خلف جدران الصداقة
تبدأ حكايات الصداقات والعلاقات الانسانية بالعادة كقصص الأطفال الخيالية من آخرها بجملة (وعاشوا جميعا بهناء وسرور) لتعود نحو البداية.
عندما نتعرف على أصدقاء جدد في حياتنا نركب قطارا نرحل معه إلى مدن لم نرها ولم نسمع بها لنبدأ بصنع ذكريات جديدة نضيفها فوق أكوام ذكرياتنا. لا شك أنه من الصعب على المرء أن يعيش دون أصدقاء حوله يشاركونه قصص حياته، فيترتب الأصدقاء بالعادة إلى مستويات منهم القريب ثم الأبعد فالأبعد، المقربون بالعادة هم المؤثرون في حياتنا، فهم الذين يعرفون تفاصيل حكاياتنا ويشاركوننا بها، يتصدر اسمهم رأس قائمة تطبيقات هواتفنا ورسائلنا، وكلما صعد اسم غريب آخر فوقها برسالة جديدة، تعود رسائلهم عنوة لتتصدر المشهد وتعلو مرة أخرى فوق الجميع حتى تألفهم هواتفنا نفسها كما ألفتهم قلوبنا.
نحرص على لقائهم دوما كما يحرصون، وعندما نلتقي بهم تدور البدايات المعتادة بأن نسلّم
– مرحبا.
– ليبادرونا بالسؤال .....كيف حالكم؟؟
– فنجيب بابتسامة ارتياح ولمعة سعادة تشع من العين (نحن بخير).
ويبدأ عجل الطاقة المتبادلة بالدوران من خلال قصصهم وأحاديثهم التي نسمعها بقلوبنا قبل عقولنا فلطالما كان المهم هو الرواة.
تتكئ هداياهم في منازلنا كما هي هدايانا في منازلهم، فعمرٌ من الصداقة لن يخلو من مشاركة مناسبات عدة ومال مبذول ووقت مصروف وطاقات ممنوحة.
تنمو الصداقة كما ينمو الأطفال ببساطة شديدة، لا يلزمها سوى بضع سنوات لتصنع نفسها بنفسها فتصبح عميقة دون أن نشعر، فهنا يوما ركبنا الباص سويا بالحر الخانق وأكلنا الكعك عندما لم نجد سيارات تقلنا، وهناك صعدنا الأدراج الطويلة وسمعنا لهاث أنفاسنا ونحن نحمل حقائبنا على ظهرنا، وقبلها اشترينا الهاتف سويا، ودرسنا الأوراق المبعثرة وجمعناها وفرحنا بالنجاح، تهاتفنا دوما عند كل طارئ وغير طارئ، تذمرنا من سوء الأوضاع وحزننا عندما مات الأصحاب، أيام تتوالى وفي كل يوم تفاصيل عادية صغيرة سنتذكر بعدها في تاريخ لاحق كيف أخبرونا في صفوف الابتدائية أنه وجب علينا حفظ جدول الضرب بأعداده الصغيرة ومضاعفات الأعداد لأنهم سيرافقوننا طوال حياتنا.
فرضت الصداقات الافتراضية نفسها مؤخرا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن العاقل يعلم أنها انعكاس جزئي كمرآة السيارة الجانبية لا ترى سوى زاوية واحدة، تعجز عن إعطائك المشهد كله مكتوب عليها (الأجسام لا تظهر بشكلها الحقيقي وكذلك المسافات)، فلن تعرف هنا التضحية بالطاقة النفسية والوقت أو حتى المال.
ما نريده من أصدقائنا بالعادة هو المؤازرة عند الصعوبات والوقوف بجانبنا والفرح المشترك بالنجاحات، التواصل والاهتمام المتبادل، فالحديث العابر السطحي على هامش فنجان القهوة من ممكن أن يطلق عليه أي مسمى سوى "صداقة".
تنهدم الصداقات لأسباب متعددة لها علاقة بالقواعد والأساسات، فإن قامت على الشفقة مثلا أو الحياء، المصلحة، الوصولية، أو المادية حتما سيكون لها تاريخ انتهاء صلاحية كما هو مكتوب على علب التونا، فلا يصمد بالنهاية سوى صداقات الندّية الصادقة.
وهناك صداقات تتأثر أو تنتهي بسبب عوامل كالبعد الجغرافي والزمني الطويل، أو يلقي أحد الأطراف الإهمال عليها لتصبح ثانوية وربما أدنى من الثانوية، فقد تزف للطرف الآخر خبرا فرحا فيتجاهلك، وقد تمرض أو تحزن فتجده آخر الواصلين بتثاقل، وقد تسير الأمور بشكل عكسي فتفرض الرقابة على الكلمات لأنها لم تعد تُحسب ببساطة، أما الغدر والخيانة، فلها باب آخر لا يتسع لها مقال واحد.
الصداقات العقلية البحتة الخالية من أي مشاعر والمتجردة من عباءة الإنسانية نادرا ما تنجح، تماما كالصداقات القلبية البحتة التي تحتاج إلى رفع مستوى مشاعر الطفل بداخلنا ليدخل عالم الواقع.
نسيء إلى أنفسنا عندما ننسى أن الصداقات تقاس بالسقف الذي لا يحتمل أي اختلال في التوازن، سقفٌ عالٍ بجوار سقفٍ خفيض فينهدم الجدار. يقولون أن الاعتذار يصلح الأمور، وكيف لها الكلمات والأحرف الضعيفة أن تجبر جدراناً وخواطر مكسورة.
الزجاجة التي استغرق صنعها عدة دقائق بالمصنع تصدر دويّا مزعجا يسمعه كل أهل البيت لتعلن انكسارها، السيارة التي تستغرق صناعتها عدة أيام أو حتى أشهر ان كانت من النوع الفاخر، تصدر دويا عند الحادث يسمعه أهل الحي، أما الصداقة التي استغرت سنوات وسنوات تنكسر بصمت كبير، فما حاجتها إلى الضجيج والصوت؟؟ فقد اختارت أن تدوي في مكان آخر بداخلنا، فهي تدرك تماما أن هناك خسارات لا خسارات بعدها، تأتي تجر معها الخوف والفقدان وتصادر الأمل فلا نعود نشعر بهم لتخلف وراءها تاريخا من أكوام الرماد.
أصحاب الأحاسيس العالية والأكثر وفاء بالعادة هم (الخاسر الأكبر)، حين تجتمع الأضداد كلها لتجلس على طاولة مستديرة تتساوى عندها جميع الأطراف لتتكوّر جميع المشاعر (الشفقة، الكره، العناد، الكبرياء، القسوة، الحزن، الأسى) فقط لدى طرف واحد، ليأخذ الطرف الآخر معه شعور (اللامبالاة) الذي لا يقبل الشراكة ولا حتى القسمة على أي عدد، ويمضي في طريقه، فنضطر أن نقابل قسوة التجاهل والنسيان بالكبرياء والعزة لنشرب عندها قهوة الفراق، ونبدأ بعدها بعدّ الأيام والسنتمترات، مرّ شهر ويومان، ما حاجتنا إلى العدّ؟؟ ....لا ندري... فلا درينا ولا تلينا، يذكرنا بمقولة: (السفر قطعة من العذاب، والفراق ....العذاب كله).
تعيش الهدايا معلقة بجدران المنازل في حين احترف أصحابها الأحياء الغياب كما احترفنا الانتظار، من قال أن الأشياء أقصر عمرا من الناس؟.
نتقيأ مرغمين، إلا أن هذه المرة ليست ككل مرة، فالتقيؤ عادة يشعرنا بالراحة فقط عندما لا يكون سببا، نغني ونرقص بكل جوارحنا تحت جنح الظلام وفوقه، مخطئ من ظن أن الرقص حكر على السعداء.
تتضافر جميع الظروف لترسم الحكاية المسرحية، فتبدأ أسماؤهم التي كانت تحتل صدارة تطبيقات هواتفنا تندثر للأسفل لا ليعلو فوقها طبقات الكلس، وإنما أناس آخرين منحهم الزمن هذه المرة فرصة للصعود، لنحتفظ بآخر محادثاتنا معهم كذكرى كما فعلنا بمحادثات من غادروا أسوار الحياة، وتحديث التطبيقات مهما كانت اصداراته لن يجعلنا نسير سوى إلى الوراء، فلم يعد هناك قصاصو أثر ليدلونا على أي طريق نصلح به الأحوال، نسير بالشارع فتمطر السماء ليحمل الناس المظلات، ولحسن حظنا لن نشعر مثلهم بالصقيع والبرد لأننا نحمل الشتاء داخلنا والمطر يهطل بشدة في قلوبنا فلم نعد نشعر به على أكتافنا ووجوهنا.
لم يعد بمقدورنا اخبارهم بما في جعبتنا من قصص كنا نتمنى لو بقوا لنرويها، لكن سكت الكلام، هدأت الأصوات وساد الصمت وغفونا لنصحو في نيسان ونهديه كذبة أكبر منه لم يتوقعها، فقد كنا نعيش الوهم بصدق.
أحباؤنا حجر نلقيه بقاع بحيرة يتحول ماؤها إلى دوائر تدفع كل واحدة أختها لتتسع وتكبر حتى تستقر وتتلاشى عند أطراف البحيرة، وتعود لتستوي في ظاهرها بهدوء من جديد، لكن الحجر سيقيم في قاعها أبدا ما أقامت.
وهكذا ما نفتأ نكرر أخطاءنا نحن بنو البشر.
ذكريات وسنوات من العمر أصبحت تثقلنا كالديون المتراكمة، سنوات أصيلة نسجناها من نفوسنا وشرايينا، نمت كما الأطفال، سبقتنا كرامتنا تجري أمامنا فلم يعد بمقدورنا إعادتها لأصحابها أو مساومتهم عليها، فنقصد السوق، سنوات أصيلة للبيع، نبيع فمن يشتري؟؟ نشتري بها النسيان، النسيان الذي طالما كان عدوا وصديقا في آن واحد، يتلوّن كما البشر، فهو الذي طوانا منسيين وآلمنا، عاد وارتدى حلة صديق جديدة وجاء ليحتضننا ويعدنا بأننا سننسى يوما ونشفى.
قصص الصداقات مستهلكة ومكررة منذ قديم الزمان إلا أنها تعود للظهور تماما كما تعود موديلات ملابس السبعينيات للتكرار وكأنها لم تُلبس من قبل، الغريب أنه لماذا نوقع اتفاقيات قانونية مكونة من (الطرف الأول) و(الطرف الثاني) لنضمن سلامة الأطراف لعمل مهني يستمر أقصاه سنتين أو ثلاث، في حين لا نوقع اتفاقية بين الأصدقاء الذين يستمرون لسنوات وسنوات يتحمل أحد من الأطراف الخسائر لوحده في نهايتها دون أي غرامات على الطرف الآخر!!
بقيت هداياهم في مكانها في حين هاجرت أسراب الحمام، أخذت الجدران تدريجيا اللون الرمادي حتى شملت المدينة، انطفأ فجأة ضوء الشمس وحل الظلام ، سقطت النجوم المعلقة من أماكنها وتوقف عجل الطاقة الذي طالما دار لسنوات.
سلال الفاكهة وصخب الباعة وأصوات الناس لا زالت كما هي، نلتقي أصدقاءنا بالطريق صدفة لنبادر بتحية
– مرحبا
– ليبادرونا بالسؤال .....كيف حالكم؟؟
– فنجيب بابتسامة لا كالابتسامات (نحن بخير).
سحر الأصدقاء ينبع من دواخلنا بفكرة نزرعها ونرويها، ولم تتعدّ كونها -فكرة- استقرت في الأذهان حتى سقطت نحو القاع ولم نقتلعها حتى نشفى منها..... لتتجلى الآية الكريمة وتعلو فوق كل شيء (ما عندكم ينفد، وما عند الله.....باق).