حيلة
قطـّعت ورد حبل أفكاري التي لم تكن إلا اللحظة قد بدأت تحتل مواقعها وتنتظم.
لا عليك يا ورد... بئس الأفكار جميعها وساءت منقلبا،ومنطلقا أيضا. فأن تستيقظ ورد في مثل هذه الساعة الليلية، تصرخ مذعورة، حدث لعمري غير عادي. لا بد أن طارئا وجيها، بل ذميما، قد حل بها فتأذ ّت صحتها، الجسدية أو النفسية سيان. إما أن يكون أصابها سوء جسماني فآلمها، وإما أن تكون تعرضت لمكروه أفزعها في النهار فظهرت نتائجه الآن.
رميت أوراقي التي تعبت في ترتيبها وتصنيفها، ثم هرولت إليها. حاولت تهدئة روعها واستكناه ما ألمّ بها. لم تكن مريضة. سقط أحد الاحتمالين فشعرت بشيء من الإنفراج. وهل الإحتمال الثاني أقل وطأة؟ زجرت نفسي عن هذا الإطمئنان الذي استدركت، على الفور، أنه سابق لأوانه وفي غير محله.
ـ هل أنت خائفة، بابا؟ ما الذي أخافك؟ هل كنت تحلمين؟
ـ احك لي قصة! صدر الأمر دونما أدنى اكتراث بالأسئلة الثلاثة التي عرضتها عليها، محاولا توجيه الإجابة إلى ما يثبت صدق توقعاتي ويرضي غرور ذكائي.
ـ لا يجدر بي أن أضغط عليها الآن لتحكي، فالصباح الرباح سيأتينا بالكلام المباح.
ـ احك لي قصة! ألحـّـت.
ـ أية قصة؟
لم تفكـّر مرتين: قصة عمو كمال والكلب!
دب الرعب في قلبي. لا بد أن صدمة الكلب قد عاودتها.
كنا، هي ابنة السنة وأشهر معدودة، أمها وصديقين حبيبين نفترش العشب الأخضر على "شاطئ دادو" في حيفا، عز الظهيرة في يوم صيفي ولم يكن ثقب "الأوزون" يثير في الناس ما يثيره فيها من مخاوف اليوم. كانت ورد تلعب بطابة صغيرة، وكنا نحن نلعب بكؤوس بلاستيكية لا تفرغ من نبيذ، لم يكن فاخرا لكنه كان لذيذ المذاق مضاعف التأثير، بفعل أشعة الشمس وحرها. تدحرجت طابة ورد إلى أسفل المنحدر العشبوي الذي كنا منبطحين على قمته، غير العالية، ولم ننتبه. ركضت ورد خلف طابتها، ولم ننتبه. كانت فتاتان يهوديتان منبطحتين على العشب،كما نحن لكن من غير نبيذ. وكان معهما كلب صغير، يبدو أليفا وودودا، بل لطيفا وأكثر، لمن يحب أن يثبت إنسانيته بالتعاطف مع جمعيات الرفق بالحيوان والإنخراط في صفوفها.
لسعتنا صرخات ورد الطفولية، مرعوبة، وقد رماها الكلب أرضا ـ أو هي ارتمت أمامه "بمحض إرادتها" ـ وأخذ يلحس شعرها. ركضنا إليها. توجهت أنا إلى الفتاتين المنبطحتين بلباس البحر وفتحت نيران غضبي عليهما، فيما إنقض صديقي على الكلب وركله ركلة كادت تصرعه على الفور.
صرخت في وجهيما: ألا تخجلان، ألستما من البشر الآدميين، تواصلان نميمتكما والطفلة تصرخ مرعوبة بجانبكما مما يفعله كلبكما؟
رفعت إحداهما نظارتيها وقالت، ببرود كاد يورطني في جنحة جنائية: إنه يداعبها!
قلت: داعبك الخنزير، أيتها الداعرة ابنة الداعرين! ودار لساني ليقول ما هو أشدّ وألعن، لولا انتبهت صديقتها إلى ركلة صديقي وما أحدثته حركات التلوي وأصوات الإنتحاب لدى الكلب. هبّت الفتاتان وهاجمتا صديقي الراكل: أنت لست إنسانا! ليس فيك دم! أليست لديك شفقة ورحمة؟ وصديقي هذا لا يعترف بـ "الإتيكيت" ولا يبدي اهتماما بـ "الفيمينزيم"، ولا من عاداته مراعاة "أصول النقاش". وضع يديه كلتيهما بين فخذيه في أسفل الحوض وقال: الآن سأثبت لكما، وللكلب معكما أيضا، كم هي قوية وغزيرة إنسانيتي! فحملت إحداهما الكلب وولـّتا فارّتين!
ـ ورد، بابا، هل أسقيك ماء؟ حاولت إقناع نفسي بغير ما قفز إلى ذهني.
أصرّت: إحك لي قصة "عمو كمال والكلب"!
إمتثلت للأمر، أكثر مما أمتثل لأوامرها، في العادة، منذ رأت عيناها نور الحياة قبل ثلاث سنوات: كان ياما كان، يا مستمعين يا كرام، نحكي والا ننام؟
ـ نحكي!
ـ كان في زلمة اسمه عمو كمال، وكان عايش لحاله. وفي يوم من الأيام، كان عمو كمال مروّح من الشغل على البيت. وفجأة، أمام البيت سمع صوت كلب صغير يبكي. تقدم من الصوت، فوجده كلبا صغيرا ينبح بصوت بكائي مختنق. سأله عمو كمال: شو مالك يا كلب يا صغير؟ رد الكلب وقال: أنا جوعان، بدي آكل!
حمله عمو كمال بين ذراعيه وأخذه معه إلى البيت. سأله: شو إسمك يا كلب يا صغير؟ قال الكلب: أنا إسمي "بيللا". حمل عمو كمال الكلب إلى الحمّام فحمـّمه وألبسه ثيابا نظيفة، ثم أحضر له قنينة الحليب وأطعمه. وبعد أن شبع "بيللا" دخل هو وعمو كمال ليناما. ولكن، فجأة، سمع عمو كمال "بيلللا" ينبح بصوت عال: عو، عو، عو. نهض عمو كمال وسأله: شو مالك يا بيللا، شو في؟ نظر بيللا جانبا، فرأى عمو كمال شخصا غريبا في البيت، لصا يحاول السرقة من البيت. تناول العصا وهجم عليه فهرب اللص. إحتضن عمو كمال الكلب وقبـّله قائلا: شكرا لك يا بيللا أنك أيقظتني لنطرد اللص. أنت صديقي وأنا أحبك.
وفي اليوم التالي، كان شخص يسير بجانب منزل عمو كمال. كان يحمل سيجارة، وفجأة رماها وإذ هي تدخل من الشبـّاك إلى المنزل، فتشتعل النار وتكبر. يبدأ بيللا بالصراخ، عاليا: عو، عو، عو... فينتبه عمو كمال إلى الحريق الذي أخذ يندلع في منزله. يسرع إلى تعبئة الماء بالدلو وسكبه على النار. ويخف بيللا إلى مساعدته في المهمة حتى ينجحا في إطفاء النار وإخماد الحريق. يحتضن عمو كمال الكلب بيللا بقوة ويقبّله: شكرا كثير كثير يا بيللا أنك نبهتني إلى الحريق وساعدتني على إطفائه. أنت صديقي وأنا أحبك كثيرا ولن أتركك تذهب بعد اليوم. ستسكن معي هنا.
وفي اليوم التالي، اصطحب عمو كمال الكلب بيللا إلى "الكنيون" فاشترى له حزاما حفر عليه اسمه (بيللا) وعلقه في رقبته،حتى لا يضيع. وأصبحا صديقين لا يفترقان. وقبل أن أنهي القصة "وتوتة توتة، خلصت الحدوتة،حلوة والا ملتوتة؟"، متشوقا إلى جوابها الفوري القاطع، كما في العادة: حلـْوة! مع تسكين مشدّد على اللام، نبهتني ورد بزفرة شخيرها إلى أنها قد أغمضت عينيها واستسلمت لسلطان النوم، وإلى أنني كنت ماضيا في سرد القصة لنفسي أنا. توقفت عن الحديث وهممت بالنهوض من لصقها، فتململت ونهرتني:
ـ بابا، احك لي "قصة عمو إبراهيم"!
عيناها المغمضتان أوحتا لي بأن في إمكاني مواصلة محاولتي للنهوض. لكنها زجرتني:
ـ بابا، إحك لي قصة عمو ابراهيم!
فامتثلت: كان ياما كان، يا مستمعين يا كرام، نحكي والا ننام؟
ـ نحكي، قالت.
ـ كان في زلمة إسمه عمو ابراهيم. كان كل يوم يروح على الشغل...
هذه المرة لم أزحزح عيني عنها، كما في المرة السابقة، فكنت واثقا تماما من أنها قد أبحرت في إغفاءتها. عاودت كرة محاولة النهوض، فعاودت هي كرة الزجر.
مضى،حتى الآن، أكثر من ساعتين ونحن، ورد وأنا، على هذا الحال. وإذا ما استمر هذا المنوال فسأجد نفسي في ورطة الأسماء فلا أجد أي "عمو" سواي.لا أكاد أنهي جملتين من القصة، فأنتبه إلى استسلامها للنوم فتأتي حركة للنهوض مني تنبه ورد إلى نيتي فتردعني وتطالبني بقصة جديدة، حتى إذا ما لمحت الساعة لم أصدق أنها قد لامست الخامسة صباحا.
قررت التعبير عما تراكم في داخلي من ضجر وإحباط وتبرّم إزاء عملية التنكيل التي تمارسها ورد بحقي. قلت، بنبرة لا تخلو من جدية وحزم: وبعدين يا ورد؟ حكيت لك بدل القصة الواحدة قصتين قبل النوم، ألا يكفي؟ شوها الطمع؟
ـ إحك لي قصة "عمو ....
لم أعد أذكر شيئا من "أصول وقواعد التربية الحديثة" في تلك اللحظة. نسيتها كلها، بل تناسيتها وتجاهلتها لاعنا الساعة والدقيقة والثانية، محاولا الإستغاثة بما درج الآباء والأجداد على تأكيده عن "التربية الصالحة"، مقوماتها وأساليبها، التي لا تكتفي بحفظ العصا لمن عصى فقط وقصرها عليه. سآتي بالعصا في الحال...
إنتبهت هي إلى صمتي الذي أثار الريبة في قلبها، فتحت عينيها ملء حدقتيها وقالت: بابا، شو مالك؟
ـ ولا إشي، بابا، بدّي أفوت ع الحمـّام!
غالبت نعاسها بفتحة خيط رفيع في عينيها وقالت: بابا، خلـّيك حدّي!
قلت:ها أنا حدّك ولن أتركك! فكـّرت في نفسي باسم "عمو" الجديد الذي سأحكي للتو قصته، لكنها باغتتني بصوت شخيرها يعلو.