الأحد ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم فدوى محمود العبود

شام فتاة الأحلام

قصة للأطفال

اسمي شام، في الأسبوعِ القادمِ سَأبلغُ الثانيةَ عشرةَ مِن عُمري.

يُمكنكم مناداتي، شام فتاةُ الأحلام؛ فأنا أتحدثُ عن أحلامي بدونِ توقُّف.

أخبرني والدي، أنّه اختارَ اسمي لأني ولدتُ، في العامِ الذي غادرنا فيهِ المدينةَ التي يُحبُها قلبهُ ويَحِنُّ إليها. هناكَ يوجدُ بيتنا الواسع، وحديقتنا الصغيرة، وداليةُ العنبِ التي لمْ أرها سوى في الصور، أو في حكاياتِ أمي وقصصِ الجدّة أم فوزي.

أم فوزي كانت معلمةً في شَبابِها، وهي الآن تعيشُ بِمُفردها، نُسميِّها (حلاّلة المشاكل)؛ فهي تملكُ عُكازاً مصنوعًا من خشب السنديان، تطرقُ بهِ نوافذَ الجيران وهي تلقي عليهم التحيّة. وحينَ يتخاصمُ زوجان، ننادي الجدة أم فوزي فينتهي الخلاف؛ بمجردِ سماعِ طرقاتِ عكّازها على الأرض.

ابنها فوزي مهاجر، لذا قررتْ أمي أن نكونَ عائلتها؛ نعتني بها ونُعدُّ الطعامَ لها، نؤمّنُ احتياجاتها؛ ونُسلِّي وحدتَها؛ وبالمقابل فهيَ تحكي لنا قِصصًا جميلةً وتجيبُ على أسئلتنا التي يَضيقُ بها والدانا المشغولان.

في كلِ يوم، وبعدَ العودةِ مِن مدرستي، وإنهاءِ واجباتي أقصدُ بيتها الصغير.

لا بدّ أني أخبرتكم عن حبّي لمدرستي وآنساتي، وتفوّقي في دروسي.

المدرسةُ بعيدةٌ عن سكننا، ما يُضطرُّنا لِعُبورِ ثلاثةِ أحياءٍ؛ سيراً على الأقدام، يرافقنا والدي الذي يتابعُ طريقهُ نحو ورشةٍ للبناءْ؛ بينما تبقى أمي في المنزل لترعى أخوتي الصغار والجدّة أم فوزي.

بالأمسْ، وصلتْ عائلةٌ جديدةٌ إلى المخيّم الذي نقيمُ فيه، كانت أسرةً صغيرةً مكوُّنة من الوالدين وأطفالِهما الثلاثة؛ (فبين وقتٍ وآخر تأتي عائلات جديدة، ويتحولُ يوم وصولها إلى عرسٍ حقيقيّ). يَهِبّ الجميعُ للمساعدة، وترى الأطفالَ يَحمِلونَ الأغطيةَ والوسائدَ ويركضون نحو خيمةِ العائلةِ الجديدة.

وصلتْ العائلةُ ظهراً، فأرسلت أم سعيد بطانيّة ووسادتين؛ أما أم يوسف فقد تبرعتْ بأدواتٍ للطبخ، البعضُ أرسلَ السكّر والأرّز والطَحين؛ بينما حملَ صاحبُ السوبر ماركت سلةً تحوي الزيتَ والخبزَ وبعضَ الفواكه

بحثتُ عن شيء في بيتنا، فلم أجد ما يمكن حمله؛ فوالدي يرهق نفسه في العمل ولا يوجد لدينا ما يفيضُ عن حاجتنا.

سألتُ أمي فقالت: العين بصيرة واليد قصيرة.

كنتُ أسير وأعضُ جديلتي (وهي عادتي حين أنزعجُ وأتوتر)، عندما رأتني الجدة أم فوزي و (التي لا تتركُ شاردةً ولا ورادةً)؛ أشارت بعكّازها،

(تعالي هنا)

أخبرتُها برغبتي في مساعدة العائلة الجديدة، ولكن لا أعرفُ كيف؟ كما أنني لا أجدُ وسيلةً لذلك.
وكعادتها (أم فوزي حلاّلة المشاكل) قالت وهي ترفعُ عَصاها، وتنقرُ بِرفقٍ على رأسي: كلُّ إنسانٍ لديه هدية أعطاها الله له، ربما لديكِ شيٌء يمكنكِ تقديمهُ.

 ولكن ماهو ياجدة؟

 عليك أن تعرفي بنفسكِ ياشام.

شعرتُ أنّ الجدّة أم فوزي صعّبت مُشكِلتي بَدل أن تَحلّها؛ وهي تكلمني بالألغاز فمادامت تعرف لماذا لا تخبرني!

أتت أمي بعد قليلٍ تحملُ الغداء، ساعدتها في تنظيفِ بيتِ الجدّة، ولم أتناول الطعام معهما.
عصراً وفي طريق العودة، كانت والدتي تسبقني بخطواتٍ، وفكرتُ كيف تستطيع حَملَ همِّنا وتحُّملِ أعباءِ المنزل! فهي تتعب للعنايةِ بنا وفي الوقت ذاته تعتني بوالدي وبأم فوزي.
سألتها عن سرِّ نَشاطِها فقالت: الحمدُ لله على الصحة والعافية.
وفكرت...... هكذا إذن (لديها الصحة والإصرار فما الذي أملكهُ أنا؟)

فالعائلةُ الجديدة لا تحتاج من يرعاها، فماهي الخدمةُ التي يمكنني تقديمها؟

صباحًا، استيقظتُ على صوتِ الجارةِ الجديدة، تتحدث لوالدتي عن الطفلينِ اللذين يجدان صعوبةً في دروسهما. وعن سخريةِ التلاميذ منهما؛ لأنّهما لا يعرفان القراءة.

وتابعت الجارة: هما لم يدخلا مدرسة قبلاً؛ بسبب كثرة الانتقال والظروف التي مررنا بها.

في الصباح التالي، ركضتُ إلى منزلِ الجدّة أم فوزي؛ كانتْ تجلسُ أمامَ غُرفَتها نَظرتْ نحوي وهي تُردد: خير خير

 وجدتها... وجدتها

 هاتِ ما عندكَ يا أرخميدس.

أخبرتُها أني وجدتُ الحًل، واتخذتُ قراري.

ابتسمتْ فظهرت تَجاعيدُ فَمِها كالغمّازات. صوّبت عُكّازها إلى رأسي ونقرته برِّقة قائلةً: الآن فهمتِ قصدي (بأن نعطي ممّا أعطانا الله (فلا يكلّف الله نفسًا إلاّ وسعَها)*

مالذي حدثَ بعدها؟

لن تصدقوا لو أخبرتكم، لكنني سأختصرُ عليكم الحكاية.

أخبرتُ الجيرانَ الجُدَد، باستعدادي لمساعدةِ الأطفال في دروسهم. لكن ما حدثَ بعد ذلك أسعدَ قلبي؛ فقد بدأت الدروس فوق مصطبة الدكان، زاد عدد التلاميذ فانتقلنا إلى البستانِ المجاور، اشتدّ البردُ فأهدانا جارنا خيمةً صغيرةً؛ لكي نبنيَ مدرستنا التي تسميّها أم فوزي (مدرسة السنافر)

أحضرَ كُلُ طفلٍ خشبةً أو كرسيًّا صغيراً. وذات يوم دخلَ والدُ الطفلين وفي يده سبورةً بيضاء.

في كلِّ يوم، وبعدَ العودةِ مِنَ المدرسةِ؛ يَجتَمعُ الأطفالُ لِتَعَلّم الأحرفِ والكلماتِ الجديدة، كما تزورنا الأمهاتُ بينَ وقتٍ وآخرْ، يَحمِلنَ لنا الماء والحلوى؛ أمَّا الجدّة أم فوزي فهي تَسبِقُنا إلى الصف، وتَجلسُ بانتظارنا مع كرسيّها الخاص. وهي تَنهَر التلاميذَ الذين يثيرون الفوضى فتَضرِب بعكازها الطاولة كما يفعلون في المحاكم. (تُشجِّعنا بكلماتها وتَروي لنا الحكايات.)

في الحقيقة، غمرني شعورٌ رائعٌ، وأنا أرى الصغار يقرؤون بطلاقة ويرددون جدولَ الضرب، كنّا سعداءَ جداً؛ ومع بداية كلِ درسٍ أكتبُ على السبورة الحكمة التي تعلمتها: (كلُّ إنسانٍ لديهِ هدية أعطاها الله له، ابحث تَجِدْها)
يَسألني الأطفالُ وهم يرفعون أيَدَيهم: آنسة ماهي الهدية التي عندي؟

فتأتيهِ نقراتُ العكازِ على رأسهِ (فَتّش هُنا). يَحكّ الصغار رؤوسهم ويغرقون في الضحك.

الخالة أم فوزي، عندها حكاياتٍ كثيرة، ومنها قِصّةُ الشجرة المغرورة.

(كان يا ما كان، كانت هناك شجرة باسقة وجميلة جداً، وحين أتتْ الريح؛ لِتلعبَ بين أغصانها، قالتِ الشجرة: أيتها الريح اغرُبي عن أغصاني الجميلة حتى لا تكسريها. حزنتْ الريحُ وتابعت طريقها.

وحين بزغت الشمس، قالت الشجرة: أيتها الشمس ابتعدي من سمائي حتى لا تجفّ أوراقي وتتساقط ثماري؛ فتوارتْ الشمسُ خلفَ سحابةٍ سوداء ولم تظهر في تلك الأنحاء ثانيةً.

وحينَ انسكبَ المطرُ، قالت الشجرة: أيُّها المطر، لقد بللتني من أعطاك الحق بذلك؟ ابتعد عني أريدُ العيشَ لوحدي؛ وهذا ما حصلْ

(فعل المطر ما طُلِبَ منه).

يومًا إثرَ يوم، بدأت الشجرة تشعرُ بالوحدة، جفّت أوراقُها، وتساقطتْ أغصانُها، ثمَّ تآكلت جذورها.

ابتعدت عنها العصافير، وقال أطفالٌ عابِرون: يالها من شجرةٍ عجفاءَ هزيلة لا ظِلّ لها. (وهكذا حزنتْ الشجرة وشعَرتْ بِغَلطتِها)

نظرت الخالة أم فوزي نحوَ الأطفال وقالتْ: ونحنُ لا نستغني عن بَعضِنا البعضْ، ثمَّ التفتت إليَّ: وأنت يا شام كالشمسِ لهؤلاءِ الأطفال.

شعرتُ بفخرٍ كبيرٍ، ولاحظتْ ذلك فقالت: شرط أن لا تكوني مغرورة، فمساعدةُ الآخرين واجبٌ لا تُهمليه

نسيتُ أن أُخبِرَكُم، أنّ الصغارَ أهدوني في عيدِ المعلِّم زهوراً برية رائعًة، ومعها لوح شوكولاتة وكعكة أعدتها إحدى الأمّهات.

وأنا بدوري، أهديتُ معلمتي باقةَ وردٍ، فقالت وهي تقبِّل جبيني: هذا أجمل عيد معلّم في حياتي، أردتُ إخبارها أنيّ أيضًا معلّمة؛ لكني فكرت ربّما مِنَ الأفضلِ أن أدعوَها يومًا لترى تلاميذي الصغار، وهم يرددون برفقةِ الجدّة أم فوزي القصائدَ الجميلة وجدولَ الضرب ويقرؤون دونَ تلعثم.

ربّما أدعوكم لزيارةِ صفِّ السنافرِ الصغيرةِ ذاتَ يوم، فهل تقبلونَ دعوتي؟

* سورة البقرة:286

انتهت

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى