شعرية بحر الرجز
تأطير عام للموضوع
يُعتبر بحر الرجز أحدَ بحور الشعر العربي آحادي التفعيلة مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ /2/ ويُستخدم مشطوراً وتاماً ومجزوءً ومنهوكاً، وإذا انطلقنا من أن كبار الشعراء في العصور الذهبية للشعر العربي قد دبجوا القصائد الطوال الحسان في بحر الرجز وسيلة للحديث في أهم الأغراض الشعرية غزلا ونسيبا ومدحا ورثاء وفخرا واعتبارا؛ علمنا أن تاريخ بحر الرجز يسعفه كثيرا للنهوض بمهمة القالب الشعر على غرار باقي البحور وأنه لا فرق بنيويا ذاتيا يمنعه من ذلك إلا الاستهجان التواضعي لارتباطه بتعليم العلوم وتقريبها للمتلقين؛ حيث بات قريبا من العلم المقابل للفن، وللعقل المقابل للخيال، وللغاية المقابلة للوسيلة، وللمباشرة المقابلة للتهويم، وإلا فإن امرأ القيس وهو من هو يقول من بحر الرجز:
تالله لا يذهب شيخي باطلا
حتى أبير مالكا وكاهلا
القاتلين الملك الحلاحلا
خير معد حسبا ونائلا
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا
نحن جلبنا القرح القوافلا
يحملننا والأسل النواهلا
مستفرمات بالحصى جوافلا
تستنفر الأواخر الأوائلا
وهذا عنترة بن شداد العبسي يقول:
قلت من القوم فقالوا سفرة
والقوم كعب يبتغون المنكره
قلت لكعب والقنا مشتجره
تعلمي يا كعب وامشي مبصره
ثم اذهبي مني وكوني حذره
إذا تقرر لدينا أن الرجز هو بكل بساطة بحر من البحور الخليلية الجاهزة بطبعها لاستضافة أي غرض أو لون من الشعر بمواصفات التخييل والتجنيح والومضة؛ إذ قد كان ذلك بالفعل في زمن العرب الأقحاح من أكلة الشيح والقيصوم كما رأينا، فإن استخدامه في هذا الفضاء المعروف ببلاد شنقيط قديما وموريتانيا حديثا لم يسئ إلى تلك الخاصية الجمالية الكامنة في الرجز، بل ظل الرونق الشعري باديا في أنظام أهل هذه البلاد عامة من أمثال النابغة الغلاوي الذي رثى شيخه أحمد بن محمد العاقل برجزية غاية في حسن السبك وتعالق الألفاظ مع المعاني، وتناسبهما مع المقام، مظهرا فيها نمطا جديدا من القول بتضمين بعض أشطار ألفية ابن مالك وصَرَفَها عن ظاهرها الذي وضعت له أصلا للدلالة مجازا على معاني في الرثاء وتلك هي مهمة الشاعر الأولى يقول النابغة:
يا أسف الدين وكل عاقل
على وفاة شيخنا ابن العاقل
يا أسف المنطق والكلام
كم بهما أصبح من كلام
لموته قد ريع ألف روع
على أصول الفقه والفروع
من ذا الذي من بعده يقول من
"يصل إلينا يستعن بنا يعن"
من ذا الذي يعرف سر الحرف
فذاك ذو تصرف في العرف
فقد أبدع فيها أيَما إبداع حتى عدها مؤرخ موريتانيا الأول المختار بن حامد فنا جديدا في الشعر العربي وإبداعا فيه يقول ابن حامد:
الحمد لله وبعد فالــتـابغة زاد للقريض فنا
إذ ضمن الأعجاز من ألفيه
مقاصد النحو بها محويه
وقل مثل ذلك عن أنظام الشيخ محمد الحسن ابن أحمدُ الخديم في السيرة والفقه وغيرها؛ فإن تصويرها وتمثيلها شعري بامتياز؛ رغم كونها تخدم التعليم والتقريب في مجالها المعرفي، أما حين يكون موضوع النظم الكتابَ المعجزَ في أسلوبه ونظمه – على رأي الجرجاني – فإنه لا شيء يعيقه عن بلوغ أعلى مراتب التخييل والتصوير، والبعد عن الإخبار والتقرير، خاصة عندما يكون صاحب النظم ذا باع طويل وقدم راسخة في تقصيد القصائد وتدبيجها وترقيشها.
الشعرية: هي في أكثر تعريفاتها بساطة "ما به يكون الشعر شعرا " (مقومات الشعر)
لكن هل نستنطق نص "مراقي الأواه" بالآليات البلاغية وهي مبثوثة كما سنرى؛ وعندها نكون رفدنا الشعرية كنظرية حديثة في النقد بآليات لم تكن في حسبان روادها الأُول، أم نلتزم بالمقولات الأسلوبية التي تناغمت مع الشعرية كالانزياح، والتوازي التركيبي، والتكرار، والموسيقى الداخلية والخارجية، وهي أمور لا يحتاج طالبها لعناء كي يظفر بمبتغاه في مراقي الأواه، وسوف نستعرض هنا - للتمثيل لا للحصر - أمثلة تؤكد ما ذهبنا إليه وتضيء جوانب من العلاقة الشائكة بين العلم والفن، والعقل والخيال، والغاية والوسيلة على النحو التالي:
شعرية العنوان: (مراقي الأواه إلى تدبر كتاب الله) استعارة عميقة تختزل رؤية الناص الأَول لما يهدف إليه من نصه وهو الوصول إلى أعلى مراتب قراءة النص وهي الانفعال به (التدبر) ليكون حالة تُعاش؛ إذ التدبر ليس القراءة فقط بل القراءة الواعية ذات الهدف البعيد وهو العروة الوثقى (القرآن) والتشبث بها للوصول "إلى" مصدرها المطلق (الله)؛ من هنا كان العنوان واضحا في رسم ما يدور في خلد الناص دون تلعثم أو تردد يكفي أن ننظر إلى الرسم البياني التالي الذي يُوضح أن الكلمة الأولى فيه (مراقي) قاعدة هرم يُتوِجه لفظ الجلالة، مع تحويل حرف الجر إلى سهم يسري معناه الحقيقي في مفاصل الجملة على هذا الشكل:
الله جل جلاله
كتاب
تدبر
(قراءة تأخذ حيزا زمنيا أطول من قراءة المكتوب/المحفوظ؛ لأنها تستحضر المعنى وتنفعل به)
الأواه
(القارئ الواعي القادر على تحويل الشحنات النفسية إلى طاقة إيجابية)
مراقي
(المرقى وسيلة الوصول إلى أعلى)
وبهذه الطريقة أيضا ندرك تَعلُق الاستعارة العميقة في العنوان بمجموعة من النصوص المؤسسة لعلاقة البشر في حجاجهم بعلاقة النص القرآني بالسماء وفي علاقة الرسول الكريم بها؛ حيث ربط الجاحدون للحق تصديقهم وإيمانهم برقي الرسول في السماء، والعودة بكتاب يُقرأ "....أو ترقى في السماء ولن نومن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه" وكأن هنالك علاقة في ثقافة العرب المراد إعجازها بالقران بين الترقي في السماء وبين قراءة الكتاب، تتأكد هذه النظرة حين يتعاضد نص آخر مع هذا عند الجزاء يوم الدين فقد جاء في الحديث الشريف أنه يؤتى بحملة كتاب الله وأهل القرآن فيقال اقرأ وارتق فيكون مقامه عند آخر آية يبلغها، ولا يُستبعد هنا أن تكون القراءة ليست على بابها في الأمر بل أن تكون موغلة في معنى الماضي أي "قد قرأت فارتق" ولذلك ما يدعمه من النص القرآني نفسه؛ حيث إن أول كلمة نزلت على الرسول الأمين كانت "اقرأ" ولم تكن على ظاهرها ولا على بابه إذ كانت خطابا للنبي الأمي.
كذلك فإن لفظة "الأواه" بصيغة فعَال الدالة على المبالغة، وهو العواد إلى ربه كما يشير إليه المعنى المعجمي لا يُعطي حقيقتها الدلالية إلا الرجوع إلى معنى المعنى الذي يستفيد من الشحنة النفسية المولدة لحالة التأوه في إصدار صوت يجمع التحسر على الماضي والطمع في الالتحاق بركب المستقبل، وليست لفظة التدبر أقلَ تلك الألفاظ شأنا دلاليا؛ حيث إن جذر الدال - والباء - والراء أصلا يدل على امتداد فعل ما في الوقت والزمن، فمنه التدبير بشقيه الاقتصادي (تدبير المنزل) والاجتماعي (تقسيط حرية العبد) ومنه "التدبر" القوية في لفظها إذ هي على وزن التًفعُل الدال على الجهد والقصد المحتاجين لزمن أكثر من زمن القراءة وحدها.
بقيت الإشارة إلى أن اختيار لفظ المراقي جمعا لمفردة "المرقى" أو المرقاة" كان واعيا؛ إذ لو لم يكن كذلك لاستخدم السلًم الذي استُخدم تاريخيا في مهمة استكشاف السماء وما وراءها "نفقا في الأرض أو سلما في السماء" أو الصرح كما كان فرعون ينوي عند الاستعانة بهامان للاطلاع إلى ما لا يؤمن به.
وإذا تجاوزنا العنوان إلى المتن وجدنا صاحب النظم شاعر ا مفلقا – وهي أقل صفاته - يتخذ من الرجز مطية لبلوغ مبتغاه الشعري من خلال مجموعة من الآليات البلاغية التي وجدت في الأصل لفهم النص القرآني مباشرة وها نحن اليوم نقلب الآية لنتوسل بها إلى إضاءة نص يتخذ من القرآن موضوعه
شعرية البديع من خلال الجناس:
ولا تدبُّرَ لكِالبهيمهْ
كيف السُّرَى في الليلةِ البهيمهْ؟!
شعرية الموسيقى: داخلية تبدو في الجرس والتناغم بين الفواصل، وخارجية في التفعيلات على نمط واحد.
شعرية المعجم: تتجلى في جزالة الألفاظ وبعدها عن التعقيد وعدم سقوطها في وحل الإسفاف، لدرجة أنه استطاع توظيف النص القرآني دون تغيير وإخضاعه للوزن والتقفية في بعض الأحيان وهو تمكن لا تخطئه العين في المراقي:
فقولُه – سبحانَه – "مثلهم
كمثل الذي" يريدُ حالهَمْ
ووصفَهم كصفةِ المستوقدِ
في الهمِّ والحيْرةِ والتبلُّدِ
ووحشةِ الظلامِ بعدَ النورِ
وعمَهٍ، وحرَجِ الصدور
شعرية التضمين حيث يسهل على الناص استخدام ثقافته اللغوية والعلمية الواسعة وتحويلها في نظمه إلى مؤكد وداعم لما يذهب إليه انظر إلى قوله في تفسير قول الله تعالى "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بكلمات فأتمهن":
والكلماتُ ما به اللهُ اختبرْ
خليلَه مما نهَى وما أمَرْ
فقام بالأمْرَيْنِ للعلاَّمِ
على الدوامِ أحسنَ القيامِ
وقيلَ أيضًا هيَ خمسٌ في الجسدْ
وخمسٌ ٱلرأسُ بها قدِ انفرَدْ:
"مضمضمةٌ، تَنَشُّقٌّ، مَعَ السِّواكْ
وفَرقُ رأسٍ، قصُّ شاربٍ كذاكْ"
والجسديَّاتُ: ٱلختاُن، قلْمُ
ظُفرٍ، ونَتفُ إبِطٍ، يَنضمُّ
لذاك الاستنجا، وحَلْقُ العانهْ
أعانَنا الله كما أعانَهْ
شعرية الإحالة: ونقصد بها الإشارة إلى بيت شعر ينير المعنى ويؤكده دون إدراجه في المتن نصا، بل يذكر الناص فقط ألفاظا منه لا يُحتمل معها عدم الاهتداء إلى النص المراد الرجوع إليه وذلك في مثل قوله:
وقْد أَتى (نأت) جوابًا لأحَدْ
طَرَفَيِ الشرطِ وزانَهُ؛ ورْد:
بنِا أَسِيئيِ عَزَّةٌ أو أَحْسِنيِ
إذْ ليسَ في الطباعِ لَوْمُ الْمُحسِ
وقد أحال في البيت الثاني إلى قول كثير عزة:
أِسيئي بنا أْو أْحسنيِ لا مَلومةٌ
لديْنا ولا مَقليِّةٌ إنّ تقلّتِ
شعرية التأويل: ونقصد بها عدم توقف الناص عند المعنى المعجمي للمفردات بل تراه يتجاوزه دائما إلى المعنى الثقافي، فلا يقنع بالمعنى الوضعي ولا حتى المعنى المجازي ذي التأويل القريب، بل يتجاوزهما إلى معنى المعنى أو الدلالة التأويلية، انظر مثلا إلى معالجته لمعنى الإدلاء وكيف أعاده إلى امتياح ماء البئر بالدلو وبأسلوب رائق سلس لا تكلف فيه ولا عنَتٍ يقول:
اعلمْ بأنَّ الأصلَ في الإِدلاءِ:
إرسالُكَ الدلوَ للِاِستقاءِ
فقيلَ للمُحتجِّ في الخِصامِ:
أدلَى بحُجَّةٍ إلى الحكُّامِ
شعرية المفرد: ونعني ما يُقابل المركب؛ حيث إن نص"مراقي الأواه" ليس معنيا– كما بدا لنا - بالتراكيب بل بالمفردات؛ وعليه فإن فيه من مكامن الحسن والرقة والجزالة وغيرها مما يوصف به المفرد الشيء الكثير، لكن شعرية النص أي نص تكمن في التراكيب والإسناد والإضافة لأنه بذلك تحصل المفارقة في تعالق التراكيب، والإسناد، والوصف؛ إما جريا على المألوف وذلك ديدن اللغة اليومية والعلمية الواصفة الكاشفة، أو خروجا على المألوف وإغرابا في الإسناد وإبعادا في الوصف وذلك مهيع الشعرية حيث تتراسل الحواس، وتتداخل الفنون الكتابية والإشارية فتنمحي الحدود بينها؛ وللتدليل على اقتصار الناص على المفرد تمكن العودة إلى النص فليس فيه اهتمام بالتراكيب ومعانيها المجمَلة، بل هو عمل معجمي بامتياز، ويكفي القارئَ للوقوف على ذلك أن يعلم أن المفردة المصرَفة عند معالجتهما تَرجع إلى المصدر أصل الكلام المفرد، ففي الحديث مثلا عن قوله تعالى "كان شره مستطيرا" يقول الناص (6910):
الاستطارة انتشار قد سما كالفجر يستطير في أفق السما
وكذا في معالجة قوله تعالى "ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالات صفر" يقول (6974):
القصر هو الخشب العظام
أو ماله من البنا تمام
والصفر هو السُود أو يراد
مصفرة يشوبها اسوداد
فالناظر في هذا ومثله يدرك أن النص ليس معنيا بالتراكيب، ولا بما من علوم الآلة يختص بالتراكيب من نحو التشبيه التمثيلي، والمقابلة، والتناظر التركيبي، ولو كان نص مراقي الأواه معنيا بالتراكيب لتضاعف حجمه ونفعه، ولكنه اقتصر على ما يُعرف في اصطلاحات أهل هذه البلاد ب"نكرة" أو فتحة النص، وهو أمر غير مستغرب مع اعتماد الناص على "الشعر" منبع الإيجاز؛ بدل النثر الذي هو محل الإطناب والتوسع.
وحتى لا نعمم فإن في نص المراقي معالجات – وإن كانت قليلة – لبعض التراكيب نذكر منها معالجة الناظم الشيخ أحمدُ بن احمذي رحمه الله لقوله تعالى "حتى يُعطوا الجزية عن يد" فقد أخذ الناص في تبيين الجار والمجرور (عن يد) والفرق بينه وبين تراكيب أخرى لم ترد في النص القرآني يقول (2255- 2257 ):
إعطاء قائم جِزاه باليد
وأنت جالس: عطاء عن يد
أو هو أن يدفعها نقدا بلا
نسيئة، ولا بها أن يُرسلا
وقيل عن قهر وعن غلبة
فسر "عن يد" بتين وبتي
وبعدُ فإن تلك الأسطر كانت مساهمة مني في ندوة علمية عقدت بجامعة العلوم الإسلامية بالعيون لقراءة عمل علمي جاد ومفيد في تخصصه ومجاله ألا وهو تحقيق وشرح نظم مراقي الأواه إلى تدبر كتاب الله للعلامة أحمدُ بن احمذي الحسني، بشرح وتحقيق الدكتور محمد أحمد بن محمد بن المنى (مبارك) فكان لي الشرف أن ارتبط اسمي بتلك الدوحة العلمية الوارفة في موضوع جليل هو قراءة وتدبر كتاب الله عز وجل.