سهامُ كيوبيد
السّهم الأوّل
تونس، 2020
نهضت من النّوم باكرا لأبصِر انبلاج الشّمس وهي تُزيح الدّيجور. مشهد رائق يهبني فرحا صباحيّا مشوبا بالأمل. لطالما اعتبرت الصّباح احتفالا دائما، كلّ الكائنات تستقبل الشّمس في ابتهاج، ما عدا بعض بني الإنسان، فلم تُدرك بصائرهم أنّ في تجدّد النّهار درس في الانتصار. فللنور الغلبة و دوما تنجلي العتمة.
أبصر من نافذتي ككلّ يوم، لأرى عصافير تغادر أعشاشها مغرّدة منشدة، أشجار خضراء كأنّها ترتدي حلّة سندسيّة، أفنانها تتمايل طربا لنسيم يعزف لها أجود ألحان. هناك في أعلى الشّجرة التي تحاذي غرفتي، يزورني في نفس الوقت من كلّ سنة خطاف بهيّ معلنا قدوم الرّبيع. وككلّ مرّة، أنتظر قدومه بلهفة لأستقبله في بشر، حتّى ألفته وألفني. اليوم موعد قدومه، وها أنا أرقبه في شوق. أمعنت النّظر فرأيت جناحين في السّماء يغمرهما السّناء. غضضت طرفي لأنّ النّور أبهرني. تأمّلت بعد برهة لأبصر أمرا عجابا : طفل صغير بجناحين أبيضين ناصعين يحمل قوسا وسهاما..أهو ملائكة من السّماء؟ أم سراب آيل إلى الفناء؟
اقترب منّي قائلا : ’’صباح الخير، أنا كيوبيد، رفيقك الخطّاف أرسلني، فهلا تبعتني، ولا تسأليني عن شيء حتّى أحدث لك منه ذكرا’’. هممت بالإجابة فإذا بسهم يخترق فؤادي. غفوت ولم أقدر على الحركة. بعد فترة، نهضت متثاقلة كالسّكرى، فسمعت صوتا يخبرني ضاحكا ’’هل أسكرك الحبّ؟’’
التفت إلى الوراء باستغراب فاندهشت ممّا رأيت و تاهت عنّي الكلمات.
السّهم الثاني
قرطاج 814 ق م
وجدت نفسي في أرض فيحاء غريبة، بجانبي كيوبيد يعدّل قوسه. جلت ببصري في الأرجاء فإذا بحسناء جيداء تقف حائرة حاملة جلد ثور. فجأة اخترق قلبها سهم من سهام كيوبيد صرختُ في فزع ’’ماذا فعلت؟ أجننت؟’’ بيد أنّ المرأة لم تسقط ألما، فكأنّما أصابها سهم من خيال. لم تتحرك برهة ثم طفقت تقصّ ذلك الجلد وصيّرته خيوطا رفيعة. لم أدرك مغزى صنيعها، حتّى رأيت صبيّة تخاطبها في أدب ’’سيّدتي علّيسة، ما أبهاك وما أدهاك!’’
أصابني بهت، علّيسة! عليسة صور، أميرة قرطاج.. هل أنا الآن في حضرة تاريخ يُرسم ومجد يُنحت. أجابت عليسة رفيقتها: ’’لكم أحببت هذه الأرض، إنّها من اليوم لنا..إنّها قرطاجُنا’’.
انفرجت أساريري لما رأيت، عندما أعود سأخبر صاحباتي بأنّي الوحيدة بينهنّ التي رأت علّيسة. وابتيسم كيوبيد مثلي ابتسامة غامضة..وأطرق في سخرية قائلا ’’سأهبك مثلي جناحين لتطيري’’.
أجبته في لهفة : ’’أطير.. إلى أين؟’’ .. لم أكمل جملتي لأنّ سهما آخر أصابني فأفقدني الوعي.
السّهم الثالث
إفريقيّة، سنة 670 ميلاديّا
فتحت عينيّ في غضب، وقلت لرفيقي في حنق ’’لم تصيبني بسهامك كلّ مرّة؟’’ فأشار إليّ أن أصمت. ولشدّ ما كانت دهشتي عارمة حين رأيت جيشا عرمرما وجيادا وفرسانا..ابتسم محدّثي معلنا ’’إنّها القيروان’’ ورمى بسهم أحد الفرسان.. وماهي إلا لحظات حتّى تقدّم الفارس المُختار يخاطب الجمع الغفير بصوت مهيب: ’’سنجعل هذه الأرض المباركة معسكر جندنا، ستكون عاصمة مجدنا، إنّها آمنة حصينة قصّية، فلن نخشى الجواري المنشآت، ولن يفاجئنا الغزاة’’. تعالت الهتافات من كلّ صوب. نظرت باستغراب إلى كيوبيد وتساءلت: ’’من هذا الفارس العظيم؟’’ أجابني في استغراب: ألا تعرفين عقبة؟ ’’ ظننت أنّك عالمة بالتّاريخ..
قلت له في صوت مرتعش: ’’عقبة..هل هو عقبة بن نافع؟ هل نحن الآن بإفريقيّة؟ أرجوك تمهّل، دعني ألتقط صورا لهذا المشهد الفريد.. شرعت أبحث عن هاتفي فلم أجده.. شعرت بالخيبة. تركته في غرفتي.. ساعتي أيضا لم تكن معي.. وبينما كنت أتمتم في سخط أصابني كيوبيد بسهم آخر فذهلت ووقعت.
السّهم الرابع
تونس، 1956
رائحة ذكيّة في الأرجاء.. أعرفها جيّدا..هي رائحة الخبز الذي تصنعه أكفّ التّونسيات في الرّيف العظيم، كخبز أميّ الشّهيّ.. راودتني في اللحظة نفسها قصيدة لمحمود درويش يقول فيها: ’’أحنّ إلى خبز أمّي’’ أنشدها الفنّان الملتزم مارسيل خليفة ..بدأت أدندن الأغنية في طرب، فقاطعني صوت كيوبيد في غضب ’’فلتصمتي’’..ورمى سهما أصاب به امرأة جميلة تتوسّط بيتا ذا طراز معماري عتيق، غرفه مقبّبة ووسط الدّار ينفتح على السّماء. كانت ترتدي حلّة تقليديّة بديعة زاهية الألوان، وتحمل صينيّة مليئة بالخبز..
وبغتة، دخل شاب طويل القامة، وسيم المحيّا وهو يهتف ’’أمّي، أمّي، تونس مستقلة، لم تذهب دماء أخي الشّهيد سُدى، نموت نموت ويحيا الوطن’’.
فإذا بالمرأة تزغرد والجارات قد أقبلن يزغردن في بهجة وحبور.. ووزّعت الصّبايا الحلويات.. وحملن الحنّاء ليخضبن أكفهنّ..وصار الجمع عرسا للحريّة..
نظرت إلى كيوبيد راجية ’’أريد أن أخضب يدي بالحنّاء أيضا’’.. تركت رفيقي وذهبت إلى إحدى الصّبايا أطلب خضابا..نظرت إلى ثيابي في دهشة.. أخبرتها أنّي قدمت ضيفة هذا الصّباح.. فخضّبت كفّي بحنّاء طيّبة الرّائحة.. وعدت أدراجي في سرور.
كان كيوبيد غاضبا، أردت الاعتذار منه، بيد أنّه أخرج سهما آخر وأصابني به دون انتظار.
السّهم الخامس
تونس 2014
( سيدي بوزيد)
كان الجمغ غفيرا.. والهتافات عالية.. واللافتات عريضة..’’ثورة ثورة حتّى النّصر’’. هذه المرّة لست في حاجة إلى توضيح من كيوبيد ..لقد رأيت هذا المشهد من قبل.. كان كيوبيد يرتدي طوقا من الياسمين..قال لي ’’هذه المرّة، السّهم لك’’. ناولني سهما لأصيب به من أشاء. جلت ببصري في الأرجاء. رأيت وجها مألوفا أعرفه جيّدا، إنّه الشّاعر التّونسي الصّغير أولاد حمد..
لم أتردّد لحظة، ورميته بسهم الحبّ. فقام لينشد ’’نحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحد’’ وكنت أردّد وراءه في هيبة : ’’ولو شرّدونا كما شرّدونا لعدنا غزاة لهذا البلد’’.
فجأة، قاطعني صوت مألوف، إنّه صوت أمّي قائلة ’’انهضي يابنيّتي، ما بك تهذين؟ هيّا ستتأخرين عن العمل’’. قفزت من الفراش وذهبت إلى النّافذة، فوجدت الخطاف الجميل يرفرف بجناحيه، ثمّ طار عاليا ليحلّق في رحاب السّماء.. بحثت عن كيوبيد فلم أجده.. كان حلما جميلا. أشارت أمي إلى كفّي وقالت في استغراب ’’متى خضبت كفّك ؟’’ نظرتُ إلى الخضاب وابتسمت. كنت على يقين أنّ كيوبيد لم يرحل أبدا
هو دائما معنا.. في كل زمن
الأمس، اليوم وغدا
أليس بالحبّ يُبنى الوطن؟
مشاركة منتدى
21 أيار (مايو) 2020, 03:15, بقلم الطيب الجابلي
نص رائع يسافر بنا عبر الزمن ليجعل من الحبّوقودا في بناء الأوطان.