دوبرمان المخزن
أول مرة التقيت فيها دوبرماناً –بالنصب اللازم للمفعول به- كان ذلك في طريقي إلى الإعدادية. رأيته يختال في مشيته في شرفة إحدى الشقق الفاخرة والواسعة في شارع محمد الخامس. مدينة الرباط حينها كانت مدينة البيوت القديمة والفلل الواسعة المشجرة في الأحياء الشعبية.
كان ذلك قبل ظهور العمارات وبدء هجرة بعض المفقرات الطامعات في ريالات السعودية ودنانير البحرين ودراهم الإمارات، فنظام النهب عندنا يدفع النساء لامتهان المهن السهلة وفتح أيديهن للتسول أو أرجلهن خارج إطار الزواج للأجانب مقابل العملة الصعبة، وحين يَعدن إلى أرض الوطن، يخرجن في مظاهرات ضد الشعب ليصدحن بذات الأصوات التي سخرنهن في الخليج للغناء واللهو: عاش الملك.
قالها حينها جدي ذَات صباح قبل موعد الغذاء وهو جالس أمام الدار على الكرسي الخشبي الصغير الذي صنعه نجار الحومة بأربعين ريالا، قد مد رجليه لشمس الضحى الحارقة لعلها تدفئ ركبتيه: "هذه العمارات الدخيلة -على الأحياء الشعبية- حيث يقطن الناس في علب أعواد الثقاب لن تأتي سوى بالشر".. لم أكُ أعي معنى ذلك الشر تماما، لكني كنت واثقا في حكمةجدي الذي يُقال إنه رفض شراء ضيعة في طريق زعير من أحد المستعمرين الفرنسيين وقد عرضها عليه بأبخس الأثمان قبل رجوعه إلى بلاد موليير، مؤمنا أنها حرام، وأنها تعود للشعب، ليكتشف بعد الاستقلال أن المخزن منحها مجانا لأحد وجهائه.
كان الدوبرمان مخيفا، مفزعا في الطريق إلى الإعدادية، في غُدوه ورواحه، قارعا قيوده الحديدية في شرفة العمارة القديمة في شارع الأثرياء، أسودا، مرتفع القامة رهيب الهامة، نظراته شزرة، ولنباحه المتفرق صدى مُدَوٍّ يغلب على محركات الديزل لسيارات الأجرة البيضاء القديمة القادمة إلينا مِن بلاد ألمانيا الصنديدة . ربما كان أول دوبرمان بالمدينة، ولا شك أن صاحبه كان يود إعلام الجميع بامتلاكه دوبرمان نادر وقوي بوضعه في شرفة تطل على الشارع الرئيسي لعاصمة المملكة.
ربما كانت تخطر على كل عابر بالغ من أمام العمارة : ماذا لو فك الدوبرمان قيوده الحديدية ونزل إلى الشارع، ما مصير ضحاياه؟ كثيرون كانت تخونهم الجرأة للمرور على الرصيف ، مفضلين مزاحمة السيارات خشية مواجهة خطر محتمل.
أما نحن الصغار الحالمون فكنا نحلم بترويض الدوبرمان.
كبرنا وكبرت صورة الحيوانات المفترسة في حياتنا المرئية، مُجسدةَ الأفعال في السلطة القائمة، فكم قائدا مرتشيا فظّا شُبّه بالضبع، وجُمركيا يسلب النساء أموالهن وبضائع تجارتهن بالغول، وضابط شرطة مستبد شُبِّه بالخنزير، ومحققا مقَنعا بالحنش. لماذا تبدو وجوه ذوي البذلات الرسمية في دولة القمع بشعة، فقد يكون الواحد منهم وسيما وبمجرد أن ينضم لصف الجلاد يبدأ محياه في فقدان النضارة والدماثة والحياء، لتنفره النفوس، ثم ينتهي به الأمر ليكره نفسه.
تجلت كل الحيوانات المفترسة الذميمة، إلا الدوبرمان تأخر قليلا، ثم ظهر في الريف، أطلقوه عليه، فعض وعض حتى أدمى قلوب العائلات، وأما المناضلين فما زادهم إلا إصرارا وثباتا.
كبرنا، ومازلنا كالأطفال نحمل أحلامنا الصغيرة بترويض الدوبرمان، وقد هرم الدوبرمان، كم يكفيه من العض حتى تتساقط أنيابه الأخيرة، إنه يُخرج ما تبقى من سُعاره، يلفظ أنفاس الاحتضار، فقد نزل من شرفة الهيبة والوقار.