سَرَاب
.. المكان معتم ؛ منطلق الحدود .. في ظلمة و سكون . ربما كالكون قبل أن يكون إنسان !.. كون ناءِ ضائع على هامش الزمن . ينتظر ببلادة وخمول ، آدميا ؛ يثير البلبلة ، ويزرع الفوضى ، و يخدش الصمت .. في فضاء المكان الحالم ...
.. انفض الجفنان ! .. بانت مقلتاه ؛ على اتساعهما ؛ رقراقتان ؛ تنداح على مائيهما أشعة شمس غاربة .. بدا ساكناً هاجعاً ، كشائخ شلّ ، لولا بريق من عينيه اللألاءتين ، وإالتواء في حاجبيه الكثّين ، يشي بوضوح ؛ إلى انزعاج وتفكر .. و أرق .
حملق في السقف ؛ يتأمل مأخوذا ، بنظرة تنضح لهفة و حسرة و شجن ؛ طيفا شاب وفتاة ؛ يتراقصان ، على تموجات ضياء خافت ، قادم عبر النافذة .. وفجأة ! انحرفت نظراته .. ثم ترددت ابتسامة على شفتيه .. بدا يخمن أمراً .. أو يصور مشهدا – غير بريء .. يغبطه .. ويثير حياءه ؛ إنما هو فقط كان حدساً ؛ جعله يطاول عنقه ، ويرفع بمرفقيه جسمه ، ليختلس في عبثية طفلية مرحة ، نظرة إلى الخارج ، عبر النافذة . ولكن ! انقلبت سيماء وجهه للحال ، فاتسعت عيناه في جحوظ ، وارتخى فكه السفلي ، وتسمر دهشاً وهو يجد أن : لا أحد !.. لينخطف ملنقتا ، محدقا في السقف مرة أخرى .. باحثا عنهما .. دون آثر .. ثم ليسرع بإنارة المكان ، عبر زر المصابيح بجانبه . فيجوس بنظرات قلقة لاهفة ، وحركات متشنجة ؛ سقف الغرفة .. زواياها .. حيطانها .. أرضيتها .. وتحت سريره أيضا .. حتى سلّم في ارتياب وحيرة .(( لا أحد !.. لا أحد .. إذن .. أين كانوا يتمايلون؟!! ))
.. نهض من فراشه ، مترنحا . متثاقلا ، هائما على وجهه ، كتائه في صحراء ، سرمدية الأمداء .. مقفرة ؛ يبحث عن شيء – شيء مجهول يغريه بالمضي ، رغم تهالك قواه و خواء أفقه ... بدا بشعره المتلبد الشعث الطويل – بدا بهيئة منتشل ، من تحت أنقاض وترب وهياكل ...
.. خطا نحو طاولة صغيرة ، اقتعد خلفها ثم استل قلما ، من بين أوراق كثيرة ، متراكمة ، في كل مطرح ، بلا رتابة . بدا قلما قديما ؛ من مؤخرته المهشمة ، وحبره النافذ – إلا قليلا . رفعه إليه ، تأمله ، ثم أغمض عينيه بهدوء ، أخذ نفساً طويلا .. ثم كتب ، وهو يهمهم بصوت بائس جريح : (( .. عدت إلى الحقل أبي .. حقلي !.. و لكنتُ سقيته من دمي .. لولا خشيت عليه من الثمل !.. فلا تبتئس أبي !.. إن ولدك يعود إلى الزراعة .. كسكان العراء والكهوف والأشجار .. ككل البدأة .. )) فتح عينيه ، تملّى القلم بنظرة عطوف ، قلِق العينين رقراقهما ، وهو يسرّ له بهمس حذر ويضمه بقبضة مكهربة ، كما تضم والدة وليدها العليل ، بلون باهت : (( نشفت أيها العزيز ؟!.. لا تطلب !.. إليك دمي بغير أن تطلب !.. إنني .. أقاسمك دمي كما تستحق الأخوّة !))
انحنى القلم بيده مقبلا رأس الورقة .. لكنه لمّا تنطبع له قبلة ! كان يابس الثغر ، منكمش الحبر من أثر برد أصابه . فأسبل جفنيه بغير أن يختفي ؛ البياض اللامع أسفل المقلتين ، ثم أخذ يلطم جبهته براحة يده ؛ مرة .. وأخرى .. و أخرى .. كما أب أمام ابنه الهامد الأزرق ، يقبض عليه بشده ، يهزه ، يعنّفه .. حتى تحرك الدّم .. وخطا القلم ! (( .. أصبح شدوك نعيبا أيها الطير .. لقد أصبحت أسمع ! )) كتب . تنفس الصعداء . طالع بعينين غروبيتين ما سطر ، ثم انسبل جفناه و احتجب ناظراه ، منغمران في عتمه مسائية ..
.. انجذب فجأة ناحية النافذة ! واجسٌ ما استلب منه انتباهه ! .. (( هي ؟؟ هي .. !! )) نبر عاجلا ، إذ خيّل له أن طيفا ما قد انخطف عن نافذته ، قبل أن يلمحه ! فأسرع باتجاه النافذة فض مصراعيها . و أطل برأسه عبرها . ثم جال بنظره في أرجاء السماء . قبل أن يعلن لنفسه (( .. طارت .. ! نعم طارت .. يمكنها دوما أن تطير . !! )) ارتفع المدّ مجاوزاً شطآن عينيه ، وانهدّ رأسه ، بفم فاغر وعينين هجيعتين ؛ يندُّ عنهما دمع شقيف لألاء (( آاااه ..)) من مكان لا يدريه انتبثها ، وقد تغضنت جبهته .. (( .. لقد أحببت طيرا .. كان يجب أن أخمن !! ))
.. سمع نقراً ممطوطاً على بابه ، بعد حين . فوجف قلبه ، وجحظت عيناه ، و ثبت ذراعيه على مسندي كرسيه وأخذ يدفع بهما جزعة إلى الوراء ؛ متوجساً شراً أكيدا ، يربض خلف بابه . و طفقت أنفاسه تتلجلج متسارعة ؛ على الإيقاع الهائل ، للرعد المتصاعد من مكان ما !.. ثم وهو يكاد ييأس من نجاته ، صحا ذهنه على خيار بدا له الأصلح ؛ إذ أوحى إليه أن يلقي بنفسه من النافذة ! فانسرّ بذلك و اغتبط ! سوى أنه عاد و اكتشف : (( ساقاي !!.. )) .. وجدهما مشلولتان ، ليتعاظم ارتعابه ، وتتكور روحه بداخله ، ويضيق صدره بقلبه المتضخم ، المشرف على انفلات وتشظِّ . ولتتوه أشياء صدره ؛ من أمنيات وحسرات وخواطر وذكريات ، وغيرها الكثير من أشياء أخرى مبهمة متفحّمة .. لتتوه بين شهيق وزفير متعاورين بتسارع متردد ..
.. فلا يزال على حاله هذه ، حتى ينتاهى إلى سمعه نقر جديد مشابه .. غير مدوزن الإيقاع .. (( إنه ناعم وحاد .. مثل نصل !)) ثم جعل يتهزهز على كرسيه المكهرب بينما أخذت تتشكل في وجهه ، تشنجات غريبة ، ما لبثت أن عمت سائر جسده ، قبل أن يجترأ متهدجاً من خلال مسارب أنفاسه الضيقة الزاحمة : (( اذهبي !.. إن أمي عائدة .. هي لم تمت !.. فقط ذهبت في رحلة مع أحدهم .. لأنها كانت تعلم ؛ أن أبنها .. لم يعد صغيراً !! ( ثم أخذ يشهق ويرتعش ويدمع فيما حزنه الراقد يطفو .. شيئاً فشيئاً .) فهيا اذهبي !.. إنها مثلك ( دعك وجهه تشنج مارق ) .. مثلك تماماً .. انثى!.. فلن تخشاك !! )) وفي لحظة نسي خوفه وغرق في حزنه القديم .. حتى انتسله النقر الناعم والحاد مرة آخرى .. فاستعاده من الوهم وألقى به في مواجهة الحقيقة ...
.. ثم مضت لحظات !.. لم يسمع خلالها نقراً !.. ربما غدا بعيداً في تلك الأعماق من دوّارات الخوف و التوهان .. ليسمع !.. أو ربما هو (الناقر ) كامن له في مكان ما .. وراء نافذته مثلا !.. التفت جهتها .. أو خلف بابه ربما ! التفت إليه أيضاً .. وترنحت شبكيته بينهما ؛ عينان خائفتان يستخف بهما الوهم و يلعب ، فيوقظهما ، ويمنعهما من النوم ؛ كعجوز لم يعد له سوى الإنتظار .. لجابي الأرواح ؛ آتياً من السقف ! النافذة ! الباب ! .. أو من الخلف ؛ فيضع سكينه على النحر ثم .. اختلجت ساقاه الشليلتان ، استجمع قواه ، وانتفض واقفاً لاهثاً .. وتقدم من الباب ؛ بشجاعة جبان حوصر في ملجأ ، فرفضت معدته الحصار !لطم المقبض بحركة خاطفة من يده .. وانكمش منهزماً إلى الخلف ! .. تهزهز الباب الحديدي الموصد باحكام .. إنما لم يفتح !.. استجمع شراذمه مجدداً ، أمسك المقبض مجترئأ كبطل . وفي لحظة ؛ كاد يجهش ببكاء طويل .. إنما لم يجد حضناً !!.. فتح الباب بقوة وعجلة صارّأ على عينيه بشدة !!(( .. ما حولُ امرأة .. لا ينظرها الرجّل .. ! ))
فكر في نفسه قبل أن يفتح عينيه للمواجهة التي لا بد منها – والتي كانت مفاجأة ؛ تبين له أنها قطة صغيرة مبللة تخمش الباب بمخالبها المدبّبة .. وهي تموء في توسل واستجداء ؛ محملقة فيه بعينيها الدائريتين .. انحنى إليها ليلتقطها ؛ فارداً يديه في إشفاق وتعاطف .. لكنها خذلته ؛ تراجعت عنه ثم أخذت ترمقه بنظرات اتهام وريبه .. أراد أن يكلمها .. أن يشرح لها .. أن يثبت لها براءته .. غير أنه لم يدر ما يفعل ! فهمس لها بداية ، ثم وشوش ، فصفر وفي النهاية فطن لشيء : نيو !.. نيو ! ( موّء لها وهو يقوم على أربع وقد ثنى ركبتيه محاكياً إياها .. سوى إنها استدارت ومضت ، كما لو أنها لم تقتنع ببراءته .. وهي تتلفت كل قليل رامقة إياه ؛ بنظرات الريبة ذاتها ، حتى لم يجد من نفسه سوى أن أخذ يزمجر عليها ، كَكلب حراسة شرس : هر .. ر .. ر .. هر .. ر .. ر .. لتنخطف مسرعة فيغيب
.أثرها في الظلام ، وهو لا يزال أخذاً في زمجرة متعالية ، مفرغاً فيها حنقه ؛ على كل تلك اللواتي غبن في الظلام ؛ و تركنه لأنوار و مرايا و فراغ صامت ضاغط ... حتى شعشع مصباح في الغرفة المقابلة ، وسط دار الإيجار تلك فتقهقر مسرعاً بالوضعية ذاتها ، و أغلق الباب خلفه ثم تكوم عنده مستنداً عليه بظهره وهو يلطمه بمؤخر رأسه لطمات متتالية ، مغمغماً في ألم و غضب .. (( ما أنا إذن .. ما أنا ؟! ))
بعد قليل كانت ستائر العينين ترفع ؛ فتظهر المقلتان راكدتان خاملتان بلا بريق أو لمعان ، يشي بشيء مفهوم .. كمستنقع مياه تكوّن من بعد سيل مارق . قام من مكانه ، عائداً إلى كرسيه ؛ استوى عليه ، أمسك القلم ، ثم توقف وهو يهمّ بغرز ريشة قلمه في رحم الورقة ؛ منحرف العينين ؛ مسمّرهما منصتاً !.. التفت خارجا عبر النافذة .. (( العالم ؟ !! .. أم .. )) وهو يلتقط بسمعه هدير رعد عميق .. تتلوه نوَّة جامحة ، صاعدت أشياء صدره ؛ قطعاً قديمة لسفن عديدة مكسّرة الأشرعة .. أخذ نفساً طويلا – لم يكف ليعيد السكينه إلى نفسه المهتاجة .. فبقي صدره يمور معتكراً هائماً مائجاً ، بينما هو آخذ في البحث بين العتاد القديم عمّا يصلح .. كصيّاد ! .. أو ككاتب .. !! .
.. ثم بدأ يستعيد أمام السفينة الأولى المحطمة ؛ ذكرياته المخبوءة فيها و يترجم مشاعره تجاهها وهو يصوّر في ذاكرته المواقف التي عثّرته و أنهكت سفنه ..
– قلت : جميلة !
– أنا ؟
– نعم أنت ! .. جميلة !
– رمشت برموشها وتوردت وتذابلت ؛ تريد أن تقطف !
– قلت : صغيرة !!
– قالت : وداعاً !
قلت : كبيرة .. كبيرة !! ( أخذ وجهه فجأة ملامح الغضب ) و ضرب بيده على الطاولة أمامه ) .. أو ربما كنت أنا صغيرا .. ( توقف بائساً كمداً ؛ ثم أضاف بعد لحظة مهمهاً بشرود )) .. وفي يوم وجدته : قاطف ! اسمه قاطف ذاك الذي أحبته !. فعمله كان قطف كل ثمرة مشتهاة . وأنا كنت حماراً بل لم أكن حماراً حتى !! و إلا لعلمت أن الورد أيضا يؤكل ! )) .. ضحك فترغرغت الدموع في عينيه وهو يشعر بالأسى يدغدغ خاصرته ، فيثيره لضحك طويل .. مرير .. (0 ستشعر بتحسن كبير ! )) اذدكر .. (( لأتابع إذن ! )) ..
.. وفي داخله تلك السفينة ، طالعته حجرة الخمر التي ما تزال مقفلة ، طالعته بأصوات لمّا تزل تتردد في رأسه :
– أريد أن أقول فيك شعراً !
– و ماذا أفعل به.. ؟!
– تحلقين !!! .. ألا تودّين التحليق كنسمة ؟!.. (( بل ككل الأشياء الخفيفة )) قاطع نفسه ثم تابع تذكره :
– الخمر يستطيع ذلك .. !!
التوى جزعه وراء الطاولة .. جانبا كشجرة ضئيلة الجذور .. على سفح انهدامي التّرب . فوكأ بذراعه المنتصبة رأسه المصاب ؛ رفع قلمه .. فتح فمه .. مدّ لسانه .. ثم مرر ريشة القلم على لسانه . أطبق فمه بعد ذلك ، وأخذ يحرك لسانه و يدور به على سقف حلقه ، كحجر رحى .. لينفجر فجأة بضحك مسموع الغرغرة ؛ إذ حضره خاطر ما ، ثم ضرب الطاولة بقيضة يده ، وهو يجمجم فيما يماثل فرح الإكتشاف .. و ألمه ! ( .. الناس لا تسكر بالحبر ! .. الناس تسكر بالخمر ! .. ها أنا الآن أعرف .. ))
*
.. بعدئذ أخذ يستكين شيئاً فشيئاً ، من نوبة ضحكه تلك . فيعود إلى حالة تداني الطبيعية ، حتى لقد كاد يبدو سويّا رضيّاً ؛ في جلسته ونظراته وحركاته ، فأخذ يمسح وجهه بكفيه ، ويدلّك بهما وجنتيه .. حتى لحظ من بين أصابعه ؛ تلك المرآة .. على الطاولة أمامه . تحاشاها بداية ثم أشاح بوجهه ناحية أخرى على الأثر . غير أن أشياء في رأسه . أشياء مقيته له .. ألحّت عليه بالعودة إليهما ..فاحتملها بأصابعه .. قربها من وجهه – كصورة طفل مفارق بيد أم لا تريد أن تفارق ! – ثم أخذ يرنو فيها إلى المتشخص بها ! .. كما عجوزٌ صور شبابه ويفاعته . ليندلع على لسانه سؤال مارق ، لم يملك من القناعات ما يطفئه : (( هذا أنا ؟ !! )) .. تلمس قسما ت وجهه ، باحثاً عن الجواب .. (( مثل كل الناس !! )) ترددت ابتسامة على شفتيه ، مالبثت أن استلبتها منه علائم تعجب ، نشرها فاتح من أسئلة .. جديد (( .. أوَ بهم مثلي أيضاً ؟!! .. إذن كيف يهجعون ؟ ! )) .. حضره من ذلكرته قول الطبيب (( الكتابة ! .. الكتابة! )) تناول القلم مجددا ، ضمّه بأصابعه ، اقترب بوجهه منه وهو يحدق فيه بإمعان ، حتى خاطبه بعنفوان قائد مهزوم ، يستنهض مرافقه الجريح : (( .. قم !.. لا تمِل ! .. أنت وعائي ! .. ريشتك لساني !.. وحبرك الأزرق .. دمي ! وأنا .. سيدك الذي .. يحتاج عبده ! قم ! .. لا تمل ! .. واسق وريقاتك البور من دمي ! .. علّها تدرك يوماً أن تخطيطها المنظّم وهم .. وإن كلماتي المبعثرة عليها .. هي الحقيقة ! )) انزلقت جبهته على راحة يده .. وسقط الرأس ...
*
.. كانت رقبته خائرة بلا حول أو قوة .. و رأسه مسجّى على الطاولة ، بتهالك و قنوط .. سوى أنه في غيبة ذهنه تلك ، توجس سوءاً ما محيطاً ! .. أفاق عينيه للحال واسترعى منه التنبه و الإلتفات ولكن دون أن يرَ شيئاً !
.. همس متسائلاً في ارتياب و تردد و هلع : (( القبر ! القبر ..!! )) .. فرد ذراعيه ، لوّح بهما ، ثم طوّحهما في الهواء .. لينبس هانئاً (( أنا لست ميتاً .. أستطيع أن أتحرك ! .. و .. وفي القبر لا يتحرك الأموات !.. هذا صحيح !.. ولكن في القبر أيضاً ظلمة وسكون .. كهذه !! )) .. انتابه الشعور المخيف مجدداً ، فتكوّر على نفسه ، وهو لا يجد من الفِكَر و الآمال ما يعوّل عليه .. إنما لم يطل ذلك ؛ حتى ابرقت السماء فعادت معها الكهرباء ، لينظر إلى نفسه ثم ليهتف بصوت عال مغتبط : (( أنا لم أزل حياً أرزق !.. أرزق ؟؟ )) يتعالى من صدره ضحك مجلجل ، ويدفع بذراعيه إلى الأعلى ، يشرعهما ؛ جندياً يحتفل للخلاص من الموت ! (( لم يزل فيّ بقيّة !!)) استطاع صوت قلبه أن يصل مسمعه : (( ربما لأحتمل المزيد !! ))
*
.. قبل أن يعاود الكتابة مجدداً ؛ طرح نفساً طويلاً بهدوء ، هامساً ببوح شجي ما يكتب ، كما لو كان مرثاته لنفسه ! (( وبعد ؟ .. ألم يكفكِ ما أخذت مني ؟! .. أنا الذي على مشارف عقدي الرابع ؛ من عمري الطويل - الطويل بلا آمل النهاية ! .. ولم أكبر و لم أنمو ! .. .. بل ما زلت ذلك الفتى الصغير الخجول الحالم .. الذي يبكي ، كلما ذكرك ، ويضحك كلما نسي نفسه ..؟؟!!
كل ليلة كنت أتأملك .. أمرر يدي على وجهك .. تتوه أصابعي في شلالات شعرك المنساب ؛ رقة و دفئاً و عذوبة .. و اقترب منك أكثر – حتى نكاد نتلاصق .. نتماهى ؛ فتلهبني أنفاسك ، واستعر كجمرة .. ثم أكاد أقبّلك ، فأصحو فجأة .. ويكبو حلمي ،لاعنا يقظتي ، محاولاً كل جهدي لنوم طويل ؛ حالم و سرمدي .. بلا واقع يحدّه ، أو يقظة تزعجه (( آاااااه.. لم يبق لي سوى الأمل ؛ بطعنة أخرى أكيدة ؟ ..! )) .. (( أكتب .. أكتب!! )) حضره مجددا قول الطبيب ، إذ راودته رغبة لجوج ؛ بالإنكفاء و إلقاء القلم .. عندما لم يتبين لنفسه التّعبة أفقاً مؤمّلاً .. (( لم تحبينني .. كنت أعلم .. بل كنت أخشى أن أعلم !! .. كنتِ فقط تريدين مؤنساً يؤنسك ، يدفع عنك وحشة الآنتظار وقلقه .. و أنا كنته ! .. لم تحبينني .. الأن أفهم ! .. كنت تنتظرين هناك ! .. على رصيف الحاجة . و ظننتك تتوسلين .. فأشفقت لحالك ورثيت .. ولكنك كنت فقط تنتظرين : سيارة فارهة ، تقودها شخصية فارغة ؛ محشوة جيداً ، تضع عقلها في حقيبة .. يحملها مرافق ! .. ثم يقودك إلى غرفة حمراء ؛ يمزّق ثيابك .. فلا تشعرين بعُريّ ! .. ويهصرك بذراعيه الغليظتين وكرشه الكبير .. فلا تمانعين ! .. و ينهشك ؛ فتأنّين .. فقط تأنّين ! .. حّرك رأسه حركة دائريّة ؛ منقبض الوجه ، متقطع الأنفاس ، مكشّراً باشمئزاز وقرف .. (( لقد انتهيتِ بين يديه .. مثل وجبة ! ))
غمغم بأسى وحنق ؛ وهو يشاهد المشهد الأخير .. من كابوس المخيلة ذاك .. ثم فتح عينيه .. همى القلم من بين أصابعه الهاصرة – لحظة غفلة منها ، ولمّا يزل المشهد عالقاً بمخيلته : (( .. إنه ينهشك الأن و كل حين .. كما ينهشني ؛ الآن وكل حين !! )) .. كان يناجي نفسه بهذي الفِكر ، فيتقطب وجهه لذلك و تتشنج قسمات وجهه وهو يمرر بخشونة ؛ أظافره الشّفراء على جلد رأسه .. (( يكفيني هذا .. يكفيني !.. إن حزني الآن لمستعر ..!! ))
. (( اكتب انت لا تؤدّ أن تغدو مستنقعاً !! )) . وافاه كلام الطبيب بالنصح اللازم وهو يفكر بالانسحاب والهروب . توقف القائد هناك نظر إلى أرض المعركة .. لم يميز وجوهاً !.. رأى دما فقط ! مختلطاً متمازجاً وبلون واحد !.. انتبر (( اللعنة على الحرب التي لا تفعل شيئاً سوى أن تجمع الأضاد في لحد واحد .. !! ))
.. رفع القلم وهو يقبض عليه كخنجر ، حرف وجهه جانباً باشمئزاز و قسوة .. ثم هوى بقلمه على الورقة ؛ لاعناً الحرب وشياطينها ؛ أولئك الذين يشعلون الدماء ، ويطفئون العقول ليقدموها قرابين بلا عدد لجحيم جشع .. إنما تراجع القلم ، وتيبست يداه ، راجفة مشدودة الأوتار – قبل أن يفعل .. إذ أن آلهة الحرب وشياطينها جميعاً ، كانوا يحملون وجهاً واحداً هو.. وجهها ! .. (( .. أ أنا مجرد كركوز ؟!)) سأل نفسه باحتقار و عصبية .. (( يمين ! )) اوعز ليده فنحت يميناً (( يساراً! )) فتياسرت (( فوق !)) ارتفعت (( تحت !)) بنبرة صارمة عاجلة ، انخطفت يده سريعا ً نحو الأسفل – سوى أنها لم تطعن ! .. (( إذن.. أنا كركوز !! ))
.. توقف حائراً ؛ تائهاً عن طريق العودة والتقدم ! .. سوى أنه قرر متابعة السير بلا التفاته إلى الوراء ؛ حين وجد أن الخلاص بعيد إلى الوراء ، بقدر ما ابتعد .. وأنه إلى الأمام ؛ ربما يكون على مبعدة خطوة واحدة ! . . (( إذن لأتابع )) أوحى لنفسه بذلك ثم انتقل إلى سفينة آخرى ؛ لولا ما يغشاها من غبار الهجر و الإهمال ، لكانت في تمام أبّهتها الملكية (( .. أين ملكتك أيتها الفلك ؟ ! .. تلك الملكة الساطعة المهيبة ! .. تلك المنحوته المرمرية !.. بلا نكهات ، أو توابل تلمّظ الشفاه ، وتثير الشهيّه . تلك الفتاة بأنف مشرئب ونظرة واثقة وشخصية عالية ، ذات أنفة و كبرياء ؟؟ .. كنتُ اطلالا ؛ يمرّ الجميع بقربي ، دون التفاته أو طرفة عين . قلت : هي ! .. نعم هي ! .. بها اكون ملكاً ؛ يلتفت الجميع إليّ بل و ينحني ! .. ويتوقف الشعراء عندي . فأنتقل من خيمة في الظلّ إلى عرش على طريق قوافل الحريروالجواهر و الأحجار الكريمة . ( كان قلم ينسلّ في عجلة و سلاسة ، دون تلكؤ ، حتى وصل تلك النقطة من رحلة الذاكرة : - أحببتها ! ( توقف . ألقى القلم ، أدخل سبابته في فيه .. ثم غمغم متسائلاً : أحببتها ؟؟!! ( رفع رأسه الكابي وحوّل وجهه ناحية النافذة . أخذ يتأمل في البعيد ، يبحث عن جواب – سوى أن الليل كان غائماً حالك الظلمة بلا نجم يدلّ على جواب . شعر بالخيبة من متاهة الأسئلة تلك ؛ فخرّ رأسه قانطاً ، ومال ليتهادى على كتفه الأيسر ،ثم أخذ يمسد شعره المنسدل على جهة رأسه الأخرى ، بأصابع يسراه ، في خفة وليونة ؛ فيبتسم ابتساماً رائقاً ناعساً ومنتشياً ، جعله يترسل في تلك الحركات اللطيفة المدغدغة ، حتى انزلقت أنامله الناعمة الملمس على خده ، وهو يكاد يغفو على ذلك ، منتشياً انتشاء ملك خاو البال بين جواريه الجميلات ..
غير أنه على حين غرة منه أخطأ التدليك . إذ مرر أصابعه بعكس اتجاه شعر ذقنه . فاستفاق منزعجاً كدراً ، يتململ مكانه زافراً بعصبية قبل أن يعاود الكتابة بمزاج سيء : لا ! .. لم أحبهّا ! .. ولن أحبها أبداً !! .. كانت متكبرة .. مغرورة و متعالية ... !( وضع ثلاث نقط متتالية شدّد القلم عليها وهو يصرّ على أسنانه .. ثم راجع ما كتب وهو يطالع صورتها وذكرياته معها .. حتى عاد يكتب إنما بمزاج أخر رائق .. (( كانت ملكة .. و أنثى طيبة .. إنما لم أملك أن أحبها .. )) توقف حائرا ! .. أراد ان يكتب بسرعة مااختلج في صدره من مشاعر وخواطر عديدة لحظة واحدة .. فلم يمتلك لغة لذلك ، ولم تسعفه القريحة لإيجادها .أخذ يتهزهز على كرسيه بطريقة منتظمة متوترة .. (( .. كنت نذلاً معهاً 0 هذا هو الشيء الوحيد المؤكد ! )) تنهد ثم تحولت ملامح وجهه إلى سيماء البؤس : (( بل لم أكن شيئاً !! .. فقط أنا لم أجد أني أحبها .. أو حتى أني قد أحبها لاحقاً .. عرفت ذلك عندما احبتني هي ! ومالت إلي بمحبة وشغف ، ثم أسبلت شعرها الحريري الطويل ، من نافذتها العالية ، في برجها العاجي .. سوى أنني حين تسلّقت شعرها الطويل إليها ودخلت حجرتها العائمة فوق الغيوم ، و أخذت أنظر إليها عن قرب وعلى مستوى أفقي .. كنت قد وصلت إلى مرامي .. وكان .. أن انتهى هيامي .. !!
*
ارتد إلى الخلف ، تهادى رأسه إلى الوراء ، وتهدلت ذراعاه . ثم غرق في غياهب ماضيه المعتكر . وهو أثناء ذلك يغمض عينيه بقسوة و يلقي برأسه من ميل لأخر من مكابدة أمر ما تسؤه عودته .. وفي لحظة فجائية انتفض مثل مقيد ، استطاع كسر قيده لتوه ، و كتب للحال . (( لم أكن أقصد .. هي الأخرى كانت تتحداني ببريق عينيها وبلمى شفتيها ودفء وجنتيها وأشياء و أشياء أخرى .. كانت تحدثني عن سّر ثم تطلب مني نسيانه فسّر آخر .. و آخر .. وآخر .. حتى غدوت متخماً بالشهية والفضول ؛ لكشف أسرارها و البوح لها بسرائري المستعرة المكبوتة .. أنا الآخر ! ( ترددت أنفاسه بسرعة ) فكان أن مزّقت استارها و اطلّعت على أسرارها و بثثتها أسراري .. فلم تعد لغزاً !.. أصبحت بلا سرّ .. مثل شيء !.. و أنا غدوت بلا فضول أو شهّية.. مثل شيء أيضاً ! رفع قبضتيه المعتصرتين ندماً و أسفاً . حيث انغمرتا في وجهه ؛ راجفتين .. كما أطفال مذنبون .. ))
*
.. وعندما خرج من هوة ندمه وحسرته ، فتح عينيه ؛ فكان القلم بانتظاره . نظره بكثير من الخوف والقلق و الرهبة !(( من زمن بعيد .. كان يجب أن ألقي بك خارج حدودي !! )) ناجى نفسه حانقا على القلم ؛ كيف لا يهدأ روعه ، كيف لا يفتر حبره – كيف لا يداجيه .. لا يحابيه ؛ لا يكتب بألوان زاهية ؟ .. ويصّر على ازرقه الباهت ؟؟ .. بقى لحظات متحاشياً احتضان القلم . فتردد قول الطبيب في رأسه : (( لا تهرب من نفسك إلى العالم .. أنت العالم !! )) .. أخذ نفساً طويلاً ، ملأ به صدره ، قبل المواجهة الحاسمة . تناول القلم بتلكؤ ؛ شعر برعشة تسري في جسده ، تلجلجت أنفاسه و اضطراب ايقاع نبضه .. ثم أخذ يكتب و يهمس بأنفاس لاهثة ما يسطر: مي ! ( ترقرقت عيناه حالاً ) مي .. ! يا ااا ه .. يا للكلمة اللاهبة . كم لا يزال لساني عطشا اليك كل حين .. مي ! شقيقة الروح .. إن اسمك لينساب كدفقة ماء على وتر حزين .. يطرب ! . ثم صورتك أيتها الخلابة ! لتوقظي في هداة ليلي من عمق نومي ؛ باحثا عن صباح وشمس متلألئة ونور !!.. وشدوك ! عصفورتي الرحول ارّقني .. وانا أقطع المفاوز والجبال والبحار . بحثا عنك ! حتى وجدته - صوتك - في صدري !! فقلت لنفسي : لقد نمت حسرتي ! فاليوم تشدو . وغدا تحبو .. ثم بي ستسير في مديد عمري المصحر الباقي ..حيث لاامل ينمو ولا ظل يفيء. . بحثا عن الواحة التي لم اوقن بها ماء محقّقا .. حتى جاوزتها وذهبت بعيدا ؛ بعطشي الأبدي وروحي الجدباء .. فلما عدت اليها ؛ لم أجد سوى بقايا ماء شريف فاضلة فحسب ! ولكن لا تقلقي سأتابع بحثي عنك.. ولو تناثرت دقات عمري على الدروب .. ولو احرقني اللّظى فرمّدني . فربما إذن سأطير مع النسائم إليكِ .. أيتها الواحة !.. فا نغمر في مياهك المقدسة .. وحينئذ لن افقد الأيمان بالأساطير !!. رغم ما يطرحه ذلك الطبيب الثقيل - مثل شيء من الأشياء طالبا بان انكر وجودك ؛ مدّعيا انك ابنة مخيّلة شريدة (يتلفت حواليه ) .. ولكن تعلمين , وأنا كذلك ؛ انك لابدّ تحوّمين في مكاني هذا .. ثم إني بقلبي أراك و أسمعك وأتحسس وجودك !. فلا تبتئسي عزيزتي .. إذ غيري لا يجدك !! فقد كنت مثلهم يوماً ؛ شاكاً جاحداً باجتماع الجمال و الحنان والذكاء في كيان واحد !! .. ولكن ليس لعماوتي .. تعلمين !.. بل لأني فقط كنت فناناً لأرفض ؛ أن تكوني شيئاً كالأشياء ! .. ( ارتعش ثم بعد مكابدة زفر مكبوت صدره دمعاً و آهات محرورة مديدة .. ) وهكذا لم أسر إليك ولم أتسلق ولم أقل فيك شعراً ولا نثراً !! بل تهاملت عنك و جانبتك بنظراتي .. حتى تثبت أنكّ الماء الزلال ؛ بحقيقة بقائك ماءً تحت ضياء الشمس و القمر.. فلما عدت إليك .. لم أجدك ! .. أحد غيري ارتواك .. وترك لي بقية حسرة وندامة .. لن يكفني العمر – مضاعفاً زاداً لها ..
*
(( .. ها قد امتثلت لنصحك أيها الطبيب ! .. فكتبت .. وواجهت نفسي و قاومتها كما طلبت .. غير أني لا أجزم بأني نجحت .. ولا يهُّمني حتى ! .. إنني الآن تعِب ، يغلبني الوسن وهكذا كل ما يهُّمني .. ويسعدني ! )) غمغم وهو ينطمر في فراشه . وحين آخذ البرق يومض بتتالٍ .. كانت رموشه المتعانقة بقسوة ترتعش ، ووجهه المكدود يقطّب في استياء .. وشفاهه تبرز متمتمة في بحّة وتهدّج :
(( ليست هي ! أعلم ! .. وكم كنت أخشى .. أن أعلم !! ))
*