حبيبة
سألتها...والبوابة الحديدية تئزأنينا مع دفع يدي: - لم تحول السور صخرا وإسمنتا يقصف الخضرة اللينة الماضية؟
لم رحل القصب المصطف بأخوة على امتداد أرضنا ينسج سورنا الشفاف؟
...وهذه البوابة الحديدية متى علاها كل هذا الصدأ؟
ولكنها لم تكن أمام البوابة لتجيبني.
على الممشى الترابي الطويل مشيت.
باب الدار مغلق يرمقني. ينتظر المفتاح القديم والشوق المعتق.
بصعوبة دار المفتاح في القفل مرتين . مع خطواتي علا الصدى .
عاد إلى أصابعي خوف الطفولة و ارتباكها وأنا أفتح باب الخزانة المغلقة على مهل...تمايلت ظلال..وانتشر الصدى في خواء الغرفة...وهبت الرائحة ..نسمة من عتيق العطر تنديها دمعة الأسى والانغلاق.
رجف الشوق في غرفة رحلت أسرتها الوثيرة و طنافسها مع الراحلين . ولكنها ظلت هناك...لا تريد الرحيل .. دوما في انتظاري .
كانت هناك على المقعد الصيفي المفتوح في الزاوية تحت النافذة المغلقة.
نظرت إلي عيناها الحانيتان الكليلتان عاتبة لطول الغياب.
مضيت مسرعة في اعتذاري المرتبك أفتح لها النافذة واسعة لتطل الشمس على دنياها...أمسح الغبار عن أكواب الرف الأعلى الملونة ..عن الأقداح المذهبة الصغيرة التي اقتنتها من مدينة الرسول تسقينا فيها شايها المعطر المشتهى كلما أقبلنا زائرين...أحمل أثوابها المنتقاة لأخرج بها إلى الفضاء المفتوح، تتبعني نظرتها العميقة الهادئة.
تحت الشمس، على الخيط الرفيع، علقت الوشاح الأندلسي، بخيوطه الطويلة الحريرية البيضاء هديتي لها ذات عيد.
رفرف في النور جلباب مكة، طويلا أخضر حريريا، تزين أعطافه السفيفة المطرّزة ، نجوما فضية تنير الخضرة الوادعة .
حلقت المنامة الموردة مع الريح. وجبة الأفراح البيضاء التمعت خيوطها الذهبية على طول القامة في ظفيرة وجد وحنين راقصة.
علقت على شرفات الحاضر أثوابها للهواء المغسول بأقباس الشمس.
جذلى، أخذت تمسح بيدها على رأسي في حضنها، وأنا أتمدد، خدي على الحرير الأخضر
المكيّ المنساب على ركبتها، في عودتي من العمل، لها زائرة متعبة.
حدقت بنا نظرة طويلة في اندهاش . وارتفعت ضحكة زوجي القادم مجلجلة
أمازلت طفلة يا ترى؟
....
أجابت ابتسامتها الرحيمة الصامتة وظلت تمسح دوما على رأسي وعلى شعري المتهدل في حضنها .
..........................................
شعر قصب الخريف يتمايل في الريح، وحيدا، يتهدل على كتف شجرة التوت العالية ...
كانت تمسّح عليه، المحبة في كفها. وكان.....ما أجمل قصب البستان في يدها!
...تدعونا إليه، وسيقانه الرشيقة تعلو على امتداد السور . تعلمنا أسراره ....
– انظروا !
تقفز، تجذب القصب الأخضر الذي استطال . من سمائه ينحني لها . تقتطع المفصل الأعلى .بأصابع دربة تنزع أبواقا داخلية ...تقرب من شفتيها القرمزيتين القصب الأخضر الطري ..يرتفع النغم..لقد أصبح مزمارا !!
نركض فرحين ونتطاول قافزين مبدعين مزاميرنا.
يعود القصب المنحني لنا، مستقيما، عاليا،مسامحا الريح و الأنواء، ونزق الأطفال، ينسج سورنا الشفاف، تشده أسلاك معدنية رفيعة.
نطل من بين سيقانه الرشيقة على دربنا الترابي وعلى الزائرين القادمين في فصول الهوى والفرح، قبل أن نركض مخبرين أمنا بالأقارب المقبلين و أطفالهم، للمصيف، تتطاير من أمامنا فراخ الدجاجة هاربة .
هب طير أسود من أعلى شجر السرو العتيق.
رفرف فوق رأسي. تبعته فراخ غربان مذعورة .تطايرت من شباك الخضرة الكثيفة الداكنة ، وسرعان ما اختفت ليغمر الفضاء سكون موحش.
من أعماق السكون ، أقبل تغريد طائر بعيد ...
مسرعة ، همست لنا :
هسسس!!......إنه حسونَ!
سمعنا صوته يترقرق صفاء أخاذا. ينتشر في الفضاء بينما التمعت نظرتها، نجوما تومض في وجه يضيئه انتشاء غريب...وأشارت إليه .
رأيناه، هناك، قد قفز إلى الأرض، من بين أفنان شجرة التوت، يرفع الرأس مغردا..يتلفت حواليه، بحركة سريعة، ويعود يفتش منقاره، في ساقية الماء الراكض إلى الشجر، عن صوته ورواه.
هناك، حيث حط ، بين شجرة التوت وشجر البرتقال، اختفت الساقية وجفت التربة.
وأمام غرفتها، صمتت النافورة وعلاها الغبار.
ولكن شجرة التوت ظلت وارفة، رحبة الظلال. تطل من عل على الطفولة العائدة، تدعوني إليها، مثقلة بحلاوة الثمر.
..التوت يومئ لنا ناضجا موردا. وهي تقف بيننا.
نبدأ القطاف...ترسلنا إلى الأعالي... نتسابق متسلقين الغصون، في أيدينا سلالنا الصغيرة. حبة في السلة، وحبات في الأفواه المتلمضة حلاوة الشهد.
حين تتركنا وتمضي، سلتها عامرة، نحط من غصوننا وقد أشبعتنا حلاوة العسل.
ننصب خيمة الفرح. يأتي أحدنا خلسة، بشرشف أبيض من خزانتها المغلقة. تحت الملحفة البيضاء، المربوطة إلى الغصون، المسدلة الأطراف إلى الأرض، أصبح ابنة السلطان أو الحورية الراقصة بخفر على تصفيق الصغار وشدوهم...أو أعود أجلس على عرش الغصون الخضر لنمثل دور العروس والعريس، متفادين الأنظار المتلصصة للكبار.
ضرب الطائر الأسود النزق بجناحيه عاليا.
عاد حائما بين السرو والشجر، نازعا خيمة الصبا.
وعادت شجرة التوت، خالية بلا ثمر.
وبين الأشجار، اختفت آثار الطفلة الراقصة تحت الخيمة البيضاء.
تيبس الرمل تحت أقدامها، وتيبست طراوة الأقدام، واختفت سلال الثمر الفائضة.
وهي، ما عادت تأتي إلى القطاف. ما عادت قادرة على غير انتظار الوجوه الحبيبة المهاجرة، جالسة، تترقب مواعيدها.
هب الحنين يعيدني إلى الغرفة المفتوحة للشمس...ولكني شاهدتها مقبلة، ميساء، تخطر نحوي، في جلباب مكة الأخضر الجميل. متباركة، تختاره على ما سواه ، تزدان به للأحبة القادمين..
تقبل...نتوقف على حافة الممشى، وتنحني في هدوء، نتنزع العشب الطفيلي عن النعنع. تقطف منه، لتزين بخضرته العبقة ما تقطف من رياحين البستان. تذكي الرائحة الأنفاس. يفوح عبق التربة المسقية من يدها...وتهفهف خضرة الثوب المكيّ مع هبة النسيم.
هفا الشوق إلى الوجه الحبيب النّضر...إلى القامة الهيفاء التي عادت تستقيم...مضيت، أتعلق بذيل ثوبها الحريريّ.
أشعة الشمس الذابلة تتكسر بيننا...تسقط ظلال وأطياف تمضي وتجيء.
وهبة النسيم تعود ريحا توزع أوراق الشجر الباقية على الثرى، تغطي التراب.
يلين التراب!
يلين تحت أقدامنا...يتناثر هشا، نديا تحت أرجلنا الصغيرة الراكضة...لا نهدأ، حتى نصنع منه كرات نتقاذفها، أو هضابا وجبالا نزرعها بما نقتلع من نبات وزهور، أو بما نقطع من أغصان الشجر المورق.
ينادينا صوتها الفضي عاليا :
ـ هيا ! كفاكم الآن لهوا!...غيروا هذه الملابس المتربة...هذه لمجاتكم ساخنة !
مسرعة، أمد يدي أمسك الرغيف الخارج توا من التنور.
تحت خطواتي، خشخش الورق على التربة اليابسة.
وحشة هبت على ريح الغروب، تدعوني للرحيل...
ولكنها، كانت هنا، في انتظاري...مازالت ترمقني في صمت...ولكن، في حزن، هذه المرة.
عادت الطفلة التي استيقظت بعد الأوان...تلك التي كانت تخفي الرأس في حضنها، تطير مع أثواب الحنين المعلقة لنسائم الحاضر، تطرد عنها النسيان.
عادت سائلة:
– لم رحل القصب الأخضر المصطف بأخوة حول البستان ؟
– ...........................................
– لم أظلمَ سُورَنَا الشفاف البكر، الصَّخْرُ والإسْمَنْتُ ؟
– ..........................................
– ............ أمّاه !...متى جفّ ماء النافورة، واختفت سواقي الماء ؟
– .........................................
– أماه ! كيف تحجرت في غفلتي الأقدام الصغيرة، والقلوب الغضة، والأرض الخصبة....والأسوار؟؟؟
سخرت من الطفلة القديمة الشَّمسُ الرّاحلة. ولكن صوتها الواهن ناداني مهوّنا. وعيناها الكليلتان، ظلتا ترمُقاني مشفقتين.
...اقتربت منها في ثوبها الحريري المكيُّ الأخضر أدعو قبلة أخيرة قبل الوداع.
حنّ ضياء من نجوم الأعطاف ... رفعت إليها يدي.
دعوت ذراعي الأمومة تضماني من جديد، قبل الرّحيل.
ولكن، في الرّيح، ظلّ الثوب الحريريّ الأخضر، خاويا...يتأرجح على حبل الغسيل.