودية والتي أرادتها لليهود ، وتركت العرب تحت رحمة المنظمات العسكرية الصهيونية كالها غانا والأرغون ليباشروا فظائعهم ، فقتلوا ودمروا وحرقوا وأرعبوا وأرهبوا المواطنين الأبرياء العزل في يافا والقسطل ودير ياسين الوادعة ، وبادوا قتلاً وذبحاً وتمثيلاً بالجثث ودفناً للأحياء وبقراً لبطون الأمهات الحوامل .

كان أبو حسن على يقين بأن هناك مشروعاً بريطانياً صهيونياً كبيراً ، حتى وقع ما كان يخشاه ، فأعلن الصهاينة إقامة دولة اليهود في فلسطين ، وكانت الهزيمة الساحقة حينما دخلت الجيوش العربية للتحرير دون جدوى ، رحل ما يزيد عن مليون لاجئ فلسطيني من منازلهم ومدنهم وقراهم ، فكانوا عرضة لحر الصيف القاسي ، ولبرد الشتاء القارس ، وللأمراض الفتاكة والقاتلة ، عاشوا حياة البؤس والفاقة وتحولوا من ملاك أراضي أغنياء ، إلي فلاحين أجراء فقراء يكتفون بلقمة العيش .

كانت أعظم مصيبة على أبي حسن ، يوم أن رحل من أرضه عنوة إلي جنين ، كما رحل غيره من مدن وقرى فلسطين للضفة الغربية وقطاع غزة وخارج الوطن ، حينها شعر بما أحل به وبأهله بسبب التخاذل ، لم تغف عيون أبى حسن منذ هجرته حتى يحلم بالعودة لبلده وبيته ومسقط رأسه ، وذكريات الطفولة .

استقبل الفلسطينيين أفواجاً من المهاجرين ، وتقاسموا معهم البيت والملبس وقطعة الخبز ، وبقي مئات الآلاف بدون مأوى فاشتد عليهم الكرب ، وانتشر المرض بين الأطفال والشيوخ ، زاد هم أبي حسن وزوجته حينما عجز عن تقديم أى شيئ لابنهما عبد الله ، الذي أصيب بالحمى ، لم يتصور أبو حسن أنه قادر على تحمل المزيد من المصائب حتى فقد ابنه وهو على صدره وبين ذراعيه .

كانت مصيبته أقل من الأم ، التي فقدت أحد أبنائها خلال التهجير ، ولا زالت في حيرة من معرفة مصيره .

تسلم أبو حسن خيمة بدلا من بيته الذي سكنه مستوطن يهودي أتى من خارج الوطن ، وعمل أبو حسن أجيراً كفلاح يتنقل من جبل إلي جبل ومن حقل إلي حقل .

لقد رضي أبو حسن برزقه على صعوبته ، وزرع في قلب أبنائه حب الوطن ، والحنين للعودة ، ومآسي الإبعاد مع كل بذرة قمح وجني حبة زيتون .

مرت السنون على أبي حسن مرة كالعلقم ، ولم يتبق الحال على ما هو عليه بل ازداد الوضع سوءا ، فمرت الأمة من نكبة إلي نكسة ، ومن هزيمة إلي أخرى .

كانت أوضاع اللاجئين صعبة ، في حين تعاظمت دولة اليهود بعد إقرار الهدنة بين الأنظمة العربية من دول الجوار واليهود وتم حفظ أمن حدود الدولة الجديدة من جهاد المتطوعين ، ونضال الفدائيين .

قويت دولة اليهود بعد حرب الأيام الستة التي أنتصر فيها اليهود انتصارات ساحقة ، فتوسعت رقعة الاحتلال ، وعسكر اليهود على قناة السويس ، وأطبق المحتل احتلاله الكامل على كل فلسطين والجولان .
تقدم أبو حسن في السن ، وانتشر الشيب في لحيته ورأسه ، فربي وعلم أبناءه بالعرق والدم والتعب والسهر ، فكانت حياته قاسية وصعبة ومؤلمة ، ولم يشعر بالراحة حتى تزوج أبناؤه ، تمنى أبو حسن لو أن أحداً من أبنائه حمل هم ثورته وتاريخ هجرته ومعاناته ، إلا أن حسناً لم يشبه أباه ، فكان يميل للمزاح والتعاطي مع الظروف والعيش في هذه الحياة على ما هو عليه ، ففي الوقت الذي كان فيه أبوه يلعن ويبصق ويحلل ويعلق على نشرات الأخبار ، كان حسن يقلب الموقف إلي مسرحية ، ويغلب على حياته الاستهتار .
كان أبو حسن يستبشر عند كل مولود لزوجة ابنه وينتظر أول مولد بعد ثلاث بنات ، ويحلم وهو يربيه على يديه ويقص عليه بطولاته هو في ريعان شبابه ، ويزرع فيه حب الوطن والأمل في العودة .
تحقق حلم أبى حسن مع لحظة بطولات الفدائيين في معركة الكرامة ، التي كانت الانتصار الأول على دولة اليهود بعد هزائم متواصلة .
كان شديد الفرح وهو يحمل حفيده الأول وحمله الذي تأخر ، أسرعت أم حسن بتسمية الطفل على اسم جده الذي أعجبته المبادرة ، وفرح الجد بالمولود فرحته بانتصار الكرامة .

كان أبو حسن يقضي معظم وقته مع خليل الصغير ، فأطعمه وسقاه ، واصطحبه للمسجد وأجلسه بجانبه وهو يستذكر مع أصحابه ذكريات الحياة ، استطاع الجد أن يوجد لنفسه ظروفا معيشية بسيطة وجميلة ، ويضع على رأسه طاقية منسوجة من الصوف ، يكره كل أشكال التمديد ، فكان يضيء السراج في الليل ، ويستمع إلى كل نشرات الأخبار في مواعيدها ، رغم أنه لا يملك ساعة يد ، ولا يوجد في بيته أي جهاز كهربائي ، ومذياعه يعمل على البطاريات ، كان يضع في جيبه علبة تبغ من الحديد ودفتر عربي وقداحة بفتيل بنزين ، أجمل ما في بيت الجد كانت الحديقة المزروعة بالخضار والتي فيها مكان لتربية الطيور والماشية ، وفرن من الطين وتزينها أشجار الفواكه ، وعلي طرف الحديقة عريشة من جريد النخل وزير مليء بالماء البارد الصافي العذب ، بيته مليء بالسعادة ولا يخلو من الزائرين والجيران والأقارب والأولاد والأحفاد .

لم يعرف أبو حسن المرض طيلة حياته ، رغم أنه شارف علي الثمانين ، يكره شيئاً اسمه مستشفي أو إبرة أو طبيب ، ولا يذهب إليه .
نجح حسن في عمله كتاجر في سوق المخيم ، ومع هذا لم يبتعد عن والديه ، فسكن في بيت جميل مليء بالأدوات الكهربائية والأثاث ، دوماً كان يتردد على البيت المتواضع الذي تربي فيه والذي يستحضر بداخله كل ذكريات الطفولة الجميلة ، يشتاق لخبز أمه الساخن وصحن البن وكوب الشاي الذي تم غليه على الحطب ويذهب ليقتطف بيديه من الحديقة حبات الطماطم ، ومن حين لآخر كان يتناول الماء من القلة الفخارية ، آثر حسن إرضاء والديه بدفع تكاليف الحج لأنه أقنع نفسه بعدم القدرة على دفع تكاليف الجهاد والمقاومة ، امتلأ بيت الحاج أبى حسن بالمهنئين عند عودته والحاجة أم حسن من الحج ، كان يحدث الزائرين بإعجاب وخشية من الكعبة والحرم ، وقبر الرسول ( ص ) ومسجده ، وعن عظمة الوقوف على جبل عرفة ، وأجمل شعور يراوده هو الارتباط الروحي الوثيق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى .

كان خليل يحب اللعب مع جده الذي منحه مزيداً من الحب والحنان والعطف فيقترب الجد من وجهه ليقبله فيتهرب ويقول له : تشوكني لحيتك يا جدي ، فيتعمد الجد إرضاء الطفل ويطلب من أم حسن أدوات الحلاقة ، فتغلي له الماء ، وتحضر له صابون يد عادي ، وفرشاة منتوفة صفراء قديمة ، وماكنة حلاقة مزركشة لا يقل عمرها عن عشرين عام ، كان يساعده في الحلاقة حفيده أحمد ابن بنته فاطمة ، وعندما ينتهي من الحلاقة ، ينظر لنفسه في المرآة ويقول له : هل تعرف فتاتين في التوجيهي يا سيدي ؟ فيرد أحمد أعرف ، ولكن لماذا ؟ فيقول الجد : واحدة لي والأخرى لك .

كانت أم حسن ترفض هذا الكلام ولو كان مزاحاً ، فتلوي عنقها وتحرك فمها وتقول باستهزاء : " شيلوني تقع " .

مجلس أبي حسن دوما مليء وحديثه لا يمل ، ويومه مليء لا يشعر بالفراغ ، فيزرع ويقلب الأرض ، ويبني السلاسل للحديقة ، وينظف من تحت الشجر والماشية ، ويذهب للسوق لبيع بعضها ، ويسقي الزرع والماشية ويطعمها وفجأة ينظر لخيال جريد النخل تحت الشمش على الأرض فيسمع للمذياع ، فإذا بصوت إشارة الأخبار فيسمعها وكالعادة يتمتم ويشتم ويبصق ، ويشعل التبغ ، ويحضر لاستقبال أصحابه وفي الظهيرة يذهب للمسجد فيصلي ، ثم يعود يتناول الغذاء وينام حتى صلاة العصر ، ومع مجيء أصحابه القريبين في العمر منه ، يتناول من قرب سقف العريشة سلة منسوجة من البوص ، ويقدم لهم بعض الفواكه التي اقتطفها من ثمار الحديقة .

كان يقول لأصحابه مازحا : عيشوا من خير الله ومن خير خليل ، فيرد عليه أبو إبراهيم : والله يا حاج خليل فواكه اليوم ما هي نافعة ، يؤكد حديثة الشيخ حافظ : والله صدقت يا أبا إبراهيم ، ساق الله عن فواكه حيفا .

وحينها يٌظهر أبو حسن تذمره من هذا الحديث ، وكأن الأمر يمسه شخصيا ، فيضطر لمدح رجل زمان : أنتم الذين نسيتم كيف كنا ونحن شباب ، فكنا نقف على شجرة تين مثمرة ولم نتركها إلا وهي ورق بلا ثمر .

وهكذا حتى يأتي وقت الأخبار ، فينصت الجميع ، فتبدأ الأخبار ويقول المذيع : هنا صوت العرب وإذا أبو حسن ينفجر غضبا ويسترجع كل الإحباطات من وراء العرب ويقول : والله طز …

والله وصلنا إلي ما نحن فيه إلا من وراء العرب الذين لم يكتفوا بتركنا في حالنا في الانتفاضة بعد استشهاد القسام ، ولفترة ثلاث سنوات متتالية فهم لم يفعلوا شيئاً أما حمام الدم ولم يكتفوا بالامتناع عن تقديم المساعدة لنا ونحن نواجه الدبابات البريطانية ، وبل وجهوا نداءاً علنياً لنا ، يدعوننا فيه لوقف الإضرابات والاحتجاجات والعمليات البطولية ضد حليفتهم بريطانيا التي أصبحت طرفا رئيسيا في الحرب العالمية .

هم أنفسهم حموا حدود دولة العدو في الهدنة بعد النكبة ، وهم الذين أوهمونا بالانتصار في حرب الأيام الستة ، وهم الذين ارتكبوا في حق الفدائيين مذابح أيلول ، وسحقوا المقاومة في جرش وعجلون وهم الذين ارتكبوا في حقنا مجزرة تل الزعتر وتحالفوا مع الصهاينة في صبرا وشاتيلا ، ألم يكن بوسعهم تحريرنا في حرب أكتوبر ، هم اللذين فتحوا بوابة العواصم العربية بعد كامب ديفيد .

لقد تقدم الحاج أبو حسن في السن ، الأمر الذي انعكس على صحته ونظره ، في حين أن خليل أصبح شاباً يافعاً وقوياً وواعياً ، لم يكن خليل لوحده يستمع لحديث جده ، بل كان يرافقه منذ الطفولة والمدرسة صديقة الأقرب والأحب على قلبه محمود ، كانا متلازمين طوال الوقت في النهار وساعات من الليل ، على مقعد الدراسة ، وساحات المخيم ، والتنزه في تلال الجبال المحيطة ، وفي فناء المسجد وحرم الجامعة والأحراش .

أحبا بعضهما بعضاً حتى الإيثار والتضحية ، وأحبا حديث الجد لدرجة سماعة بخشوع ، فنصتوا لكل حرف وكلمة ووصية ، ولكل الذكريات الأليمة ، كانا واعيين لمقصده وحلمه وطموحه ، فحملا همه وتطلعا لتحقيق حلمه ، وتواعدا بالسير على دربه . عشرات السنين مرت على أبي حسن ، وهو ينتظر متأملا وضع هذه الأمانة ، وتوصيل هذه الرسالة لأشخاص ثقات ، ورجال أكفاء ، فرأى في خليل الحفيد وصديقه محمود العنوان ، وأمل المستقبل في النصر والعودة والاستقلال .

عاد محمود إلي بيته وبقي خليل عند جده ، الذي أدخله في غرفة مقفلة ، وأخرج له البندقية التي يرى فيها رمز بطولته ، فقدمها هدية لحفيده خليل وأوصاه بها ولكنه استوقفه
وقال : يا خليل هذه البندقية لا تكفي ، وتبقي ناقصة إذا لم يكملها هذا ، فأخرج له مصحفاً وأشار إليه .

اشتاط أبو حسن غضبا على أثر حادث قتل متعمد لعمال كانوا يبحثون عن رزق أبنائهم ، فخرجت المظاهرات في مخيم جباليا ، واندلعت الانتفاضة ، وعمت كل فلسطين ، كان خليل ومحمود وأحمد من أبطال هذه الانتفاضة فتصدروا كل أشكال المقاومة ، بالحجر والسكين وإطلاق النار والعمليات الاستشهادية .

كان خليل من النشطاء البارزين في العمل الطلابي في الحرم الجامعي وله تأثيره على يد جده أبي حسن .

شهد أبو خليل نشاط ابنه المتميز في الانتفاضة ، فأراد أن يؤثر عليه بفكرة الخطبة ، في محاولة لثنية عن نشاطه وشعوره بالمسؤولية والتفكير في مشاغل الحياة .

عرض أبو خليل فكرة الخطوبة على ابنه الذي يتردد في رفضها متذرعاً بإكمال دراسته ، الأمر الذي لم يرق لوالدته التي بكت : أنت يا خليل ابني الوحيد ، وأريد أن أطمئن عليك فنحن جميعا محتاجون لك ، فلا تغضبني وتردني في طلبي ، لم يوافق خليل على مشروع الخطبة حتى استشار جده الذي لم يعارض ، وقال له : رضا الله من رضا الوالدين يا جدي فالخطبة لن تعارض المقاومة .
وافق خليل على الخطبة ، ولم ينتظر الكثير حتى عرضت عليه والدته ليلى ابنة جارهم أبي طاهر .

قبل خليل بليلى التي كان يعرفها منذ الصغر ، ومع مرور الأيام أظهرت له إخلاصها وارتبط الحبيبان ببعضهما ارتباطاً قوياً ، اقترب خليل من ليلى وأحبها حتى العشق ، تحدثا بصراحة عن كل شيء وتعاهدا على الصدق والإخلاص في العلاقة وتطرقا لتفاصيل الحياة في المستقبل .

ذهب خليل لبيت جده فوجده مع أصحابه في حديقة المنزل ، كان الجميع ينصت لنشرة الأخبار التي تحدثت عن جهود دولية لتحقيق السلام وعقد مؤتمر دولي يضم زعماء المنطقة.
وفور انتهاء نشرة الأخبار ، بدأت جلسة التحليل كالعادة ، سأل أحدهم : هل يمكن تحقيق السلام ؟

رد أبو حسن : عندما يجد الأعور عينه وعندما يزهر الملح .
رد الآخر : ولكن هذه المرة يجري الحديث عن دول عظمي وأمم متحدة ، فقاطعه الشيخ حافظ : وما هو الفرق بينهما ؟ فهي نفسها التي زرعت اليهود في أرضنا ، وهي التي حمته ومدته بالمال ، وأتساءل : كم قرار من الأمم المتحدة يطالب دولة اليهود بالانسحاب دون جدوى !!

رأفت خليل عطية حمدونة ـ سجن نفحة الصحراوي

انظر الحلقة الثانية


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى