الخميس ١٠ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

طرائف ولطائف

ما أكثرَ الطّرائفَ واللّطائفَ والمواقفَ الحرِجةَ الّتي تقعُ بشكلٍ عفويٍّ في حياتِنا، وتتناقلُها الألسنُ، وربّما يذهبُ الكثيرُ منها هباءً منثوراً طيَّ النّسيان، وقد يرى بعضُها النّورَ حينَما يقعُ تحت ريشةِ الأديب، فيزيدُها لمعاناً ونوراً، ويُضفي عليها جمالاً من روحِه وبهجةً من فؤادِه، وطرافةً من لسانِه، وفلسفةً من فكرِه، وإحساساً من مشاعرِه الجيّاشة، وإليكم بعضَ ما حدثَ معي ممّا يُثير الضَّحِكَ تارةً، ويبعثُ على الأسى والمرارةِ تارةً أخرى.

كنتُ في زيارةٍ مع أسرتي إلى عيادةِ الدّكتور إياد الشّقْفة لطبِّ العيون في مدينة حمصَ أمِّ الطّرائفِ واللّطائف، وحين وصلْنا إلى العيادةِ جلسْنا في صالةِ الاستقبال حتّى يحينَ دورُنا، وأخذَت مقلتايَ تتأمّلُ الصُّورَ واللّوحاتِ المعلَّقةَ على الجدرانِ كعادةِ الأطبّاء للزّينةِ والدّعايةِ أو للقراءةِ والتّوعية.

وممّا لفتَ انتباهي وأثارَ الدَّهشةَ في نفسي لوحةٌ إرشاديّةٌ بخطٍّ عريض: (التّدخينُ مسموحٌ خارجَ الصّالةِ في الممرّ)؛ ربّما لأنّ العيادةَ في أحدِ الطّوابقِ العليا، والنّزولُ إلى الطّابقِ الأرضيّ يكلّفُ جهداً ومشقَّة في بناءٍ قديم ليس فيه مصعدٌ كهربائيّ، فضحِكتُ في ذاتي وكتمْتُ الأمرَ ريثَما أقابلُ هذا الطّبيبَ الظّريف.

حينَما دخلْنا وألقيْنا السَّلام عليه، كان في غايةِ السَّعادة، والسّيجارُ الكوبيُّ يتراقصُ بين أصابعِه، فسألَنَا: بالتّأكيدِ لستُم حماصِنة؟ فقلتُ له: لا واللهِ، بل نحنُ من مدينةِ العُميان؛ ولهذا جئْنا إليكم لنفحصَ عيونَنا؛ كي نرى سببَ جدبتِكم، وقرأتُ له الأبياتَ المشهورةَ:

لحمصَ أمْ لحماةَ المرءُ يَنْتسِبُ
هناكَ العَمى وهُنا المعشرُ الجُدُبُ
وفي دمشــــــقَ عِـلاكاتٌ مُصـــــــــــدّيّةٌ
وللتَّنـاحـــــــــــةِ دارٌ اســــــــــــــــــمُها حلَــــــــــــــــــــــبُ

فسُرَّ كثيراً وراح يُقهقِهُ، وكأنّه لم يذُقْ طعمَ الضُّحكةِ منذُ أيّام، وبفراستِه الذَّكيّةِ سأَلَنا:

لستُم من المقيمينَ في بلدِنا بالتّأكيد؟

فأجبتُه: وكيف عرفْتَ؟

فأجاب: من ألوانِ ملابسِكم الّتي تحملُ غرابةَ الألوانِ وإتقانَ الصّنعة.

فقلتُ: أتنكر جمالَ الألوانِ وإتقانَ الصّنعةِ الوطنيّة؟

فأجاب: حاشَا للهِ! ألم تسمعْ ما غنّى مطربُنا الكبيرُ فؤاد غازي مفتخراً بالمعاملِ الوطنيّة: (يا معاملنا دوري.. دوري)، وأضاف إليها: (خلِّ الخائن يلحق نوري) الّتي اقتبَسها من هتافِ ثوّار (أيّام زمان)، وهي تنطلقُ كالرّصاصِ من الحناجرِ مستنكرةً خيانةَ نوري السّعيد المثيرةَ للجدل (يا بغداد ثوري ثوري.. خلّ الخائن يلحق نوري).. فضحِكْنا مليّاً، وتحوّلَت المعاينةُ إلى جلسةٍ من الفكاهةِ والضّحك.

فقال: وأين تُقيمُون؟

فقلت: في دبيّ!

فسألني بدهشةٍ وسخريةٍ: وماذا تفعلُون هُنا إذنْ؟!

أجبتُه: لقد اشتَقْنا إلى رائحةِ (الشّنْكليش) وخبزِ التَّنُّور على الحطبِ و(الجَلّة)!

فضحكَ مليّاً ونسي سيجارَه الّذي انطفأَ بين أصابعِه!

فقلتُ: واللهِ إنّك ظريفٌ ولطيفٌ يا دكتور، لكنّني أودُّ أن أسألَكَ ونفسي قد امتلأَتْ بالأسئلةِ حينَما قرأتُ لوحتَك في الصّالةِ: (التّدخينُ مسموحٌ خارجَ الصّالة).. وها أنتَ تدخِّنُ داخلَ غرفةِ المعاينةِ والفحصِ!

فضحكَ وقال: جميلٌ سؤالُك.. أمّا لوحتي فإنّها تعبّرُ عن رأيي الحُرِّ، فأنا أكرهُ كلَّ عبارةٍ دكتاتوريّةٍ تبدأُ بكلمةِ (ممنُوع)، فخالفْتُ كلَّ الجملِ الرّسميّةِ، وكتبتُ نقيضَها مبدوءةً بكلمةِ (مسمُوح).. وأمّا أنّني أدخّنُ السّيجارَ الكوبيَّ هُنا، فذاكَ لأنّني سئِمتُ روائحَ السّيجارةِ الحمراءَ الطّويلةِ والقصيرة و(التُّتُن) الحمويِّ الملفوفِ بورقِ السّجائر (يا مال الشّام) في الشّوارع والأزقّة والممرّات.. وراح يقهقِهُ قهقهةً تحملُ مشاعرَ الألمِ والسُّخرية!

وانتهتْ هنيهاتُ الفُكاهةِ والضَّحك، فعاينَ أحدَ أبنائي، ثمَّ قال: ليسَ اليومُ يومَ أربعاء، لكنتُ سامحتُكم بالأجرةِ، ولكنّكم اخترتُم يوماً بائساً، فادفعُوا أجرةَ المعاينةِ بالدّولار.. فضحِكْنا ضحكةَ العمرِ، وودّعْنا ذلكَ الطّبيبَ الوسيم.. وغابتْ صورتُه عن ذاكرتي وخيَالي، لكنَّ كلماتِه ظلَّت محفورةً في وجداني مثلَ الكتاباتِ الأثريّةِ على جدرانِ الأوابد.

وبعدَها ذهبْنا إلى سوقِ الحميديّةِ قربَ السّاعةِ القديمة؛ لنشتريَ بعضَ المؤونةِ؛ لنحملَها إلى الخليج، فلم نجِدْ موقفاً لسيّارتِنا الخليجيّةِ في المكان الّذي أردْنا التّسوُّقَ منه، فركنَّاها في مكانٍ قريب، وبينَما نحنُ نشتري لوازمَنا من حانوتٍ، كان ابني أدهم الصّغيرُ يتأمّلُ ملاعقَ طعامٍ صغيرةٍ في الحانوتِ الثّاني المجاور، فراحَ يتلمَّسُ تلك الملاعقَ، فسقطَت بغلافِها على الرّصيف، فجُنَّ جنونُ صاحبِ الحانوت.. وأخذَ يصيح بانفعالٍ وعصبيّة: لمن هذا الطّفلُ الوقِحُ غيرُ المربّى.. إنّه يعبثُ بأغراضي.. وكان ذلك في شهرِ رمضانَ المبارك!

نسيتُ الصّيامَ وخرجتُ عن ذاتي.. فقلتُ له: هذا الولدُ الّذي تتَّهمُه بقلَّةِ التّربية هو ابني.. إنّه يستطيعُ أن يشتريكَ أنتَ وبقَّالتَكَ بالمزاد! فجُنَّ جنونُه الهمجيُّ وهاجمَني ليضربَني.. وفي لمحةِ البصر، قفزَ صاحبُ الحانوتِ الّذي نشتري منه أغراضَنا من وراءِ الطَّاولة، وراح يناولُه اللَّكمةَ تلوَ الأُخرى حتّى خرَّ صريعاً على الأرضِ.. مؤنّباً إيّاه: كيف تتجرّأُ على مهاجمةِ زبائني أيُّها الكلبُ الجَبان؟ واجتمعَ النّاسُ من حولِنا وعلِمُوا سببَ ما حصلَ.. وراحُوا يعتذرُون منّا متّهمين ذلكَ الحانوتيَّ بالخِسّةِ والنّذالة، وبالصُّدفةِ تقدَّم شابٌّ ريفيٌّ جبليٌّ منّي فقالَ: أتريدُ أن (أشحطَهُ) إلى الفَرع؟ فقلتُ له: أشكرُكَ أيُّها الشَّهم.. الأمرُ بسيطٌ ولا يحتاجُ إلى فرعٍ!

حملْنا أغراضَنا إلى السَّيّارة، وعدْنا من أمامِ الحانوتينِ ووقفتُ قليلاً: وقلتُ للحانوتيّ الشَّهم: هل توصِينا بشيءٍ من الخليج؟ فقالَ: سلامتَك.. سامِحْنا من أجلِ الله لما رأيتَهُ من جاريَ المعتُوه.. ولكنْ أوصيكَ بمعالقَ ذهبيَّةٍ من الخليج لهذا الغبيّ كي يميّزَ بين لمعانِ الذّهبِ الحقيقيّ هناكَ وبريقِ الطّلاءِ هنا مشيراً بإصبعِه إلى ملاعقِ حانوتِ جارِه.. وودَّعْناهُ بكلِّ محبّةٍ وتقدير.. وهكذا هي الحياةُ دروسٌ وعِبر، بعضُها بنكهةِ الفُكاهة، وبعضُها الآخرُ بطعمِ المرارةِ والألم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى