دموع في موسم جاف
دموع لا تجف، وقلب يحترق بنار الحيرة التي سكنته وأبت أن تفارق روحه ، فأصبح يسير كسفينة في بحر هائج ، يبحث ربانها عن نقطة أمل توصله إلى بر الأمان ، بعدما نسي من شدة هيجان البحر أن يبتسم ، وهو الذي لم تفارق البسمة شفتيه يوما...
كان جسم محمد يرتعش كمن أصابته حمى الأنفلونزا ، وعينيه محمرتين كالجمر ، أما عقله فكان أشبه بحلبة ملاكمة ، تتزاحم بها التساؤلات، فيبادر كل سؤال لتوجيه ضربته القاضية لعقل محمد ، هذا الأخير ظل عاجزا عن مواجهة ضربات التساؤلات المحيرة، وعلى غير عادته توقفت حواسه عن العمل ، فلم يعد يحس سوى بألم يخنق صدره ، وكأن ساعة نهايته قد حانت...
كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف ليلا، وهذا الوقت ليس بغريب عن محمد ، فمنذ لقائه بقمر والمسكين لم يعد يفرق بين الليل والنهار، إذ لم يعد يتحدث سوى عن محبوبته ذات العقلية الجميلة ، والإبتسامة الرقيقة التي حركت كيانه ، فأصبح أسيرا لحب قمر المتربعة على عرش قلبه ، متمنيا الموت على فراقها...
وقمر تلك الشابة ذات البشرة البيضاء ، والتي تتلون بالأحمر من شدة الخجل ، بادلته نفس الشعور كما ظن من تصرفاتها ، فبدأ يرسم أحلامه ، بعدما تلامس روحه روحها في كل لحظة ، فيتمنى أن لا تترك يده يدها إلى الأبد ، ليرسما معا قصة عشقهما ، فأقسما أن يكونا معا في السراء والضراء أوفياء لبعض ، ومن شدة حبه لها وضع خاتم زواج في أصبعه ، ووعدها أن الخاتم سيظل في يده كعربون عن إخلاصه لها...
إستمرت قصة حب أشبه بحلم أسطوري لأيام ، تمنى محمد ألا يستفيق منه ، فبدأ يحس بمسؤولية كبيرة تخنق أنفاسه ، فعليه أن يؤمن لقمر حياة سعيدة ، لكن وفجأة تتهدم الأحلام وتتساقط كالأشلاء أمام عينيه ، فمن أحبها رحلت وتركته يصارع بين قلبه الذي يرفض أن يخفق بدونها ، وعقله الحائر ، ودون أن تتحدث كثيرا لتروي ظمأ حيرته ، رحلت وتركته يتألم ويتحسر على رحيلها ، وهو الذي يرفض من نار حبها أن يستقيل ، فبدأ يبحث عن سبب يجعلها تنساه بهذه الطريقة، وحتى هذه المرة خانه عقله ولم يقدم له جوابا مقنعا...
طاردته الكوابيس ، وأصبح تائها لا يعرف طريق النور ، ففضل أن يعيش بين الظلام ، بعدما كان لا يخشى علو الجبال ، فضل أن يعيش وفي قلبه غصة قاتلة ، تحرمه من العيش بسلام ، فلم يجد مفرا سوى الإستسلام لنار الحيرة إلى أجل مجهول...
كان محمد الحائر يتألم ، فيلعن الزمن الذي لا يحلو له الرقص إلا على أشجانه ، فيسير في طريقه في الحي عله يجد جوابا لحيرته ، قد يجد الجواب عند أحد أصدقائه أو قد يجده مكتوبا على أحد الجدران ، أو قد يجده...
نفس الوجه الكئيب يسير كل مساء ، تائها لا يعرف وجهته ، والجراح في قلبه كمرض مزمن يرفض أن يغادر قلبه ، لكن محمد بشدة إيمانه ، ومع كل صرخة ألم يقول :
– الحمد لله ، هو الذي يعطي ، وهو الذي يأخد ...
وفي مساء أحد الأيام يلتقي محمد صديقه خالد ، هذا الأخير دهش عند رؤيته لوجه صديقه ، الذي يبدو أن الأرق أخذ مأخذه منه ، والإصفرار يطغو على ملامحه ، فسلم عليه وأخذا في تبادل الحديث...
سأل خالد صديقه محمد:
– ما بك يا صديقي؟
– فأجابه محمد : لاشيء
لكن خالد كان يعي تمام الوعي ، أن هناك مشكلة تقهر صديقه ، الذي يعد بالنسبة له ككتاب مفتوح ، فهو يعرف كل أسراره ، وكعادته وبإبتسامته الدائمة يقول لمحمد : *أ هو حب قمر يا قمر؟ ما الذي حصل ؟ فأنت تحبها وهي تحبك.
فيجيبه محمد خارجا عن صمته :
– لا أظن أنها تحبني وإلا ما كانت لترحل ، وتتركني أسيرا للحيرة ، حتى أنها لم تحمل نفسها عناء الإتصال بي.
– خالد: نعم كنت أقول لك دائما ليس هناك أي فتاة تستحق الثقة.
– محمد: لكنني أحبها بكل جوارحي .
– خالد : عن أي حب تتحدث لو كانت تحبك لَتحدت العالم من أجلك ، حتى عائلتها لن تكون قادرة على إيقافها، لو أحبتك هل كانت ستتهرب منك بهذه الطريقة ، على الأقل كانت ستصارحك بكل ما وقع ، لو أحبتك ما كانت لتتركك تتعذب ، عليك أن تنسى قمر.
– محمد : لا أقدر على نسيانها فهي تعيش في قلبي و روحي ، بل تعيش بين ضلوعي ، إنها تعيش بين أنفاسي...
– خالد : أرجوك يا محمد هناك الكثيرات يتمنين كلمة منك ، فاختر واحدة منهن ، لتكون شريكة حياتك.
– محمد : لا أريد سوى قمر ، أنا أحبها ولا يمكنني أن أخونها...
استمر الحديث بين خالد ومحمد ، وكان صدر هذا الأخير يغلي على نار حارقة ، أما قلبه فكان يعزف سمفونية ألم عجز موزار وبتهوفن ، عن صنع مثيل لها ، سمفونية تمزج بين حيرة عقل لا يجيد سوى طرح أسئلة بلا أجوبة ، وقلب مجروح ينتظر مخلصته من العذاب ، فقرر أن يعيش وفيا لقمر التي أحب أول مرة ، راجيا من الله أن يجد في أحد الأيام جوابا لأسئلته ، وكانت الدموع تهطل من عينيه بغزارة رغم أن الموسم موسم جاف...