رواية «لا أتنفس» لزهور كرام: صرخة أدبية من قلب المعاناة
من خلال هذا المنجز السردي تنسج الكاتبة المغربية زهور كرام أكاليل سردية رثاءً لضحايا وباء كورونا، حاملةً عنواناً شاعرياً مأساوياً يكشف عن عمق المعاناة الإنسانية في زمن الجائحة حيث تأتي الرواية كقراءة تفاعلية مع قضايا الواقع، لتؤكد قدرة الأدب على استباق الأحداث وفهمها بشكل غير مباشر، وفضح عيوب المجتمع وتحفيز عقول أهل العلوم الإنسانية على التفسير والتحليل. ، لتُشكّل إضافة هامة للنتاج الأدبي المغربي المعاصر، وتُخلّد ذاكرة ضحايا الوباء عبر لغة إبداعية مؤثّرة.
تغوص رواية «لا أتنفس» للكاتبة زهور كرام في أعماق الأزمات الإنسانية التي فجّرها وباء «كورونا»، لتُقدم لنا حكايات مؤثّرة لشخصيات تعاني من أزمات هوية وذاكرة، وعدالة اجتماعية ومعنى وجودي. تُجبر هذه الشخصيات، وهي في خضمّ هذه المعاناة، على «البحث عن هويتها وذاكرتها» وسط صراعات قاسية مع الفقر والتشرد والهجرة السرية والحدود، والغربة، والعنف، والانتقام.
وتتداخل حكايات هذه الشخصيات مع حكاية جائحة «كورونا» التي تنسج خيطاً موازياً في الرواية، لتُشكل لوحة مُتكاملة عن معاناة الإنسان في زمن الجائحة.و تُظهر الرواية كيف فاقمت الجائحة من حدة الأزمات الموجودة، وكشفت عن الظلم والقهر الذي يعاني منه الكثيرون، وتتجلى لنا الأزمة قبل الخوض في غمار هذا النص الروائي، حيث يستوقفنا العنوان الذي يحمل دلالات عميقة، فهو يُجسّد معاناة الإنسان المُختنق، سواءً على الصعيد الجسدي بسبب وباء كورونا، أو على الصعيد النفسي نتيجة ضغوطات الحياة اليومية. كما يُشير العنوان إلى شعور الشخصيات بالاختناق داخل العالم الافتراضي، حيثُ تُصبح هوياتهم مُزيّفة وعلاقاتهم سطحية. فقد أبدعت الكاتبة لوحة فنية قاتمة للفضاء العام للحكاية، تمزج فيها بين الواقع والخيال، مُحطّمةً الحدود الوهمية بين الفنون حيث تلاحق آلام البشر وتُخلّد لحظات مآسيهم، سواء تلك التي ظهرت على السطح أو تلك التي دفنت تحت طبقات من الصمت، لذلك تلفت انتباهنا جملة قاسية لا هوادة فيها: «يزداد مولود قبل أوانه، وتعثر الشرطة على جثة بمحاذاة النهر». تُجسّد هذه الجملة صورة المسخ والتشوه، وتضع القارئ مباشرةً أمام عالم روائي قاتم، تُصرّ صانعته على كشف كل شيءٍ دون مواربة، حيث تنفجر مدينة بكاملها، وتغرق في بحر من الفوضى واليأس. يجد القارئ نفسه محاصرًا وسط مدينةٍ موبوءة باليأس، مدينة فقدت بريقها وفُقدت فيها هبة . البصر «كل نساء المدينة أصبن بالعمى». إنه زمن المسوخ، زمن انهيار القيم وضيق التنفس، كما تُعبّر إحدى الشخصيات الروائية: «أنا الآن أختنق، لا أتنفس، وهناك بعد قليل أو ساعةٍ قد أتلاشى في صمتٍ». لا تقتصر الرواية على تناول زمن كورونا، فهي تخوض في عصر كامل من الفساد والأمراض الاجتماعية والسياسيّة، عابرة أمكنة وأزمنة، عبر الحوارات والتأمّلات في الذات والآخرين، وبلوغ الخلاصات فيما يتعلّق بالعلاقات بين الكائنات.
من خلال المؤشرات السابقة، يمكن اعتبار رواية «لا أتنفس» بمثابة رحلةٍ غنيةٍ في دهاليز المجتمع المتشظي في زمننا الحديث. حيثُ تغوص الكاتبة ببراعةٍ في عمقِ التناقضات والصراعات التي تُميّز هذا المجتمع، مُفتّحةً المجال أمام تأويلاتٍ مُتعدّدةٍ تجعلُ المتلقّي شريكًا في بناء النصّ وتشكيلِ تصوراتهِ الخاصّة.
ُتجسّدُ الروايةُ فضاءً واسعًا مُتشعّبًا تتناسلُ فيه الحكايات، لتُصبحَ مرآةً تعكسُ إشكالاتِ الواقعِ بكلّ تعقيداتهِ وتناقضاتهِ. وبذلك تُؤكّدُ على قدرتها على التجدّدِ والتكيّفِ مع مُستجدّاتِ العصرِ، لتصبحَ بمثابةِ أداةٍ فاعلةٍ لفهمِ العالمِ والتفاعلِ معه، وبالتالي تُقدّمُ “لا أتنفس” مساهمةً هامّةً في مجالِ التأريخِ الاجتماعيّ للأدبِ، من خلالِ رصدِها الدقيقِ للتحولاتِ التي طرأتْ على المجتمعِ، ولكنْ، لا تكتفي الروايةُ بوصفِ الواقعِ، بل تُحاولُ أيضًا طرحَ بعضِ التساؤلاتِ الجوهريةِ حولَ مستقبلِ هذا المجتمعِ، تاركةً المجالَ مفتوحًا أمامَ القارئِ للتأملِ والتفكيرِ.
أما إذا انتقلنا إلى الجانب الأسلوبي، فإننا نجد أن رواية زهور كرام تميزت بأسلوبها الفريد الذي يخالف المألوف، حيث اعتمدت على الأسلوب التشعبي المتفرع القائم على الاحتمال. هذا الأسلوب يكسر خطية السرد ويضفي عليه نوعاً من الإرباك على القارئ، مما يضعه في متاهة من الأحداث والشخصيات، كما أن تعدد الساردين في الرواية وتنوع ضمائر السرد وتبدل المنظورات بشكل سريع ساهم في تعزيز هذا الإحساس بالارتباك، لذلك يواجه القارئ صعوبة في البداية في تمييز خيوط الحكاية وتحديد معالم الشخصيات والتفريق بينها، خاصة مع كثرة الفراغات التي لا تملأ إلا من خلال القراءة المتقطعة التي تتطلب الرجوع إلى ما سبق للتأكد من عودة السرد إلى شخصية معينة.
يتجلى الأسلوب التشعبي بشكل واضح في الرواية من خلال مداخل رئيسية تفرعت عنها المحكيات وتشعبت، تاركة للقارئ مهمة ملء الفراغات التي خلفتها.
تتكون الشخصيات في الرواية تدريجياً من خلال الوقائع والأحداث التي يرويها الساردون، ومن خلال تعرية عالمها الداخلي أثناء تعريفها بنفسها.
– زهوركرام، لا أتنفس، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، ط1\2021