حديثٌ في المقبرة
كنت أسير في طريقي إلى المقبرة لأزور قبر شخصٍ عزيزٍ علي أحمل بيدي وروداً متعددة الأصناف علها تقول للراقد هناك أنني مازلت هنا على عهدي أحتفظ بتفاصيله وبعبق الضوع في ذاكرتي وإذ هناك برجلٍ عجوزٍ أراه لأول مرة
– من أنت
– أنا حارس المقبرة لكن ما الذي أتي بك إلى هذا المكان؟
– زيارة قبر أحدهم
مشى بجانبي ليضيء لي الطريق وسألني :
– هل تظن بأنك على مايرام؟
– هل تعتقد بأنك نجوت حقا؟
– نعم أنا بخير مما سأنجو؟ وهل أنا في خطر؟
– نعم الخطر ليس خطر الموت بل فخ الحياة
– لقد نجوت مراراً من الموت ومن الحياة
الموت أخطأني ربما عمداً ربما أراد أن يمنحني فرصةً أخرى لأحَضِّرَ لوداعٍ أفضل وجنازةٍ جماهيرةٍ تليق بموتٍ أنيق
ربما أراد منحي فرصة أخرى لأكون بينكم أكثر وقت ممكن فقد أترك أثرا في أحدكم ليحفظ الذكرى بعد الرحيل الذكرى تلك الرائحة التي تعبق بالنفس بعد إغلاق النعش
لعل تلك الرصاصة أخطأت طريقها نحوي ذلك لتقتل آخراً غيري شعرت حينها بتلك الرعشة التي جردتني في تلك الثانية اللانهائية التي وقفت فيها على تلك الحافة بين الحياة والموت
كان شعوراً متداخلاً بين الرغبة بالبقاء والرغبة بالرحيل
ملك الموت تلك اليد التي تنتشلنا من بؤرة هذا الحاضر المسعور زمن انقلبت فيه كل الموازين حيث صارت المبادئ عملةً نادرةً والأخلاق موضةً قديمةً أصبح الباطل حقاً والحق باطلاً
هناك على خشبة المسرح وقبل رفع الستارة تم تبديل الأدور تحول الجلاد ضحيةً والمجرم قاضياً
زمنٌ تعرت فيه كل الحقائق من جذورها فأصبح صاحب الضمير معتوهاً غبياً والمخادع الغشاش والمتملق خلوقاً ذكياً وقد ينعتوه بالعبقري صاحب الحنكة والفطنة القوية
– لقد نجوت من هذا مجدداً وأنجو كل يوم من فخٍ تتهاوى فيه المبادئ والأخلاق باسم الحاجة والفقر باسم استغلال القوي للضعيف وصاحب المال للمحتاج نجوت من ظلم الحياة لطفولةٍ يتيمةٍ بائسة سرق منها القدر أبجدية الضحكات إذ قررتُ أن أتجاهل وأن أعيش تعلمتُ فن اللامبالاة وفلسفتها مبكراً فكانت بذلك الدرع الذي نجوت به من السقوط في هذه الهوة المظلمة
هكذا باللامبالاة نجوت من الحياة بالإنسانية نجوت من السقوط في اللاإنساني بالتمسك نجوت من السقوط في اللاأخلاقي وبالصدفة نجوت من الموت إذ أخطأني لأكون ها هنا بينكم برعماً صقلته الحياة بتجاربها فصار نخلةً تتجهز لتكون نعشاً ذات يوم وتكتب رثاءها الأخير بحنجرة مبتورة الصوت خاوية المفردات ابتعد صامتاً وعدت وحدي