حلمَاتٌ غائرة
سَمَاعُ صوتِها على الهاتف أعادني خطفاً لعشرين سنة وأكثر من الذكريات، يوم كانت لي بمرتبة العشيقة الفضلى، بل وكانت مشروع الزوجة الحتميّ الذي ينتظر ساعة الصفر للتنفيذ، بعد حلحلة بعض العقد المستعصية، وكنّا كلينا واثقَين كلّ الثقة بأننا وبما يُسمّى الحب الطاغي سنتجاوز التعقيدات المجتمعية الضّحلة.
وأذكر استلذاذاً تلك اللحيظات الحلوة في خلواتنا المسروقة، كيف كانت تستسلم لقبلاتي أفرشها من وجنتيها إلى عنقها، فتذوب بين يديّ كقطعة الزبدة الشهيّة، تسيل، وألعق سيلانها كقطيرات الشهد، وأتبع بقبلاتي الرؤوفة الشغوفة تضاريس عنقها الطويل في رحلة المشتاق إلى فسحاته الرحبة ومندرجاته ومنحدراته وأخاديده. وقد أفتح في غمرة انغماسي زرّاً أو أكثر من قميص، وقد أغوص بوجهي بين جذري نهدين بكرين طازجين متوثّبين بقساوة على طراوة، وشقاوة على حلاوة، ومضاضة على غضاضة، وهي بين يديّ كسماطٍ ممدود بالمشهّيات الطعامية والعطرية، فتذوق من هنا وتغرف من هناك، وتلتقم بنَهمٍ ضائعاً بين هذا وذاك.
وعدم اعتراض صاحب السّماط الكريم يجعل الضيف يتمادى ويتطاول، وحمّالة الصدر القاسية كوعاءٍ يحمل القشطة تعوق الفارس المستكشف الذي اشتدّ هيامه، فيقف عند حدودها مُكرهاً، لماذا؟ .. لأنّ صاحبتها قد تراجعت وانكمشت، وامتدّت يدها التي كانت مسترخية، لتعيد كل العبث الذي جرى إلى موضعه، والأزرار المحلولة إلى عقدها.
لقد وصلْتَ إلى الوقف المقدّس الذي لا يجوز لك دخول حرمته، يا أيها الحاج والساعي لتقبيل كعبته، وكفاك الطواف حول البيت الحرام، ولا داعٍ لإكمال كلّ فرائضك.
وأهيم اليوم، إذ تتناهبني الذكريات تتسابق إلى شواطئ السنين المنصرمة، ويُضرِم فيّ اتصالها الهاتفيّ شعلةً في شموعي المنسيّة الذابلة، لماذا نتوقّف عند ذاك الحدّ كل مرّة، وما نحن إلا آيلين للزواج القريب؟
وما كانت لتجيب، بل تحمرّ خجلاً، وتتردّد بكلماتها غير المفهومة، وتتلعثم.
وأمام إصراري، وفضولي، وخشيةً منها لوابل انزعاجي الذي بدا واضحاً، قالت:
– مشكلتي أنني أتعامل مع طبيب، وإن كان سيصير زوجي بإذن الله، بيَ عيبٌ ولاديٌّ قد ينفّرك مني، وأنا أحسب ألف حساب لتلك اللحظة التي سترى فيها عيبي!
كان وقع كلماتها المدروسة كبيراً عليّ وقتَها، وكأني أمام تشوّهٍ خَلْقيّ مُعيقٍ لاستمرارنا، وفوراً اندلقَتْ بخاطري قائمة أمراض الثدي الولادية، وما زلت أحفظها كمتخرّجٍ حديث من كلية الطب، لا بل قد يكون الأمر أكبر من الثدي يا أنا، فقد تكون قد أجرَتْ عملية قلب في طفولتها بسبب تشوّهات القلب الخلقية، وما زوجتك المستقبلية التي سترتبط بها يا أخي إلا مريضة دائمة، عليلة إلى ما شاء الله، وستعيش معها مداوياً لعللها، مراعياً لقلبها المريض.
وأعادت بيدها وجهيَ الذي سرَحَ عنها، وثبّتت عيوني الشاردة بعينيها الآسرتين تريد أن تسبر ما يجول بخاطري. لأوّل مرة بدت لي عيونها صغيرة، عادية، كأي عين مغرقة بالكحل الخطّاط الشطّاط.
قالت:
– لا يسرحنّ فكرك للبعيد أيها الرجل الشرقيّ، ويجب أن أصرّح لك بعيبي الذي يؤرّقني الآن قبل أن تكتشفه في ليلتنا العظيمة، فأنا كنت أن أطمح أن أقدّم لك نفسي كامرأة كاملة، ولكنّي هكذا خُلقْت.
وكنت أقول في نفسي، كفانا مقدّمات للتصريح الخطير، وحظّي أنا أعرفه، فما اشتريت بطيخة إلا وندِمْت على قلّة احمرارها الداخلي، ولكني عادة ما أقنِع نفسي بلذّة طعمها لأنها نصيبي وقدري، لذا قرّرت تشجيعها بقولي:
– أنا راضٍ بكِ كيفما كنتِ، ولا تظنّي أنني بلا عيوب ولا نقائص!
كان تشجيعي كافياً لأن تقول بطلاقة:
– أنا بلا حلَمات، حلَماتي غائرة!
وضحِكْتُ وقهقهتُ بصوتٍ فاقع، وضحِكَتْ معي على ريبةٍ من سبب تضاحكي، وقلت:
– جعَلَها الله أكبر المصائب، أهذا هو عيبك؟
وجذَبتُها من يدها بقسوة لم تعهدْها، وسارت معي مطأطئة الرأس تأكلها الهواجس، وقالت:
– إلى أين؟
– سأشتري لكِ هدية، ومضى وقت طويل لم أهديكِ فيه شيئاً.
ودخلنا لأقرب صيدلية، واشتريت زجاجة إرضاع ملوّنة، وعلبة من حليب الأطفال الصناعي، وخرجنا نتضاحك كالمجانين يحدونا الرضى عن جنوننا.
وأعود للذكريات لأقول، لم تكن لي تلك الفتاة كزوجة، إذ أنّ السفر للخارج لمتابعة الاختصاص كان أجدر، والفتاة التي تركْتُها خلفي صارت زوجة لغيري، وقُلبَت صفحتها التي ما قرأتُ منها إلا العنوان وسطرين من المقدّمة.
اتصلَتْ بيَ الآن كمريضة، لأنّ لديها كتلاً بالثديين مشكوكٌ بأمرها، في ظلّ الحملة الوطنية للكشف المبكّر عن السرطان.
لا يحتاج الفحص الطبّي لمقدّمات، والمرأة التي جاءت لفحص صدرها تعرف أنها ستكشف موضع الشكوى أمام السلطان الطبي ذي الجبروت الطوعي. زوجها كان موجوداً ولو أدار ظهره، والممرّضة المساعدة ضرورية لإضفاء جدّية العمل السريريّ، وبعد تأكّدي من أنّ تلك الكتل المنتشرة في قوام الثديين هي أحد الأمراض السليمة غير المقلقة، ابتسمْتُ، وابتسمَت المريضة معي، وابتسم الجميع لنفي السرطان بشكل مؤكّد، لكنّ ابتسامَتنا أنا وإياها كانت لسبب آخر عندما أمسكَتْ بأصابعها حلمة ثديها الناتئة بشكلٍ طبيعي بلا غؤور، كانت تمسكها بفخر وتحدٍّ لذكرياتي.
وقلت للممرّضة على سبيل التندّر:
– شاهدْتُ البارحة، مريضة صبيّة، أمّ جديدة، ولديها حلمات غائرة للأسف، وتعاني من إرضاع ابنها، فالحليب موجود في الصدر المفعم ولا سبيل لإخراجه للرضيع الباكي، ما أصعبَها من مشكلة!
وانبرى الزوج للإجابة ممتشقاً لسانه:
– لا تذكّرني بتلك المشكلة، كانت لدينا، ونحن من عانينا منها، واشترينا الكثير الكثير من حليب الأطفال الغالي، حتى جاءت ابنتنا الثالثة، قويّة ما شاء الله، وأصرّت على مصّ الحليب بإصرار، وهكذا، حتى أخرَجَتْ حلماتنا التي كانت غائرة من مكمنها.