الاثنين ٢٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

ديوان جنون الحب للشاعر الفلسطيني حاتم جوعيه

يأتي ديوانُ جنون الحُب للشاعر الدكتور حاتم جوعيه بوصفهِ احتفاءً بالحُبِّ لا كحالة عاطفية عابرة، بل كـكشْفٍ وجوديٍّ ومعرفيٍّ يعيدُ تعريفَ الإنسان والعالم. في نصوص هذا الديوان لا نقرأ غزلاً ولا حنينًا فحسب، بل نعاينُ نشوءَ القصيدةِ من رحم الروح، حيث يتقاطعُ الوجدُ بالعقل، ويتحوّلُ العشق إلى فعل تأمّل، وإلى طقسٍ يُطهّرُ الذات من عتمتها.

الحُبُّ بوصفهِ فلسفة حياة

ينطلقُ حاتم جوعيه من فكرة أنَّ الحبَّ ليس نزوة ولا تجربة عاطفية محدودة، بل هو أصل الأشياء، وهو القوَّةُ التي تحفظُ للوجودَ توازنه.

إنه حبٌّ كونيّ يرى في الآخر مرآة للذات، وفي المرأة تجلّيًا للصفاءِ الإنساني، وفي القصيدة طريقًا إلى الخلاص.
الحبُّ عنده وَعيٌ يتجاوُز الجسدَ إلى المعنى، لذلك يتماهَى الحبيب بالحياة ذاتها، ويتحوّل الوجدُ إلى معرفة.
في إحدى قصائده يقول:
“كلُّ الدروب إلى عينيكِ أسلكُها،
إليكِ امضي وَمهْمَا صَعَّبُوا طُرُقِي
قد كُنتِ بصيصَ الحُلمِ في شَجَنِي
وَكُنتِ أنتِ خيُوطَ النورِ في الشَّفقِ
فكيف أضيعُ، والدنيا بعينيكِ تُرى…”

هذا المقطع يُجسّدُ رؤيته الشعرية في أن الحبَّ ليس طريقًا نحو الآخر، بل طريق نحو الذات النقية التي تنكشف في العيون التي تحب.

اللغةُ: رهافة تُجيد الإصغاءَ للقلب

لغة الشاعر حاتم جوعيه لغة منصتة أكثر مما هي متكلّمة.
يكتبُ كمن يقطّر الشعور قطرة قطرة، فلا إسراف في المفردات ولا صخب في الإيقاع.
كلماته تمضي كنسمةٍ هادئةٍ، لكنها تتركُ في النفس أثر العاصفة.
إنه شاعر يعرف أنَّ الجمالَ يسكن في الاقتصاد، وأن الشفافية لا تُنال إلا بالصدق.
اللغةُ هنا ليست زينة، بل وسيط بين الحواس والروح.
يستخدمُ الصور لا ليدهشنا بل ليُعيدَ إلينا دهشتنا الأولى: المطر ليس مطرًا فحسب، بل حنين يغسل الذاكرة؛ والعينُ ليست عضوًا بصريًّا، بل نافذة على اللانهاية.

البنيةُ الشعرية: بين الومضةِ والمشهد

في جنون الحب تتوزَّعُ القصائدُ بين نصوص قصيرة وومضات مكثّفة تشبه البوح، ونصوص أطول تحمل سردًا داخليًا خفيًا.
يُجيد الشاعرُ توزيع الإيقاع بين الهدوءِ والاندفاع، وبين الحلم والاعتراف، ممَّا يمنحُ القارئ تجربة متدرجة تُشبه التنفّس.
تبدأ القصيدةُ كهمسة وتنتهي كصلاة.
هذا التنويع البنائي يخلقُ ديناميكية تجعلُ الديوان كلاً متماسكًا رغم تنوّع نبراته.

المعجمُ الشعري: الضوء والعين والمطر

يتكرّر في الديوان معجم رمزيّ متماسك:
الضوء: دلالة على الكشف، الحقيقة، البصيرة.
العين: مجاز الحضور والحب والمعرفة.
المطر: رمز التطهّر والتجدد، كأن الحب مطرٌ يهطل على القلب ليغسله من أدران الخوف والوحدة.
هذه المفردات لا تتكرَّرُ اعتباطًا، بل تبني شبكة دلاليّة متصاعدة تجعلُ القصائدَ تتكلمُ لغةً واحدة: لغة الارتقاء من الحسّ إلى الروح.

الأنثى: القصيدة والكون معًا

الأنثى في شعر حاتم جوعيه ليست موضوعًا غزليًا، بل كائنة كونية، هي القصيدة والملهمة والأمّ والوطن.
تأتي ماثلةً كرمزٍ للحياة نفسها، حضورها ليس جسديًا بل روحيّ، تُنير القصيدة مثل شمسٍ داخليةٍ.
يكتبها الشاعرُ لا كآخر، بل كـ نصف الوجود المُكمّل، فيتحوَّلُ النصّ إلى مساحة التقاء بين الذات والعالم.
“هيَ، حين تغيب، تصمت اللغة،
وحين تحضر، تتكلّم النجوم.
بهذا المعنى، يتجاوزُ الدكتور حاتم جوعيه الصورة التقليدية للمرأة في الشعر العربي، ليقدّمَ أنثاه بوصفها جوهر الخلق، وصوت النور الذي لا ينطفئ.

البُعدُ الصُّوفي الإنساني

تتسرّبُ إلى نصوص الديوان نفحاتٌ صوفيَّةٌ ناعمة، دون أن تتحوّلَ القصيدة إلى خطابٍ ديني أو وعظي.
هي صوفيةُ الإنسانِ العاشق الذي يرى في الحبِّ وجهَ الله، وفي الحبيبة مَمرًّا إلى الجمالِ المطلق.

هنا يصبحُ الشعرُ وسيلة تطهير، لا ترفًا لغويًا؛ والعشق معرفة، لا غريزة.
إنهُ التصوّف الذي يصدر عن فيضٍ إنسانيٍّ صادق، عن روحٍ تؤمن أن الجمال طريق الخلاص، وأن الكلمة صلاة لا تُؤدّى بالأصواتِ بل بالوجدان.

قراءةٌ جماليةٌ في الوجعِ النبيل

في جنون الحب، لا يصرخ الشاعر بألمهِ، بل يبتسم بهدوءٍ في وجهه.
وجعه شفيف، راقٍ، خالٍ من المرارة.
يتعاملُ مع الفقد كمعلم، ومع الغياب كمساحة للكتابة.
هكذا يتحول الوجع إلى طاقة إبداعية، تخلق جمالًا لا يُستدرّ بالعاطفة بل يُكتشف بالبصيرة.

تقييمٌ نقدي

يُثبتُ الدكتور حاتم جوعيه في هذا الديوان أنهُّ شاعرٌ يُراهنُ على الصدق أكثر من الدهشة، وعلى الصفاءِ أكثر من التعقيد.
يجمعُ بين النَفَسِ الرُّومانسي والميلِ التأمُّلي، ويُعيدُ إلى الشعرِ العربي الحديث بعضًا من وَهجهِ الإنساني الذي كاد يضيع في متاهةِ التجريب اللفظي.
نعم، يمكنُ القول إن جنون الحب هو ديوان الحب الناضج — لا حب البدايات، بل حب الحكمة بعد التجربة، حيث تصير المشاعر رؤيا، ويصبح الجنون طريقًا للوعي.

في الختام

إنَّ ديوان جنون الحب عملٌ يكرّسُ الشاعرُ حاتم جوعيه كأحد الأصوات التي تؤمنُ بأن الشعر ما زال قادرًا على الإنقاذ، على تهذيب الإنسان وإضاءة روحه.

قصائده تشبه صلاة الجمال في زمنٍ فقد صوته الداخلي.

إنه ديوانٌ يذكّرنا بأن الكتابة ليست ترفًا، بل نجاة، وأن الحب — مهما تبدّل العالم — يظلّ المعنى الأعمق لوجودنا.
“إن لم نُجنّ بالحب، فلن نُشفى بالحياة.”


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى