الخميس ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٣
بقلم هاتف بشبوش

رياض محمد، بين جاذبيةِ الألمِ وباب الورد..جزءٌ أول

وأنا أقرأ رياض أشعر من أنني يتوجب عليّ أن أبقى مسافرا حتى تنام الآرض. أجد نفسي مجرد حدث في الجانب المنتصر أو الخاسر في الحرب والضياع الإجتماعي، والكبار هم المنتفعون، أفهم من مجمل الثيمات للشاعر رياض من أن الجبناء والأوغاد لهم الحظوظ في الحياة بينما يموت الشجعان والأبطال مثل عبدالكريم قاسم وجيفارا وكل من تدلى من حبل مشنقة في سبيل قضية عادلة. وأنا أتفحّص براعم أغصان الشعر لرياض أجد الحياة الابدية أمرا مخيفا وأحب ان اقضيها تحت التخدير العام. ثم نستدرك أن الشعر لديه هو صيغة فنية متشعبة بجمالاتها مثل تلك التي درسها وهو في أكاديمية الفنون الجميلة وما تحتوية من مسرح درامي أو كوميدي فيه العاطفة والحزن والذكرى والسياسة وغيرها وهو المَلكة التي لها القدرة على توظيف الكلمة بلغةٍ رصينة لتكوّن شطرا أو بيتاّ أنيقاً فيه من المعاني البليغة في أنساغها الصاعدة والنازلة.

الشاعر رياض من خلال ديوانه موضوع دراستنا هذه والموسوم (باب المنفى) أرى من أن ّالشعر لديه هو ذلك الصنع الذي يعطينا نسقا ملحنا مرتبطا بالموسيقى التي بدورها تتوافق مع الاغنية وهذه الأخيرة تحتاج الى قصيدة شاعرٍ ملهمٍ وصيّادٍ ماهرٍ لكل فكرة تمر عليه أو يقوم بتوليدها بنفسه. في المحتوى العام انّ الشعر لدى رياض به أغلب فضاءات الانتشاء والسعادة الرواقية الحقيقية بمؤسسها (زينون) لكنها مغلّفة بالعدميّة وهذا هو حال الشاعر الذي يعتريه القلق على الدوام.

إستطاع رياض أن يحط باقدامي في الفنون الجميلة التي نال شهادتها لآرى قصوراً فنية ومسارح من معاني وشروحات وانزياحات في غاية البداعة و لربما احتاج الى ذهنية طفل صغير يندهش بالصورة والعمل التمثيلي ووفق مايقولون من ان اكثر الاندهاش أمام هذا الأمر يتواجد عند الاطفال. حين أقرأ رياض أتذكر المناضلة الراحلة (فنانة الشعب زينب) والمنفى السويدي الصقيعي القارص والتي كانت تدرك مامعنى الحرية حين يذهب القتلة من بين نواظرنا، كانت ترى الجمال السويدي بمسحة الكآبة لللمساءات الثقيلة هناك والتي عاشها رياض بكل تجلّياتها. كل هذا كان واضحاً لدى الشاعر رياض بإرهاصات الرجع والإغتراب للمنفي خارج تراب الطفولة والصبا النزق. لنقرأ رياض بهذا الصدد أدناه في (وحشة المساء):

لامصابيح في الأزقة
الأبوابُ مغلقة والشبابيك
كإنّ النور يلفظ انفاسه
الأرضُ تدور
مثل ثورِ الناعور
ولا أحدٌ بلوعتي
وحدي أحث الخطى
في طريقٍ لايعرفني
لكنني أعرفه
أحفظ أحجاره
جدران بيوته
والوجوه التي تتلصصُ
من خلف الزجاج

هل نحتاج لرؤيا الشمس كي نعرف اننا في النهار، نعم نحتاجها في تلك البلدان الإسكندنافية التي يقطنها رياض، فلايمكنك سوى أن ترى السماء الرمادية على طول اليوم والفصول الاّ ما ندر وحسب كرم الطبيعة والطقوس. تحس وكإنك في مساءٍ دائم وسوف يباغتك الليل وأنت في ممشاك الذي حفظته عن ظهر قلب. وبعدها وأنت تحث الخطى تجعل من المصابيح وكإنها الشمس التي تعز عليك وأنت في النهار ومامن سابلةٍ في الممشى وكإن الناس بلعتهم الأرض سوى تلك الإنارة التي تشع ومن خلفها عيون تتلصص للممشاك الكئيب الغريب وياغريب كن أديب فلايمكنك أن تحط عينيك لتنظر مايحصل خلف الجدران، فهذا ممنوع.. ممنوع ويعد من شرف الأعراف، هم وحدهم ينظرون لآنك في الممشى العلني وهم في الغرف المغلقة ربما يتعرّون مع الهسيس أو ربما مع حفلة ميلاد أو ليلة أنس وطرب، فهم يحبّون الإحتفال في البيوت مع الخمر وحبيبة وشفاه ورقص بين الحين والحين حسب ماتتطلّبه لحيظات الإنتشاء والرغبة. وأنت تبقى مع كل هذا الجمال تشعر في منفاك الكئيب الذي يهز كيان الجاذبية الآرضية كي تعيدك الى هناك حيث ولدت ويوم صرخت صرختك الأولى ويوم حبوت ومشيت وانطلقت بأقدامك الغض، كإنطلاقةٍ أولى لتلحق بأحضان الأمهات. ومن تلك المساءات الموحشة يشتد عود الخيط الناستولوجي لإرجاع المنفي لصوت الأوطان بحدائقها وخرائبها مثلما نجد رياض في (كم غنينا لتلك البلاد):

المغني يلبسُ طقماً ذهبيا
وربطةَ عنقٍ صفراء
وهو يغني لطاغية البلاد
العزيز إنتَ!!
فتصدحُ الحناجرُ كلها
مثل قطيع فيلةٍ أضاعت طريقها
فيتدلى القتلى من المشانق
والجثث تُحشرُ في التوابيت
هكذا كنا نغني
لطاغيةِ جاء ليبقى
لتغادرنا البلاد

(على الشاعر ان يعرف كيف يصد الهجمات العدوانية..القائد الشيوعي الفيتنامي هوشي من)
النص أعلاه هو بمثابة صد من قبل الشاعر رياض لمدّاحي الطاغية. مات المرتل ومات المغني، بقي الخطيب الكذاب والمسجّع، مات الجندي على أطراف أنهرنا التي جفت بفعل الأوغاد وبقي الجلاد، مات المناضل بركلة مجرمٍ حقير في ظلمة الأقبية، بينما الجرذان هي من أوثقت الأسود في زمنٍ أرعنٍ وبقي الشجاع يتمنى الموت خلاصا كي لايرى فداحة ما وصلنا اليه وما آلت اليه مصائرنا التي لم تعد تفتخر بهذه الأمة حتى رأب الصدع الكبير، وبمَ تفتخر الأمم والشعوب إذا سُلبت منها الكرامة وبقيت القمامة، وها هم ساسة اليوم يغرقوننا بالوحول والدماء على طريقة ماقاله (ميكافيللي) في حرق الحرث والنسل كي يتبعك شعبك صاغرا ذليلا معتمدا عليك في كل الصغائر والكبائر. ثم ينتقل الشاعر ليرسم لنا مصائر البشرية هناك في بلاد ماعادت تنفع سوى للذئاب وابن آوى. لنقرأه في سطور (غيمة عارية):

وبعضُ الحنين الذي يمرد القلب
كاننا خلقنا لعذابات لانهائية
تنمو مثل طحالب الغابات الممطرة
على جلودنا الخشنة
التي لوّحتها الشمس
لقد رحلوا مثلما جاءوا
غير انّ شيئا واحداً
لم يعد كما كان
الصمتُ
وجوههم
حركةُ الشفاه

الناس لم تخلق لإسعادك لاننا انحدرنا من كائنات تفترس بعضها البعض عضويا واليوم تفترس بعضها البعض عضويا و نفسيا ولماذا كل هذا الإفتراس ؟ ماذا لو كان هناك كومة كبيرة من اللماذا نلفها في حجرفترتد كصدى الناقوس ؟.
يقال أنّ الانسان أصله بصلة وزجاجة قولونيا، يعني هناك جانب الشر في داخله وهناك جانب الخير المعطر بحب الآخرين، الإنسان بطبعه كسول وأناني وخائف على الدوام. والاّ لماذا نأكل كثيرا حتى التخمة في حين أن الطعام موجود، والسبب في ذلك هو أننا نحمل جينات الخوف من أسلافنا الذين كانوا يفكرون في أكل الطعام كله دفعة واحدة فلربما يوم غد لايحصل من الصيد شيئاً يذكر، ربما لايستطيع صيد غزالة أو أرنبا ولذلك تراه يخاف من يوم غد على الدوام. وما قاله الشاعر رياض (كإننا خلقنا لعذابات لانهائية). نعم لايمكن أن يبتعد المرء عن الآوجاع مهما صنع لحاله هالة من السعادة لاتقدر، فالسعادة تطير من بين أصابعنا وكإننا نمسك الأوهام. كلنا لانعرف مصائرنا مثل سقوط النيران في حرب غزة اليوم وفي لحظة مجهولة تؤدي الى إختفاء الصبايا والعجائز سيان دون تفرقة ودون إنتقاء، حتى يسود الصمت وتغلق الشفاه كما في الثيمة أعلاه (لم يعد كما كان / الصمت / حركة الشفاه) يسود صمت الموتى أو الصمت العالمي الباطل أمام الجريمة الفاضحة. بين كل هذه العذابات ورغم الألم يتكيء الشاعر رياض على روح السلام وفوق جنح فراشة ولو شططا فمن دونهما لآطبقت علينا الحياة بتمام أوجاعها لنقف عنده مع (باب الورد):

لاتمسكُ النجمة الشاردة
أيها المتيّم بالنور
دع روحك تضيء الوردة
التي تنبت في الشفتين
لاتوقظُ الفراشة النائمة
بين نهدين
دعها تحلم بحقل زهورٍ
ينبت هناك

الشعر ان لم يكن ذكرى وعاطفة وحكمة فهو مجرد تقطيع وأوزان وهناك من يقول:ان الشعر عبارة عن عربة يجرها حصانان واحد يمثل العاطفة والاخر يمثل الخيال ويقودهما قائد وهوالعقل. وهنا في الثيمة أعلاه يصور لنا الشاعر لكم هو مشتبك في دائرة السلام، هو واحد من مناهضي العنف والخشونة (لاتوقظ الفراشة النائمة) وهذا كله من عطر الورد الذي يسري في عروق رياض وأنساغه منذ ان كان هناك وقبل أن يبلغ المنفى ويجرّب ثقل الفراق الذي يصهل به فيتذكر الهوى الأسمى في حب الأمومة مثلما ماورد في شذرته ((الأشجار تشبه الأمهات):

لم يكُ داروين
ذلك
الملتحي العجوز دقيقا
في بحثه عن جذرنا الأول
فأمي شجرة تفاح ٍمثمرةٍ
نخلة باسقة ٌ
وليست قردة

الأم هي حواءُ وتعني التي تحيي، أو سيدة الضلع حسب ماورد في الإنطولوجيا.

الأغنية الجميلة التي يغنيها كريم منصور (غريب آنه) يقول بها (لو تلم كل الكون وتجيبه يمي/ مابدلنّة بخيط من شيلة أمي). وأجمل ما كتب عن الأم هو في تلك الأغنية للراحلة فائزة أحمد (ست الحبايب).أدونيس يقول (أمي مثل تلك الشجرة في بيتنا من اي مكان نظرت اليها تراها هي الشجرة ذاتها في شكلها وعطرها). حتى يخيّل لنا أن أبناءها أغصانها وأوراقها أحفادها وكلما تساقط غصن أو ورقة نراها دامعة العينين وحتى مثواها الأخير تبقى تلك السنديانة الباسقة في قلوب الجميع وتنظر الى أبنائها وكإنهم يرضعون مدللون أو فتية ماجدون. وهنا قد ذكر الشاعر أعلاه عن نظرية داروين في أصل ألانواع ونشأتها بشكل ساخر جميل رداّ على ماكان يفعله بعض الجهلة المتعصبين الرافضين أن يكون الولي والسيد من أصل قرد. هي ذاتها البلدان نشأ بها الشاعر وأصبح فتياً ليقول أنا (ذلك الفتى):

ولم يكُ يعرف
هذا الفتى الطاعن في السن
انّ تلك البلاد
ستذبل
وتلك السماء المضيئة
لم تعد باقية
وان بلادا ًبديلة
إستطونت في النفوس
واستحالتْ الى مقصلة

يقول (أنطون تشيخوف) في المجتمعات الفاشلة ثمة ألف أحمق مقابل كل عقل راجح، وألف كلمة خرقاء إزاء كل كلمة واعية، وتظل الغالبية بلهاء على الدوام ولها الغلبةً على العاقل. فإذا رأيت الموضوعات التافهة تعلو في أحد المجتمعات على الكلام الواعي، ويتصدر التافهون المشهد فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل لامحال من ذلك.

من كل هذا التمرد للشاعر رياض تبقى الغصة في الروح على ماتركه من شقشقيات هناك في البلاد المقصلة، في الأوطان التي هجرناها قسرا وليس طواعية كما في شذرة (كم من الحقائب تركنا خلفنا):

يتبـع في الجــزء الثانـي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى