ضباب
أسمع في المذياع أن الأمر مؤقت, ولكنني لا أصدق. ولا أظن أن أي أحد سيصدقهم. ألم يقولوا من قبل أنها مجرد شبورة ؟ وأعلنوا مدى الرؤية الأفقية وتوقع انقشاعها. كل هذا قالوه في نشرة المساء. وفي الصباح لم أندهش حين وجدت الشبورة أمامي. ولكن ما أدهشني هو استمرارها. في العمل كنت أجلس في مكتبي، وأسمع من كل القادمين من الخارج أنها مستمرة، والمذياع يقول ستزول. وحين غادرت عملي مساءً كانت مستمرة. زوجتي حكت لي أن الشبورة تسببت في عشرات الحوادث. وأشارت لقناة إخبارية في التلفاز. كانت المحررة تقول أن الشبورة باستمرارها قد أوقعت الحكومة في مأزق. إذ تكشف غياب الأمن وخراب الطرق و عدم القدرة على إسعاف المصابين. و حين جلست لتناول طعامي رأيت مسؤول الداخلية في النشرة المحلية. كان يقول ووجهه مليء بالثقة أن تهور السائقين , وعدم التزامهم بتشغيل مصباح الشبورة تسببا فيما حدث. وفي نهاية النشرة بشروا بصباح مشرق.
في الصباح استقبلتني الشبورة .لم تكن مثل الأمس. كانت تغطي كل شيء. لم استطع أن أرى أبعد من الرصيف.وكان العالم صامتاً ، وكأن ليس فيه غير أنا و زوجتي. نظرت إلى زوجتي فلم أرها . سمعتها تقول:
– فلنعد. من العبث السير في الشارع اليوم.
أومأت برأسي موافقاً فقالت:
– لماذا لا ترد؟
انتبهت إلى أنها لم تكن لترى إيماءتي فقلت:
– نعم فلنعد.
اليوم أجازة في الدولة كلها، حتى المستشفيات وأقسام الشرطة. من كان نوباتجياً في عمله سيظل هناك حتى حين. هكذا أعلنوا في التلفاز. اندهشت فقط كيف ذهبت تلك المذيعة البضة إلى عملها.هل هناك مناطق لم يصبها الضباب؟ حسنا مادام اليوم أجازة فلنستمتع بها. طبخت زوجتي بمزاج رائق، أكلنا وضحكنا. في المساء وأنا أضاجعها قالت:
– هل تظن أن غداً سيكون مشرقاً؟
قبلت رقبتها وقلت:
– لا يهم. لدينا الطعام والشراب . وسيكون لدينا أجازة أيضاً.
ثم ضحكت وقلت:
– وسيكون لدينا وقت لنكرر هذا.
ضحكت في ضعف. وكنت أنا أيضاً أنسحب إلى عالم الأحلام.
أنا الآن ميت. أو أحلم بأنني ميت. أنام في مكان لا أعلمه. لا أرى أمامي. ليس الظلام، ولكنه العدم. لا أرى ، ولا أفكر في شيء. ولكن لا. لماذا يؤلمني ظهري؟ ولماذا أريد الهرش في أذني؟ هي عاداتي حين أصحو، بتلقائية وجدت يدي تتحرك لتهرش أذني. قبل أن افهم فوجئت بمن يقول:
– هل أنت هنا؟
كان صوت زوجتي ، لكنني لا أفهم.
– من؟.
– من ماذا؟ لقد ظننت أنني ميتة حتى بدأت أنت تتحرك بجواري.
– إذن نحن لسنا أمواتاً؟
وجدت يداً تلمس يدي ، وهي تقول:
– لو كنا أمواتاً فكيف نتلامس؟
– وكيف لا نرى بعضنا البعض؟.
– ربما........
انتظرت أن تكمل، ولكن عقلي كان بدأ يستوعب. لا حاجة لتكمل. إنه..
– الضباب؟
– معقول؟
قمت بتحريك يدي. أخذت أقترب بها من رأسي.فقط قبل أن تلمس وجهي بلحظة رأيت شبحها. أدركت أنه الضباب. فكرت في الأخبار، في شعور الناس. إنه الموت بصورة أو بأخرى. نحن لا نرى ولا نعلم.
– أليس المذياع بجانبك؟
كيف يتحدثون إلينا؟ كيف يصدرون تلك القرارات؟.
– أعلنت في البلاد حالة الطوارئ القصوى. وتم نشر قوات الأمن والدفاع المدني في كل المدن والقرى والنجوع. وقد قامت الدول الصديقة بتقديم مساعدات مادية ومعنوية لمواجهة المشكلة. ونهيب بالسادة المواطنين التطوع للخدمة إلى جانب قوات الدفاع المدني لمواجة الأزمة.
– كيف نتطوع ونحن لا نرى؟.
– بشرى سارة للسادة المواطنين. ستقوم وزارة الداخلية بالتعاون مع المنظمات الدولية بتوزيع كشاف ضباب على كل منزل في البلاد. لن يتطلب منك الأمر عزيزي المستمع سوى الوصول إلى باب بيتك لفتحه وتلقي الكشاف.و لكن رجاء عدم استخدام الكشاف للخروج من المنزل . سيتم توزيع بعض المعونات من أطعمة وأدوية للتعويض عن الخروج. مارس حياتك الطبيعية في منزلك واطمئن أننا ساهرون على راحتك.
نجلس لننتظر الكشاف والطعام. بدأت في القيام ، مستعينا بالذاكرة لأحدد مكان باب الغرفة والحيطان والأثاث. وصلت لباب الشقة. استدرت لأدخل المطبخ. وصلت إلى الثلاجة، فتحتها وبدأت أتحسس ما بداخلها. أمسكت بشيء فاستدرت لأسأل زوجتي عما تريده للأكل. ما أن أدرت رأسي حتى صرخت. لمحت شيئاً ما خلفي. و عندما استدرت اختفى. أتى صوت زوجتي:
– ماذا حدث؟
– لا شيء.
استدرت إلى الثلاجة ، وأنا أتحرك لمحته مرة أخرى ثم اختفى. أول ما ظننت هو خلل في عقلي. فكيف وأنا لا أرى كف يدي أشاهد شيئاً آخر؟ ولكن الفضول دفعني لنظرة مفاجئة دون استداره. رأيته، وظل كما هو. لم يكن شخصاً، ولا عدة أشخاص. الأمر أشبه بمدينة كاملة.مدينة خربة، كل من فيها ثابت لا يتحرك. كل من فيها أعرفه. أبي، أمي، الأخوة والأصدقاء في مراحل زمنية سابقة. هناك من أشعر بمعرفته ولكنني غير متأكد. استدرت لأواجه الأمر فاختفوا كلهم. لم يختفوا ولكنهم تحركوا مع جسدي. نظرت خلفي فظهروا مرة أخرى.مازالوا ثابتين حتى قمت بالتركيز على فتاة وسطهم. حينها فقط تحركت الفتاة. وتحرك معها فتى في مثل سنها. اقترب منها وأخذ يهمس لها.وفجأة ر فعت يدها وهوت على وجهه بصفعة. ابتعد عنها وعاد كلا منهما للثبات. أفقت من تلك الذكرى على طرقات، تحسست وجهي الذي صُفع في الماضي ، وصوت زوجتي باكياً يستحثني لأفتح. تحسست طريقي لإلى الباب مرة أخرى. لمست يدي يد أخرى وأتاني صوت يقول:
– كشاف وطعام ودواء.
تحسست الكيس الذي تم وضعه في يدي. بحثت فيه حتى وجدت جسماً صلباً. بعد معاناة قليلة معه انطلق منه ضوء بدد ما أمامي من ضباب حتى استطعت أن أرى طريقي وأنا ذاهب إلى زوجتي. وجدتها تبكي. سألتها فأجابت:
– أبداً تذكرت وفاة ابن خالتي.
اندهشت وسألتها:
– متى حدث هذا؟
قالت:
– منذ عشرين عاماً.
أصبح لي عالمي الخاص الآن. بالساعات أجلس لأشاهد تاريخ حياتي يمر. بلا سبب أجد جزءاً من حياتي يبدأ في الحركة ثم يتوقف بلا سبب أيضاً. كنت في البداية سعيداً. بعد فترة أدركت أن معظم هذه التواريخ حزينة. حتى أدركت سبب إحساسي بأن تلك المدينة كانت خربة.هو حطام سنين عمري. رغم ذلك لم أتوقف عن النظر خلفي متحدياً ألم رقبتي. تركت الكشاف لزوجتي. بل تركت زوجتي ولم أعد أشاركها الطعام ولا الحديث إلا قليلاً. هي اشتكت بأن الضباب يجلب لها ذكريات حزينة وطلبت مني الكشاف. ومن حين لآخر تقطع علي ذكرياتي لتدعوني لطعام الحكومة كما تدعوه. أو تتحدث عن سوء الأطعمة التي جلبوها. أو عن أنهم لم يأتوا مرة أخرى. وأن الضباب جاثم على صدورنا رغم تأكيدهم في الإذاعة بأنه انتهى. بل وصل الأمر إلى السخرية ممن يتحدثون عن الضباب. كل هذا وأنا نصف مهتم أو غير مهتم بالمرة. حتى أتى يوم فإذا بها تقول:
– أستودعك الله.
اندهشت لأول مرة منذ فترة. نظرت في الضباب من حيث يأتي صوتها فقالت:
– سأخرج.
– إلى أين؟
– لم أعد أطيق. يقولون الضباب ذهب والجو مشرق . سأذهب لأرى.
تساءلت وكأنني أحدث نفسي:
– ولكن الضباب موجود.
لم ترد. خيل إلي أنها ذهبت. هممت أن أعود لذكرياتي ولكنها قالت فجأة :
– سآخذ الكشاف معي. تستطيع التصرف بدونه.
لم أسمع صوت زوجتي بعدها. ولا صوت المذياع. لم يطرق بابي أحد، ولا يهمني طعامي الحامض ولا الماء الذي تغير طعمه. أنا غارق في أبطال الماضي و لم أعد أنظر أمامي. حتى لو كان الضباب انتهى لا يهم. الشيء الوحيد الذي استجد على ذلك أن زوجتي عادت، صامتة ثابتة خلفي. تنتظر دورها لتثير في ذكرى ما.