ضعتُ يا أبي
ضعتُ يا أبي،
يوم أن وليتَ وجهكَ للبرزخ قسراً
وخلّفت لي إرثاً من أمنيات معتقة بغدٍ أفضل
ووصايا عتيقة رددتها على مسامعي
وبقايا وعودٍ يا أبي، لم تفِ بها.
برحيلكَ
أطلقتَ سِربَ الآمال بعيداً عن يدي
وأصبحت مُدني الجميلة تضجُ بالفراغ والبكاء
تلك المدن التي لطالما حفرنا أخاديد الذكرى على شوارعها
قد كنا نسير بقلوبنا، وننسى أن نسير بأقدامنا
و حين يجيء الليل، كنت تقطف أنجمها الملونة
وتهدينها عقداً خرافياً لا يليق إلا بي وحدي.
تلقفتني بعدكَ أيادي الريح
فكت ضفائري
اقتلعت سواعدي
شردت أماني وعاثت بروحي فساداً ثم لفظتني
منهكة الحلم
خائرة الأمل
مبتورة السواعد.
لذتُ يا أبي بمكتبتكِ العتيقة
أقلب عشقك الأبدي بين كفيّ
تطالعني أوراقك الصغيرة التي أودعتها أورادك اليومية المختارة.
أتذكر يا أبي حين قلت لي:
صلاتكِ ووردكِ درعكِ الواقي
ركعتي الليل ودعائكِ منجاتكِ من الهموم
لكن يا أبي
استوطنني الهم إثر رحيلك، واستعمر الشيب مفارق روحي.
لم تعد الحياة بسيطة كما عرفتها يا أبي
المساجد تكتظ بالمصلين، منهم الصالحون ومنهم ما دون ذلك
ومنهم مبايعون بالغدر على الموت، تآكلت عقولهم حين استوطنها الفكر العقيم.
الموت يا أبي أصبح سلعة
والمرض سلعة
والبلاهة سلعة
المدن يا أبي تبدلت
ففي مدينتنا العتيقة لم يعد الربيع يأتي حاملاً الزهر
بل أصبح عاصفة ترابية ترشق العاشقين بالحجر.
الوجوه يا أبي تغيرت،
فلم يعد للواحد منا وجهه المعروف به
بل أصبح لكل مناسبة وجه، ولكل موقف وجه
وكأننا أمسينا نغير أوجهنا حتى نتعايش مع نفاقنا الاجتماعي
ونناسب ما فرضته علينا العولمة
الدمار سافرٌ وجهه العابس في وجوه الأطفال
يلوح لهم بالموت وهم ذاهبون للمدارس، ويهددهم في ساحات اللعب
حتى رغيف الخبز يا أبي
أعلن كبرياؤه عن التواجد في أيدي الجائعين
والأيادي البيضاء تلوثت ببعض الشح والخوف
الفقر يا أبي موجعٌ كالجوع
لم تعد السعادة تغنينا عن الخبز، ولم تعد البسمة تكفينا عن الماء
ولم أعد أنا هي أنا يا أبي
زهدتُ في الفرحِ وتضاءلتْ في عينيّ الحياة
فما أصغر الحياة حين لا نجد ما نتقاسمه سوى الجوع والمرض
وما أحقر الحياة حين نكتشف أننا لا نتساوى إلا في الموت
غريبٌ يا أبي أمر الطين
حين يدعي الطهر، لكنه يبقى طيناً
يعانق أقدام الدواب، ويمتص خبث البشر.