حب عفوي
كعادتها مستلقية على ظهرها تسلي نفسها بِعـَدِّ النجوم التي تومض ثم تختفي،لم تكن مثل قريناتها من الفتيات، هي أكثر منهن وعيا وحبا للحياة.. تواصلُ العدّ بصوت جهوري مسموع: خمسة آلاف وستة، خمسة آلاف وسبعة، خمسة آلاف و ثمانية، خمسة آلاف و... لم تسأم من العد رغم أنها موقنة بأن ذلك مستحيل، ولم يكن شيء ليثني عزيمتها لولا نداءات أبن عمتها محمد التي أنستها أين وصلت في العد، كان عليها أن تعاود العد من البداية: واحدة، اثنتان، ثلاثة...
– (محمد): لماذا تتعبين نفسك في العد و أنا أعلم عددها دون أن أحسبها حتى؟
– ( آمال مستهزئة ): وكم من نجمة في السماء حسب فلسفتك العبقرية التي لا تخطأ؟!!
– (محمد كالواثق من نفسه ) : عددها عدد نبضات قلبي التي تسبح باسمك... إن لم تصدقيني فاستمعي إليها إلى أن تتوقف و قارني عددها مع عدد النجوم.
كان (محمد) يعلم أن فكرته هذه أصعب بكثير من حساب عدد النجوم، لكنه أراد أن يستغل الفرصة ليبين لابنة خاله مدى حبه لها حتى أن نبضات قلبه صارت تسبح باسمها، يضمها إليه و يقبلها على جبينها قبلة تذيب جبين القمر.. ثم يسألها للمرة المليون في حياته أو ربما أكثر: أتحبينني؟، و ككل مرة يسألها هذا السؤال تحمر وجنتاها خجلا، فتعود لحالتها الأولى و تواصل الحساب من الأربعة...
كان الوقت يمضي بسرعة و على كل واحد منهما أن يعود إلى المنزل، كلاهما يكرهان هذه اللحظة فهما لا يريدان أن يفترقا أبدا لكن ماذا عساهما يفعلان؟
كل من في هذه القرية الهادئة يلعنهما و يشفق عليهما في الوقت نفسه، فالجميع يرى فيهما رغم طيشهما المبالغ فيه أحيانا صورة الشباب المفعم بالحياة، المقبل عليها.. لا توجد صورة أكمل للحب و الصدق من تلك الصورة العذرية التي يرسمانها على جدران القدر كل مساء، تلك الصورة التي تقاسمهما إياها كل وردة تمهد نفسها لأخذ غفوة قصيرة كلما حملا المساء إليها كفراشتين تنقلان الرحيق من زهرة لزهرة و من حقل لحقل طول الربيع..
وهو يتقلب في سريره الممدود وسط غرفة موحشة تعبق بعطرها النبيذي الذي يعلق دائما بقمصانه، يحاول أن يسلم نفسه للنوم عسى يطالعه طيفها في حلم ربما، أو حتى في كابوس.. المهم أن يجدها هناك، و أن يستنشق نفـَسها الذي صار يجد له رائحة أعذب من رائحة المسكِ.. و هي تتقلب في سريرها الممدودِ وسط غرفة لا يفارقها النور.. تحاول أن لا تنام فصورته المعلقة على الجدار تغنيها عن الأحلام التي لا تعرف ماذا تخبئ لها، توغل بنظرها في الصورة، تسحبها ذاكرتها بعيدا.. تتأمل قطع الأثاث المتناثرة في أرجاء الغرفة في انسجام و تناسق كبيرين، تغرق في تفاصيل المكان.. يرجع بها الزمن لأعوام مضتْ، تتذكر يده الدافئة التي تمتد إليها، نداء والدها، بكاء أخيها الصغير.. فتستسلم للنعاس.
الشمس على غير عادتها تحتجب وراء السحب الكثيفة التي لا تسمح لأشعتها بالوصول إلى الأرض، كان شباك النافذة المفتوح يسمح للنسيم البارد بالنفوذ إلى الحجرة.. ينتفض حين يهزه صوت ارتطام حبات المطر الناعمة بزجاج النافذة، أما هي فغير آبهة أبدا بقطرات المطر التي ترتطم بوجهها، و لا تمد يدها لتغلق النافذة على عكسه.. تستمر في التحديق في جموع الطلاب الذين يحاولون جهدهم الاحتماء تحت سقف الرواق حتى لا يبتلوا.. يعلو صوت الجرس، تمسكها زميلتها (بشرى) من ذراعها فتفهم أنه موعد خروجهما من الصف، ترمقه بنظرة أخيرة ثم تنصرف.. يخرج متأنيا عندما يتأكد أنها غادرت الحجرة التي تدرس فيها.. هو يشعر أنه محظوظ كون حجرتيهما متقابلتين، و أنه بإمكانه رؤيتها و هو يتابع دروسه دون أن يغادر صفه.
بعد خرجه من الصف يذهب مباشرة إليها.. متجاهلا نداء صديقه(رحيم).. يومئ له برأسه أنه سيعود إليه خلال خمس دقائق، يجدها كالعادة رفقة زميلاتها اللواتي يدرسن معها.. يناديها بصوت منخفض.. آمال.. تذهب إليه مسرعة، تمسك يده الباردة و تجعلها بين كفيها الباردتين أيضا.. ربما يحسان ببعض الدفء حين يشعران بقربهما من بعضهما البعض، دائما ما يكون لمثل هذه التصرفات العفوية أثر إيجابي عليهما، فتراهما يمشيان تحت المطر غير آبهين، و كأنهما لا يخشيان الزكام الذي بدأت علاماته تظهر عليهما.
"كان يمكن لهذا الحب أن يعمر طويلا لولا تلك العيون الشيطانية التي كانت ترمقنا من بعيد أو من قريب.. و لماذا لا يعمر طويلا؟ أ لا يملك القدر حق تغيير مصيرنا إن كان بذلك سيجمع عقدا انفرطت لآلئه؟".. لم تعجبه هذه الفقرة القصيرة من رسالتها، فهو ليس من أولئك الذين ينسبون الكمال لأنفسهم و يتهمون الآخرين بالخطأ.. الحب عنده أكثر من حالة شعورية يحلق فيها المرء عاليا ليسقط مثل الطائر الذي كسر جناحيه عندما لم يجد من يشاركه التحليق، بل هو امتزج روحين لا تنفصلان إطلاقا فتصبحا روحا واحدة..
"لم يكن لهذا الحب أن يصبح أفضل لولا تلك النظرات الحاقدة التي تزيدنا ثقة في نفسينا، و تجعلنا نقنع بلقاءات أقل، و تفاهات أقل.. قد تتساءلين عن سبب قناعتي بقليل من كثير، و عن سبب عدم انزعجي من أولئك المتطفلين الذين همهم الوحيد رؤيتنا نتحطم.. أنا لا أملك تفسيرا لكل هذا، كما لا أملك تفسيرا لأشياء كثيرة".. أعجبتها هذه العبارات التي تضمنتها رسالته، بل إنها وضعت سطرا تحتها، فهي تؤمن أن الحب يكبر كلما كبرت التحديات و المصاعب..
أرادت أن تقول له ’أحبك’ لكنها لم تقلها، و اكتفت بالتحديق في عينيه .. فهم بسرعة ما كانت تفكر فيه فابتسم.. أراد أن يمسك يدها التي تطبق على الرسالة و يقبلها بعنف، لكنه لم يفعل ذلك و اكتفى برعشة صغيرة.. لم تفهم ما كان يفكر فيه و وضعت الرسالة في حقيبتها..