دم طازج
أول من فعلها هم أصحاب ذلك البيت الطيني على أطراف القرية. في البداية لم يفهم أحدٌ ما يحدث حولهم. كل أسبوعٍ يعود أصحاب هذا البيت محمَّلين بأكياس الطعام الكثيرة، في حين أنَّ بيوت القرية، كل البيوت، شبه خاوية، إلا من كسرات خبز يقتاتون عليها.
منذ فترة، ليست بقليلة، وأهل القرية يعيشون على الخبز والماء؛ لذلك فالكل كان يراقب بدهشة، كل أنواع الطعام الأخرى التي تقفز داخل ذلك البيت كل أسبوع. يراقبون بحسد وغيرة، يقضون أول ستة أيام في الأسبوع في إعادة سرد أنواع الطعام المنسية التي شاهدوها وهي تمر أمامهم، كذكرى جميلة من حلم قديم. البعض أحيانًا يتبارز ويدخل في جدال، على ما إذا كان الكيس الذي يحمله الأب فاصوليا أم كوسة. كل طرف يقسم إنه ما زال يذكر شكل الفاصوليا أو الكوسة. في اليوم السابع، من كل أسبوع، يخرج كل أهالي القرية، يقفون في صف واحد على أطراف المدينة، ينتظرون عودة الأسرة من رحلتها السرية، يلمحون، من بعيد، أربعة أشباح هزيلة تتقدم في بطء: أب وأم وابن وابنة، تسبق خطواتهم روائح الطعام الشهية، تطير لأنوف الأهالي فتُسكرهم، وتهيج بطونهم الفارغة. أحد الأطفال، ذات مرة، قال بصوت عالٍ: «دي ريحة لحمة مشوية». ظن الأب أن لحسة أصابت رأس ولده، فجذبه بعنف من جلبابه للوراء، أخضعه لاستجواب فوري، عن كيفية معرفته برائحة اللحم المشوي، في حين أنه هو نفسه لم يتعرَّف إليها. أجاب الولد، بخوف، أنه جرَّب ذات مرة أن يتعرَّف إلى تلك الرائحة التي طالما سمع عنها من أحاديث جدته، فأحضر جزءًا مقطوعًا من قطة متعفنة وألقاه في النار، وأشبع صدره برائحة الشواء العفن الجميل، ومن يومها والرائحة لا تفارق باله، أُعجب والده بذكاء ابنه الفطري، ووعده أن يكرروا التجربة مرة أخرى مع العائلة مجتمعين.
يومًا بعد يوم، كانت الحيرة تطير بعقول أهل القرية، كان لديهم اعتقاد راسخ أنه في خلال أسابيع قليلة، سيتحوَّل شكل تلك الأسرة الصغيرة إلى كومة من اللحم المتحرِّك، وسيزداد بروز بطونهم فيما كان يُعرف قديمًا بـ«الكرش»؛ لذلك لفَّت رؤوسهم من التفكير، وهم يرون عكس ذلك هو ما يحدث. معظم أهل القرية أصحاب عود رفيع، غابت الدهون عن معظمهم، الخبز والماء رسما خريطة تلك الأجساد. لكن شيئًا غريبًا كان يحدث لتلك الأسرة. كانت أجسادهم تزداد هزالًا وضعفًا يومًا بعد يوم. وكأن كل تلك الفترة كانوا يأكلون الهواء. برزت عظام أجسادهم، حتى كادت تقطع الجلد. بل إن أحد أهل القرية أكد أنه آخر مرة مروا فيها، شاهد عظم كتف الأب وهو يقطع الجلد بالفعل، بل سمع صوت القطع أيضًا، صوت يشبه تمزق القماش، لكن العجيب أنه لم يرَ أي دم يسيل. بل شيء آخر نزَّ يشبه الماء، أو ربما هو ماء بالفعل.
شغلت تلك الحالة أهل القرية، الحالة الغريبة التي تحدث للأسرة، التي أصبحت مجرد عظام متحركة، تزحف بدلًا من أن تمشي. في اجتماعهم اليوم، قال أحدهم إن السبب هو هذا الطعام: «أكل ملعون، ينزل في المعدة يهريها». وأوضح نظريته بأنهم ربما يحصلون عليه بطرق مشبوهة؛ لذلك فهو لعنة عليهم. وظهرت نظرية مضادة من واحدٍ آخر، مفادها: هري البطون بدلًا من الموت جوعًا، إذا كان الموت في النهاية متحققًا، فما الفائدة من موت الإنسان خاوي البطن؟! وفي نهاية اليوم، قرر الأهل إرسال جاسوس صغير خلفهم، يستطلع ويبدي المخفي.
زرعوا الولد من الليل، زرعوه خلف البيت الطيني، تستَّروا في الظلمة وتسللوا، وبجانب الشجرة الضخمة، خلف البيت، سمروه. وكان الولد نبيهًا وذكيًّا، تسمَّر في الأرض ولم يُبدِ أي صوتٍ حتى الصباح، ولم يلاحظ أيٌّ من أفراد الأسرة، الذين خرجوا يزحفون، مع أول خط ضوء يشق الليل، أن طفلًا صغيرًا يتبعهم في خفةِ ورقةِ شجرةٍ. تبعهم حتى خرجوا من القرية، ووصلوا إلى الجبل، وداروا حول الجبل، وزحفوا وراء الجبل ساعتين، حتى وصلوا إلى عربة ضخمة، تقف وسط الصحراء، وبجانبها مقاعد خشبية، موصولة بها أنابيب رفيعة، تنتهي وتختفي عند بطن العربة. وقف الولد خلف نخلة ضخمة يراقب في ذهول، رأى بعض الأشخاص ينزلون من العربة فور وصول الأسرة، يُجلسونهم على المقاعد الخشبية، يوصلون بهم الأنابيب، ويشفطون الدم من الأجساد. وفي النهاية يسلمونهم أكياس الطعام الشهية، التي ضربت رائحتها رأس الولد فداخ قليلًا، قبل أن يسحب نفسه ويطير لأهل القرية يبلِّغهم ما رآه.
انتشر السرُّ بين البيوت، وجرى الريق على الألسنة، الكل يحلم، والرائحة تداعب الصبايا والنسوة في الليل، فتزحف أياديهن في الظلمة تداعب أجسادهن الجائعة، يستحضرن الروائح التي دوَّختهن الأسابيع الفائتة، روائح شهية لأطعمة غير معروفة، لكنها كافية لتهييج البطون والعقول، الروائح تصعد للرأس والأيادي تنزل لأسفل، حتى الصباح، تختفي الروائح، وتهدأ الأجساد.
قرر رجال القرية عدم الذهاب إلى ذلك المكان، واتفق الكل على ذلك. لكن إحدى النسوة، التي لم تهدأ أبدًا، بعد ليل طويل مع الروائح، أقنعت رجلها أن يذهبا سرًّا. تسللا وذهبا في الخفاء، لكن الروائح فضحتهما، تسربت للبيوت المجاورة، سحبت معها للخارج كل أنف تسكنه، وفي اليوم التالي، كانت النسوة يدفعن الرجال دفعًا للذهاب، فخرجت أشباح كثيرة تركض تحت ستارة الليل.
ثقلت البطون، وعمَّ الجميع شعور الشبع. الكل الآن يعرف طعم اللحم، ويعرف عدة طرق لطهوه، وأطعمة أخرى كثيرة، صار الحديث عنها هو كل ما يدور مع أكواب الشاي في اجتماعات أهل القرية، الذين أصبحوا بعد كل صباح يزدادون ذبولًا وهزالًا، دون أن يلاحظ أحدٌ ذلك. الوحيد الذي لاحظ هو ذلك الشاب الذي رفض الذهاب أو دس أي لقمة في فمه، كان يرى أن هذا الطعام شرٌّ ولعنة. كان يلفُّ كل مساء على البيوت، ينصح الناس، وبيده مرآة، يريهم أشكالهم بها، وكيف أصبحت. وفي الأغلب، كان يُقذف أو يُركل. لم يستمع إليه أحد.
أيضًا لم يهتم أحدٌ أو يبالِ بما حدث مع أسرة البيت الطيني، أول ناس فعلوها. كانت الشمس حارة، تلفح الأجساد والرؤوس، وكانت تلك الأسرة عائدة من رحلتها – التي لم تعُد سرية منذ زمن – الأخيرة. العرق ينز من أجسادهم، والأب يسحب الأكياس بصعوبة، وخلفه باقي الأسرة، تزحف فوق التراب الملتهب، يزحفون خطوة، وتقع رؤوسهم على الرمال مجهدةً في الخطوة الأخرى. بعد عدة خطوات، سقطت الرؤوس للأبد. كان يراقبهم، من بعيدٍ، بعضُ أهل القرية، الذين فطنوا إلى النهاية المحتومة، وما إن همدت الأجساد، حتى أخذوا يركضون، قفزوا على الأكياس، فرحين بالجرعات الإضافية المجَّانية، تاركين مهمة التخلُّص من عظام الأسرة لطيور جائعة تحوم في السماء.
أسبوع تلو أسبوع، أخذت الأجساد تسقط، ولا أحد يهتم، لا أحد يبالي. كان الكل مستمرًّا في الجري وراء الأكياس الشهية، وكانت العربة مستمرة في شفط الدم، حتى وَجدَ ذلك الشاب - الذي رفض دسَّ أي لقمة - نفسه وحيدًا. اختفت رائحة الأطعمة الشهية، وحلت مكانها رائحة الموت، والأجساد المتعفنة. كان يسير وسط الأجساد، والحزن يغلبه، لا يدري ما يفعل.
وذات صباح غائم، سار ذلك الشاب حتى وصل إلى الجبل ودار حوله، ووصل إلى مكان العربة الضخمة، جلس على الكرسي الخشبي، مد ذراعه اليسرى أمامه، ورفع كفه اليمنى، ليمسح دمعة هاربة، حاول ألا يفلتها، وهو يرى الدم الأحمر الطازج وهو يجري في الأنبوب، ليختفي في بطن العربة.