الأربعاء ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم عبد الله المتقي

رحيل «الفهد» حيْدر حيْدر

غادر عالمنا مؤخرا الروائي حيدر حيدر عن عمر ناهز 87 سنة بعد معاناة مع المرض، ليترك خلفه بصمة في الرواية العربية التي يعتقد يحيى القيسي"أنها يمكن أن تكون فناً ملحمياً، وتعبيراً درامياً عن الصراع ليس بين الفرد والمجتمع وحسب، بل بين قوى مناضلة صاعدة وقوى معادية للشعب وتطور التاريخ نحو المستقبل الأكثر عدالة والأكثر تقدمية".

مات حيدر حيد منعزلا، ليلتحق بثلاثة اثة من جيله ماتوا بالسرطان؛ هُم سعد الله ونوس (1941 - 1997)، وممدوح عدوان (1941 - 2004)، وهاني الراهب (1939 - 2000).

وبهذه المناسبة، الجارحة للمشهد الروائي العربي، كانت هذه الشهادات لمجموعة من المهووسين بالكتابة في حق الراحل:

حيْدر حيْدر الفارس الذي اعتزل الحرب
د. محمد ياسين صبيح
كاتب وناقد – سوريا

رسم حيدر حيدر مع جيله من الكتاب الذين رسموا في الثقافة السورية، مستويات عالية من الابتكار الذاتي والجرأة الثقافية التي امتزجت بأرائهم المتقدمة في المجتمع والسياسة والفكر، المشاغبون في قوة المجابهة الثقافية، وفي جرأة طرح المواضيع، فمن جيله مواطنه وابن قريته سعدالله ونوس الذي تغلب على السرطان بالكتابة، وممدوح عدوان، وهاني الراهب الذي حفر في صحراء الأدب رواياته العميقة، وعادل محمود الشاعر المبتكر والروائي الباحث عن الرماد بين عيون الوطن المنسي، انتقل حيدر بأسلوبه الروائي من التقليدية إلى الشاعرية التي فجرت امكانياته الواسعة، والتي غير بها أسلوبه السردي، لذلك يمكننا اعتباره من رواد الحداثة السورية، فنقل مستوى التقنيات الكتابية إلى مسارات أكثر حداثة بالأسلوب والصياغة، والأهم تمرده الواسع على النمطيات السياسية والاجتماعية وعلاقاتها المأزومة مع المثقفين بشكل عام، لذلك يمكننا اعتباره من رواد التجديد في الرواية السورية والعربية، لقد اختار العزلة قريباً من البحر، ربما ليجعل أمواجه تمحي الهزائم التي يعيشها الانسان العادي الذي أثقلت كاهله السياسات المأزومة.

فأول ما قرأت حيدر حيدر سينمائياً مع أبو علي شاهين وفيلم"الفهد"، قبل أن اقرأه ورقياً، فاكتشفت الحياة الأخرى التي جلبها إلى أطباق الورق، الحياة التي مرت سطورها بلغة شفافة وممتعة ومشوقة، الحياة المأزومة في دواخلنا.

ترك ملامحه العديدة واتجه نحو وليمته الباقية، بلدته حصين البحر الحزينة على أشجارها التي غطاها الشحّار الأسود، القادم من مداخن المعامل القريبة، وبقي فيها يرسم لوحاته الموشحة بالحكايا المتمردة والحكيمة، والتي فيها من ذاته الكثير، الحكايا التي أراد ان ينشئ بها كونه، هذا الكون الذي اعطى فيه المرأة مكانة ملهمة، الكون الذي يصارع فيه الفساد والاستبداد، الكون الذي أفلت فيه وعوله ترعى الحياة والأمل، لقد ربط فرسه في معقله الأخير، مكابراً على الآلام الوجود، وترجل فارساً، لم يمت على فراشه، إنما في اكوانه العديدة، وهو يراقب البحر كيف يرسم غضبه وفرحه، رغم سواد أشجار حصين البحر، أكوانه التي ستبقى ملاذاً للحائرين والمتمردين والمظلومين، وللذين لديهم الجرأة بمد ولائمهم في البحر.

وشهد شاهد: حيدر حيدر

فتحية دبش

قاصة وروائية تونسية مقيمة في فرنسا

"كانت مدينة جميلة، مطوقة بالبحر والغابات. لكنها كأي مدينة عربية كانت موحشة، محكومة بالإرهاب والجوع والسمسرة والدين والحقد والجهل والقسوة والقتل.

مدينة تكره الغرباء.

ورغم جوارها للبحر والغابات فهي تبدو حزينة. إن الحب ينمو داخلها نمو النباتات بين شقوق الصخر، مهددا بالموت متى حاول الوقوف تحت الشمس."حيدر حيدر، رواية وليمة لأعشاب البحر

حيدر حيدر الذي قرأت له متأخرا جدا، فقد كنت مهووسة بالقراءة إلى آخرين وخاصة حنا مينة من الكتاب السوريين قرات له بتحريض ممن دلني على رواية وليمة لأعشاب البحر، قال:"إنه كاتب مختلف، ستبتهجين وأنت تقرئين له"

لم أكن أعرف يومها ما كان يعنيه ذلك الصديق القارئ الذي ترك لي هذه الرسالة على الفايسبوك ومضى للغياب. لكنني مباشرة فتحت ملف هذه الرواية ولا أخفي إن الفضول كان محركي الأول كدائما. وهكذا أيضا جئت للكتابة عن حيدر حيدر بعد وفاته بتحريض شقيق حرف دعاني للكتابة عنه. قلت الكتابة؟ الأصح أنه دعاني للشهادة، ولم أرفض!

حالما بدأت قراءتها في ذلك الوقت توقفت عند هذه الفقرة التي افتتحت بها شهادتي هذه. لقد قال فيها حيدر حيدر المختفي وراء السرد والسراد والشخوص والحكاية واللغة والأحداث وكل تفاصيل النص كل شيء. فماذا عساه يكتب بعد ان كتب هذه الفقرة. لذلك كلما دخلت رواية له أو نصا من نصوصه الأخرى الكثيرة بما فيها مقالاته وجدت أنه لا يفعل سوى تفسير او شرح او توضيح ما جاء في هذه الفقرة.

حيدر حيدر يقول كل شيء كان وكائن وسيكون لوقت نصلي كلنا كي لا يطول. رواية عجيبة في تناولها كل تلك الأسئلة المحرمة المتعلقة أساسا بهذا العنف المتعدد الذي يطحن الإنسان العربي فلا هو استطاع ان يثور ولا هو استطاع ان يرضى، وما استطاع إلا النزف على الورق يعدد أسباب وحشة هذه المدن وقد نضيف نحن قراء اليوم إلى قائمته تلك جملة من الأشياء التي تزيد مدننا وحشة: كأن يموت حيدر حيدر فيهمل الكثيرون منجزه ويتوقفون عند ما يسمونه بطائفيته.

سأختم واقول: لا تأخذ بكل ما يكتبه الناس في حياة كاتب ما، انتظر حتى يغادر دوائر الضوء ويولي ظهره للجميع. حينها فقط اقرأ عنه وستدرك لماذا لم تتغير مدننا. أشهد أننا نحن من يجعل هذه المدن موحشة...

حيْدر ولغة الرفض

محمد أحمد أنقار

كاتب وباحث المغرب

قد نختلف كثيرا مع الكاتب السوري حيدر حيدر (1936 ــــــ 2023) في أفكاره ومواقفه من الدين والسياسة، لكن نكاد نجمع بأن حيدر هو حامل لواء التمرد والرفض على المواضعات، يأبى الخنوع لما هو جاهز في هذا"الزمن الموحش"(بيروت 1973). ينتمي حيدر ثقافيا وسياسيا إلى جيل آمن بالتغيير والثورة ضد الاستعمار الغربي والصهيونية والاستبداد، فكان إبداعه الروائي والقصصي صورة منه، ضاجا بالنقد اللاذع والساخر أيضا بما آل إليه وضع الإنسان العربي بعد توالي الهزائم. انتقل للعيش بين عواصم عدة دمشق والجزائر وبيروت وقبرص، انضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، وعاش زمن المد الاشتراكي؛ الرفاق وأحلام الثورة، كما عاش في زمن الردة والخيانة والخنوع...فكانت روايته التي اشتهر بها عربيا"وليمة لأعشاب البحر"(قبرص 1984) عرض فيها مواقفه بجرأة وبوضوح شديدين دون مواربة...انشغل فحسب بحرية الإنسان، كيف للمرء أن ينسلخ من تبعات السياسة والدين والمعتقدات، أن يعيش وفق طبيعته وحريته...هذا هو حيدر، متمرد وثائر ومتفرد، ليس بمواقفه وتوجهاته بل بإبداعه النابض بالرفض والتمرد، وبلغته المفعمة بالقوة والوضوح. كما هو وارد في مقطع حواري من قصة"وشاح وردي لرجل وحيد"ضمن مجموعته القصصية"الفيضان"(الطبعة الثالثة، سورية 1986).

"ــ إنك تتكلم لغة غير مفهومة. اعترض شاب على عبد الله في إحدى الحلقات.

وسأل: وما هو الغموض فيها؟

وصحح الشاب: عنيت لغة مضادة غير مقبولة.

وممن هي غير مقبولة؟

ـــ من الناس العاديين.

ـــ ولماذا لا تقول: إنها مرفوضة من الطغاة؟ الناس الفقراء البسطاء يدركون بالتجربة والمرارة والاستلاب كل شيء، العمال أساس الشعب وأنا أتكلم لهم لأنهم آلهة المستقبل".
دائما ما نجد في سرده قوة وحسا ثوريا لا يهدأ، فهو يسمي الأشياء بمسمياتها. لذلك، فلغة حيدر مثل لغة أحد شخصيات سرده، مضادة غير مقبولة، ومرفوضة من الطغاة...ولترقد بسلام يا حيدر.

عن حيْدر حيْدر، وجيل الخيبات

محمّد بوحوش

كاتب تونسي

تلك المرحلة المليئة بالقشّ، مرحلة الأحلام الّتي انكسرت على جدران الواقع. مرحلة الشّعارات المزدانة بوهم التّحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ، بالنّهضة وبالأمّة العربيّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة، بالاشتراكيّة والتّنمية والعدالة، عشتها مع عمليْن روائييْن للرّاحل الكبير حيدر حيدر. قرأت له روايتين: وليمة لأعشاب البحر، والزّمن الموحش. الرّواية الأخيرة فتنتني بشعريّتها وخيباتها. كان ذلك في بداية التّسعينات من القرن الماضي حين تعرّفت إلى أعمال حيدر حيدر. وأذكر جيّدا جدّا ما أثارته روايته وليمة لأعشاب البحر من احتجاجات، وهي الّتي منعت وصودرت وهاجمها شيوخ الفتاوى، وأثارت قطيعا من الجماهير الّتي لا تقرأ، أي الجماهير الّتي يصدق فيها القول:"أنا لا أفكّر فالشّيخ يفكّر عنّي".

خلال تلك الحادثة الّتي ما يزال صداها يرنّ في أذني، تعلّقت أكثر بمؤلّفات الفقيد الجلل، وأحببت سرده رغم ضجيج الايدولوجيا الّتي يحملها. غير أنّي استدركت هذا الضّجيج بفكرة أنّ الرّواية ليست مجرّد حكاية، بل هي حمّالة مواقف وأفكار وثقافة ومرجعيّات، وهي بمعنى مّا شهادة على مرحلة تاريخيّة. لذلك ظللتُ أعتبر حيدر حيدر من الرّوائيّين الّذين وثّقوا تلك المرحلة بما حملته من تحوّلات وخيبات، ومن فشل المشاريع القوميّة والاشتراكيّة وتحرير فلسطين إلى جانب الردّة والهزيمة. وأدركت بعدها انفصال الواقع عن تلك الشّعارات البرّاقة الّتي حملتنا بعيدا إلى الحلم / الوهم. كما أدركت أيضا أنّ الواقع، واقعنا العربيّ بقبليّته وعشائريّته واستبداده وذكوريته وتعصّبه الدّينيّ سيظلّ غريبا عن تلك الشّعارات التّحرّريّة. وفي كلّ ذلك كان حيدر حيدر المرجع الّذي عرّى ذلك الواقع، وجعلنا نقف على مرارته محاولين فكّ ألغازه برؤية جديدة وبمناهج تختلف عمّا ألفناه من نظريّات مستوردة.

الرّوائيّ الرّاحل حيدر حيدر كان علامة سرديّة مضيئة أيقظنا من الوهم، وهم النّخبة الّتي انكسرت أحلامها اللّذيذة، وهي تحاول تفسير الواقع وتغييره، حيدر الّذي كان شاهدا على قلق الطّبقة الوسطى وحراكها وأمانيها، تلك الطّبقة الّتي تشكّلت من رحم الفئات الفقيرة، وارتقت بفضل التّعليم ونشوء مهن حديثة إلى مراتب قيادة المجتمع، أعني تلك الطّبقة أو اللّاطبقة الّتي تسمّى البرجوازيّة الصّغيرة بكلّ محاسنها وعلّاتها وتأرجحها ورومانسيتها... رحل الرّوائيّ، وبقي الأثر الّذي يدلّ عليه.

حمل أحزان الشعب العربي المقهور

بقلم: عزيز العرباوي

كاتب وباحث مغربي

تركت وفاة الروائي السوري الشهير حيدر حَيدر صاحب رواية"وليمة لأعشاب البحر"أثرًا كبيرًا في نفسية جميع من أحبه وأحب إبداعه الجميل، باعتباره كاتبًا قوميًا بامتياز؛ حيث اتصف بالكاتب الرافض للظلم والطغيان وفرض الأمر الواقع بالقوة. ولقد تركت كتاباته السردية، الروائية والقصصية، جدلًا واسعًا في العالم العربي، من خلال قدرته على إثارة القضايا الوطنية والقومية بأسلوب أدبي مستفز لبعض الجهات النافذة التي ترى فيها نوعًا من النقد لسياساتها ومواقفها، سواء من خلال ما كتبه أم من خلال انخراطه في المقاومة الفلسطينية كإعلامي ومثقف.

لقد حمل حيدر حيْدر هموم مجتمعه الوطني والقومي، كما حمل أحزان الشعب العربي المقهور، وخاصة الشعب الفلسطيني؛ حيث طرح أسئلة شائكة على النخب العربية وعلى صناع القرار السياسي، والذين فشلوا في خلق موقف عربي موحد لمواجهة المشاكل والطغيان العالمي المهدد للكيان العربي ولوجوده. لأنه كان يدرك حجم الصراعات التي تعرفها كل دولة عربية داخليًا، وحجم التهديدات التي تقضي على شعرة معاوية التي مازالت تجمعنا، والتي يمكنها أن تنقذنا في المستقبل.

كانت عزلته الأخيرة عن العالم وعن الانخراط في الجوقة الثقافية التي نعيشها، وعدم تفاعله مع أبواق الثقافة القابضين على مؤسسات الثقافة في العالم العربي من المحيط إلى الخليج، صورة واضحة للموقف الذي نفتقر إليه اليوم جميعنا؛ الموقف النقدي والإيجابي لمواجهة الرداءة والانبطاح والجشع والوصاية على المثقفين التي صار يتبناها اليوم من هم محسوبون على الإبداع والثقافة للأسف الشديد. هذا الرفض لكل ما هو رسمي وتحكّمي فرض عليه عزلة أقل ما يمكن القول عنها، أنها عزلة رافضة نقدية للواقع الثقافي وللنخب المثقفة التي تتغذى على الفتات ومن موائد المتحكمين في السلطة والقرار السياسي على المستوى العربي عامة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى