الثلاثاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٤
بقلم حسن عبادي

دمشقيَ

ناقشنا في لقاء "منتدى حنا أبو حنا للكتاب" الشهري الأخير (تأسس في كانون الثاني عام 2009) رواية "دمشقيَ" للكاتبة سعاد العامري (رواية، 302 صفحة، تصميم الغلاف والإخراج الفني: الناصري، ترجمها عن الإنكليزية مع الكاتبة: عماد الأحمد، مراجعة وتنقيح وبحث وتحرير: عارف حجاوي وزياد عبد الله، إصدار منشورات المتوسط-ميلانو-إيطاليا).

تصوّر الرواية حياة عائلة دمشقيّة أرستقراطيّة، ربّانها "جدّو" نعمان البارودي الذي كان صاحب مصنع للأخشاب وآخر للثلج وصار أحد أغنياء دمشق، وصاحب قصر البارودي، أحد أهم معالم دمشق القديمة. يتزوّج نعمان من بسيمة، وهي فتاة فلسطينيّة من عائلة عبد الهادي/ قرية عرّابة جنين، ابنة الخامسة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والثلاثين، ورزقا ثلاثة أبناء وخمس بنات، أصغرهم سامية، أمّ الراوية.

انقطعت بسيمة عن أهلها مدّة ثلاثين عاماً، حضر أخوها إبراهيم ليرافقها إلى قرية عرّابة بسبب مرض أمّها، سافرت معه، هي وطفلتها سامية، حين وصلت وجدت أنّ أمها قد ماتت. تعود إلى دمشق بعد شهرين لتكتشف أن زوجها نعمان قد ضاجع ساجدة، الخادمة، وحملت منه.

وصفت الكاتبة دمشق وعظمتها؛ عبر وصفها لقصر البارودي الذي كان مسرحًا لأحداث كثيرة في الرواية، وضمّ أربعًا وعشرين غرفة وجناحًا من مختلف الأحجام والأشكال. وتقع معظم غرف الاستقبال والصالونات وقاعات الطعام ومناطق الخدمة حول الفناء والليوان شبه المفتوح في الطابق الأرضيّ، أمّا الطابقان الثاني والثالث فكانت فيهما غرف معيشة عائليّة مختلفة، وغرف نوم، وشرفات مفتوحة.

ووصفت المطبخ الشامي؛ خاصّة وليمة يوم الجمعة، والمأكولات الشاميّة كالبسمشكات (شرائح رقيقة من اللحم مخيّطة على شكل أكياس مستديرة، تُحشى بالأرز واللحم المفروم واللوز المقلي)، والكرشات والكوارع المحشوّة بنفس الموادّ، اليبرق (ورق العنب الملفوف) والكوسا المحشوّة، أنواع اليخنة المتنوّعة، المنزّلة، والمشاوي من لحم البقر ولحم الضأن والدجاج، الأوزي، ناهيك عن المقبّلات المختلفة كالفتّوش والشنكليش، الفتّة باللبن، المتبّل والبابا غنّوج، السجق الأرمني والنقانق واللحم بعجين، وأصناف الكبّة السبعة الأكثر لذّةً وشعبيّة، والسلَطات على أنواعها، الكبّة النيّة برِفقة العرق، وغيرها.

تتناول الكاتبة الحياة العائليّة والاجتماعيّة والاقتصادية والتحوّلات التي مرّت بها بلاد الشام؛ الكساد الكبير واندلاع الثورة الفلسطينيّة عام 1929، انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، وسلسلة الانقلابات المتتابعة كالانقلاب البعثيّ عام 1963، وعام 1966، النزاع العربيّ اليهوديّ في فلسطين منذ تصريح بلفور.

تناولت الخذلان والتعاون مع الغريب المحتلّ عبر السنين عبر مساعدة بعض أبناء العائلات الغنيّة له، مثل حسين بك عبد الهادي من قرية عرّابة الذي قبض ثمن تعاونه وشقّ صفوف الفلاحين وسحق ثورتهم ليصير حاكما لمعظم فلسطين، وكان له قصر في عرّابة، وآخر في نابلس، وثالث في حيفا.

تتناول مكانة المرأة في المجتمع العربيّ التقليدي آنذاك؛ تُرغم الفتاة على الزواج صغيرةَ السن، دون أن يُؤخذ برأيها، مثل بسيمة التي تزوّجت وهي قاصر، وانقطعت عن أهلها، ولا يُسمح لها بزيارتهم إلّا إذا رزقها الله بطفل ذكر ليكون وريثًا، ولا تستطيع المرأة السفر إلى أهلها وحدها، إذ لا بدّ من أن يرافقها رجل من محارمها، وتُحرم الطفلة من الذهاب إلى المدرسة بسبب الفقر، وكذلك المهر (المعجّب والمؤجل)، طقوس الزواج وحفلاته وتوابعها، تعدّد الزوجات وغيرها.

راق لي دور نورما، ابنة كريمة (العانس) المتبنّاة (هرّبها وسيم المقدسيّ إلى دمشق). تحاول الانتحار، وتُصرُّ البحث عن أمّها البيولوجيّة (ولدت في مستشفى الدجاني المقدسيّ، وأمّها لمياء الحِمصي من حيفا)، علاقتها بمراسل تلفزيونيّ سوريّ، كتابتها لمسرحيّة "اللقيطة"، استقرارها في الدوحة، مرض أمّها (المتبنيّة) ثمّ موتها لتدفن في بيروت وقد شارك في جنازتها ثلاثة أشخاص فقط، ودور ليلى السحاقية.

كما وتناولت العبوديّة؛ كان للعائلة ثلاث خادمات؛ ساجدة (والد ساجدة لم يستطع سداد دينه لجدّو نعمان، فقايضه بابنته لدفع ديونه)، غالية (مُنحت "هديّة زواج" لجدّو نعمان من شقيقته في مدينة جدّة، بعد أن بيعت هي وأخواها في سوق النخاسة)، وفاطمة (أُرغمت على الزواج وهي في سنّ العاشرة من رجل يكبرها بسنوات كثيرة، فهربت من زوجها ووصلت إلى القصر فجأة وهي تحمل طفلها محمّد بين ذراعيها).

تتناول الرواية ظاهرة الطبقيّة، فالعائلات الغنيّة في دمشق لا تزوّج بناتها إلّا من أبناء الأغنياء، كعائلة القبّاني والجمّال وغيرها وكذلك الأمر في نابلس وعرّابة، فعائلة عبد الهادي لا يتزوّجون من الأسر الفلاحيّة بل من أبناء العائلات الإقطاعيّة الأخرى في الريف الفلسطينيّ كعائلة القاسم والجيوسي من قرية كور، ممّا يوسّع الهوّة الاقتصاديّة بين طبقات المجتمع، تماماً كزيجات المصلحة في عالمنا، والتزاوج بين العائلات الملكية في أوروبا على سبيل المثال.

تناولت العادات والتقاليد؛ وضع خرزة زرقاء وتميمة حول عنق الطفل الذكر من اليوم الأوّل، حمايةً له من أعين النساء العاقرات، ضرورة خلع الحذاء قبل الدخول إلى المنزل (تماماً كما لمست الأمر في السويد والنرويج وغيرها).
طعّمت الكاتبة الرواية بثقافة غربيّة، بدت إقحاماً في غالبيّتها؛ فوصفت جمال أمها: "تمتّعت أمّي بالجمال، وقيل إنّها تشبه آفا غاردنر (الممثّلة والمغنّية الأمريكيّة) كانت (أمّها) بيضاء، شعرها بنّي متموِّج، وعيناها خضراوان"(ص. 66)، أوبرا عايدة، الروائية إميلي برونتي، الروائي نابوكوف ووليمة (La Grande Bouffe).

راق لي توظيف السخرية "وهكذا أصبحت صفيحتا زيت الزيتون صلةَ الرحم الوحيدة بين عائلتَيْ عبد الهادي والبارودي، وحتّى نكون أكثر دقّة؛ بين تيتة بسيمة من جهة، وعائلتها وقريتها وفلسطينها من جهة أخرى"(ص. 93)، "نعم، لكنّهم لو كتبوا هذه الكتب المدرسيّة بالطريقة التي كتب بها نابوكوف لوليتا، لرأيتَ إلى أيّ مدى ستصبح الكتب المدرسيّة مثيرةً، وسوف أكون الأولى في صفّي".

جاءت لغتها سلسة مطعّمة باللغة المحكيّة حيناً، وبالأمثال الشعبيّة مرّة أخرى؛ وحواراتها جميلة؛ "اللي بيتجوز شامية بينام نومة هنية"، "شيئان يمران مرور الكرام، تعريصة الغني، وموت الفقير"، "اللّي بِيْتُو مِن إِزَازْ، لا يِرْمِي النَّاسْ بالحْجَارْ"، "فيوزي ضارِب".

لفت انتباهي اسم الرواية، فهي تحمل اسم دمشقيَ، أي دمشق التابعة لي أنا، فوجدتها دمشق كلّ دمشقيّ، بل كلّ عربيّ أيًا كان.

بدت لي الرواية سيناريو يصلح لمسرحيّة أو فيلماً رائعين.

برعت الكاتبة بتصوير المشهد الجنسيّ الساخن ليلة الدخلة (ص. 32-33)، ووصفها ممارسة الجنس ليلة الدخلة "لذيذة وشهيّة مثل الكبّة اللّبنية"، طقوس تناول الكحوليّات، صبايا ورجال بأريحيّة وعفويّة، العلاقات الجنسية ع الطالع والنازل بتلقائية، وتصوير طاولة المشروبات المسائية النسائية؛ مقبّلات وعشرون صحناً مليئة بالمكسّرات، والفواكه المجفّفة، والفواكه الطازجة، والخضار الطازجة، والفطائر (بالسبانخ والجبن، والمحشوة بالجبن النابلسي) وطبق أجبان، وأنواع المشروبات الروحية كلها التي يمكن أن يتخيلها المرء، جنّ وتونيك، نبيذ أحمر (بارلو الطلياني المفتخر) وغيرها (ص. 282-283).

العناوين الفرعيّة جاءت متناسقة مع أحداث الرواية، سيمفونية انسيابيّة رائعة؛ تيتة بسيمة وجدّو نعمان، زيارة مفاجئة، قلوب محطّمة، سامي: الفضيلة المؤلمة، سامية- القدس 1946، سامية وعمر (أمّي وأبي)، قوّة المال، بيت جدّو نعمان، يوم الجمعة في بيت جدّو (أطول يوم في التاريخ)، الطفلة المقدسيّة، ليلة زفاف فاطمة/ الصفقة، وليمة يوم الجمعة في بيت جدّو، التسلسلات الهرميّة للعائلة، الوصول إلى وليمة يوم الجمعة، جلسات العلاج النفسي، قائمة طعام الوليمة الكبرى، ليس قبل وصول جدّو نعمان، الزيارة، هديّة زفاف، دمشقيَ (1957-1962) أنا ونورما، أربعينية جدّو نعمان، الراء الضائعة، جنّة ونار، حمام السبع زوام، ماتريوشكا نورما: مجموعة من القصص المتشابكة، شحنات الصيف، نكون أو لا نكون، العودة إلى شاطئ البحر، اللقيطة، مسرحية مَن كانت؟ ما بعد المسرحية، دمشق 1970، وتمضي شهرزاد، الأمّهات، إعصار نورما.

كانت هناك على الأقل ثلاث شخصيات في العائلة تقف على الحدود بين الواقع والخيال: سامية (والدة الراوية)، الخادمة فاطمة ونورما المتبنّاة.

ويبقى السؤال عالقاً؛ هل شعرت الراوية برغبة في إخفاء شيء ما؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى