جمانة حداد: يتيمة شعرياً ولستُ لقيطة لكني أقتل آبائي
جمانة حدادجمانة حداد شاعرة بشكلها وصوتها وكتابها، قصيدتها تشبهها بالطبع لكنها قبل أي شيء تشبه نفسها، فالشاعرة التي تمنح ابتسامة وحناناً لجليسها، تعطي ذاتها المتمردة الجامحة لقصيدتها، وحين نراها تلاعب الأشياء والكائنات ننتبه إليها تصارع اللغة أيضا. المرأة اليومية والمرأة الأسطورية هما جماع ما بين الشعر والحياة، (عودة ليليت) هو المرأتان. مع جمانة حداد كان هذا الحديث:
– خطابكِ الشعري في (عودة ليليت) يحمل وعود خلاص. من تريدين أن تخلّصي؟ من تنقذ ليليت هنا: العالم بأكمله أم النساء فحسب؟
– عندما تعرّفتُ الى ليليت لأربعة أعوام خلت، وقد حصل ذلك بالمصادفة مثلما نتعرّف الى كلّ جميل وصاعق في حياتنا، قالت لي إنها ضاقت بانسحابها، وإنها تريد العودة لكي تنقذ الرجال من حواءاتهم. أخبرتني أنها تبحث عن جسد وصوت تسكنهما، فانقضضتُ عليها وقلت لها: سوف أكون أنا أحد أجسادك وأصواتك. إنّ هذه المرأة الأولى، الأصلية، الحقيقية، الحرّة، المتمردة، المستقلة، لم ترجع إذاً لكي تنقذ العالم، بل لتزيده خراباً ومتعة، لأنها تقسم النساء بين منتميات إليها وغريبات عنها. ليليت تمثّل التحرر من حواء المسطّحة، المرّة، الفارغة، وتمثل أيضا الخلاص من (وعد الخلاص) المزعوم، أي انها الهلاك بمعناه الجميل، السامي، المشتهى. وعندما أقول إنها عائدة، لا أعني أنها لم تكن موجودة قبلا، فهي لطالما كانت هنا: لكنها كانت تحفر طريقها بأظافرها بصمت، والآن جاء الوقت لكي تظهر على الملأ وتطالب بمِلكها. هي نساء كثيرات أشعلن بوهجهنّ على مرّ الزمن ليل هذا العالم، مثل كليوباترا ودليلة والمجدلية، ومن المرحلة الأحدث لو أندرياس سالومي وجورج ساند وأناييس نين. ليليت هي المرأة المكتمل قمرها الأسود بقمرها الأبيض، وقد كانت زوجة آدم الأولى، إلا أنها لم تتفق معه، إذ لم تكن مستعدة للخضوع الأعمى للرجل، فهربت من الجنة الكاملة الى جنة النقصان والخطيئة. حواء هي إذا (المحاولة الثانية) غير الموفقّة لنموذج المرأة. ليليت لا تنتظر أن يتم اختيارها: تبادر، ولا تنتظر أن تُعطى: تأخذ. إنها الجنس المنشود المتمرد على منطق المساواة الكاذبة بين الجنسين، ومثلما أقول في مبتدأ الكتاب، هي (ما ينقص الرجل كي لا يندم وما ينقص المرأة كي تكون).
– أنت ذاهبة الى الأسطورة، أسطورة الأنثى المرأة ما قبل حواء، أي ذاهبة الى الكائن الكلي المنقطعة علاقته بالضلع الذكورية. هذا الذهاب بقي من اختصاص الرجل حتى اللحظة، ليقول تعدّد صوته الشعري. ماذا تريدين أنت الشاعرة من هذا الذهاب الى الأسطورة؟
– ليليت بالنسبة إليّ ليست محض أسطورة. لقد اخترتُ ان تكون قصتها قصتي، وحقيقتها حقيقتي، وأردتها جامعاً مشتركاً بين كل النساء اللواتي يشبهنها ويشبهنني. لم يكن اختياري لها هروباً، ولا قناعاً لخوف ما، فأنا أظهرتُ مراراً فجاجتي في قول ما أريد قوله، ولا أحتاج الى أن أبرهن شيئاً على هذا المستوى. بكل بساطة، سحرتني قصتها، وقد وجدتُ فيها البركان الذي خرجتُ منه الى العالم، وخرجت منه نساء سواي، أخريات لا ينتمين الى جنس المرأة الحوائية. أنا معجونة من حمم تلك المرأة الرائعة الملعونة، ولا أريد من ذهابي إليها سوى مجيئها الدائم إليّ. ثم إن تعبير (اختصاص الرجل) يستفزني: أنا ضد الاحتكار، أكان ذكورياً أم أنثوياً.
أقتل آبائي
– ولكن هذا التماهي بالتعدد الصوتي فيه بصمات لشعراء مكرّسين ذكوراً، تحديداً أنسي الحاج. ماذا تقولين عن ذلك؟
– ولِمَ يكون التعدد الصوتي وقفاً على الشعراء الذكور، وحكراً بالتحديد على شاعر ما دون سواه؟ هل تسمعين أحداً يقول إن الحلمية السوريالية وقف على أندره بروتون؟
– أو ان قصيدة الواقعية اليومية حكر على ألن غينسبورغ؟ أنا كثيرة في أنوثتي، ولأصواتي الحقّ الكامل في الخروج من رحمي من دون أن تُلصق بها تهمة الالتحاق بآخرين. لقد جرت العادة للأسف أن نبحث للشاعرات عن آباء، خصوصا في عالمنا العربي حيث يُطمئننا أن تكون فلانة ابنة فلان. ولكن أنا مقلِقة لأني يتيمة الأب شعرياً، ليس لأني لقيطة بل لأني أقتل آبائي كل يوم، ولا أعني أنسي الحاج فحسب، بل تشمل جرائمي مجموعة من الشعراء الكونيين الذين تعاقبوا على تربيتي بحبّ وسهروا عليّ الليالي وسقوني مياه هلوستهم وباتوا يشكّلون جزءاً لا يتجزأ من كياني، وأذكر منهم محمد الماغوط ورينه شار وأرتور رامبو وبول تسيلان.
أنا أقتل هؤلاء باستمرار، أقشر جلدهم عن لحمي الحيّ بلا انقطاع، مثلما تقشر الأفعى جلدها. لا أحبّذ التعميمات لكنّي أعرف أن المرأة عموماً، والشاعرة تحديداً، تعبت من الكليشيهات الملصقة بها: صاحبة النبرة القوية لا بدّ أن تكون متأثرة بشعر الرجل، والجريئة تسعى فقط الى لفت الأنظار، والجميلة يخدمها شكلها، والمثقفة لا يمكن أن تكون خفيفة الظلّ، والموهوبة ليست مثيرة، والتي تحب الشعر لا تحبّ الرقص، وهكذا دواليك... أنا أقول: لنكسر هذه النماذج، ولنصنع غيرها ولنكسرها أيضا! ولنتخلص خصوصا من تصنيف الشعراء ذكوراً وإناثاً. الشعر لا يرتدي الفساتين ولا يحلق ذقنه ولا يضع أحمر الشفاه ولا يذهب الى الخدمة العسكرية. لست أعني أنه روح بلا جسد، بل هو كائن جنسي بامتياز، لكنه لا يحتكر جنساً دون آخر، لأنه يجسّد اجتماع الذكورة والأنوثة معاً.
– وما رأيكِ في الانتقادات الموجّهة الى بعض الأصوات النسائية التي تطلّ على الشعر والرواية من نافذة الكتابة عن عالم المرأة بجرأة كثيراً ما تداني تخوم الإباحية؟
– ولِمَ لا؟ هل يُطرح السؤال نفسه يا ترى على (الأصوات الذكورية الجريئة)؟ المهمّ ألا تكون الجرأة مفتعلة وغاية ترويجية في ذاتها، مثلما هي الحال في معظم الأحيان للأسف. إذا كانت الجرأة تخدم الفكرة فهي ضرورية، أكانت بقلم رجل أو امرأة، أما إذا كان الهدف منها أن (تبيع) النص وتستر عيوبه تحت شعار كسر التابو وجذب الجماهير عشوائياً، فأنا ضدّها طبعاً. كفانا أحاديث عن جرأة الكاتبات وكأنها حدث استثنائي يتطلّب أن تخرج الأعين من محاجرها: نعم، النساء يمارسن الجنس أيضا، صدّقوا أو لا تصدّقوا، ونعم، هنّ يشتهين جسد الرجل ولديهنّ ما يقلنه حول هذه المسألة في كتاباتهنّ، تماماً كالرجال.
لستُ أتكلم هنا من منطلق نسوي، فأنا مع الأنوثة ضد النسوية، وعلاقتي بالرجل ليست حرباً وليس من همومي الحلول مكانه. أصلاً لا يسعني الاستغناء عنه. أعرف نقاط ضعفه وقوّته وأحبّها، مثلما أحبّ نقاط ضعفي وقوّتي، ولست معنية بالترويج لأي هيمنة نسائية. أنا لا أحبّ الشعارات الصاخبة، فهي تحسّسني ب(الكلوستروفوبيا). أؤمن بالإنجازات الفردية، بالمعارك الصغيرة، بالخاص الذي يتضمّن الشامل، وبفاعلية أن تعتني كلّ واحدة ببستانها. ولكن لماذا تكون المرأة غالباً في نصّ الرجل كائناً جنسياً له نهدان مستنفران وشفتان مفترستان وبشرة تحرّض على الاحتراق، فيما يجب أن تتحوّل في نصّ الكاتبة طيفاً بلا جسد يحمل حصراً هموم الإنسانية (العظمى) ويؤلّه (البراءة) ويتغاضى عن (تفاهات) اللذة والعشق والرغبة؟ البراءة الحقيقية هي الصدق مع الذات والآخر. سئمنا الهرب والزيف والاستنكارات الخبيثة. المعيار هو مستوى النصّ في ذاته، وأنا إذ أكتبُ عن جسدي واستيهاماتي لا أفعل ذلك لكي أستعرض عضلات جرأتي، بل سعياً منّي الى أن أكون أمينة لما أعيشه في داخلي ولما أهجس به.
– ولكن هذا النوع من النثر الذي نكتبه يتحوّل الى نص سردي أقرب الى القصّة. كيف يمكن الحؤول دون وصول القصيدة الى احتمالها الأخير؟
– لا يمكن أن تصل القصيدة الى احتمالها الأخير، لأنها تخترع نفسها كل يوم، أي ان احتمالاتها تتغيّر باستمرار. في (عودة ليليت) مثلا، أردتُ أن أعطي النص ثلاثة أجساد مختلفة: القصيدة الطويلة، والمشهد الدرامي، والنص المهلوس المفتوح. وكان يمكن أن تكون أجساد النص خمسة، أو عشرة، فذلك مرتبط بحدّة التخييل الذي أثارته فكرة ليليت في روحي. أنا أمشي الى نصي ببطء، ولكن بتلذّذ، كما لو إنني أدخل جسدي للمرة الأولى: أعني جسدي الحميم، لحمي الحي المجرّد حتى العظم من الكذب والخداع ووسائل حماية الذات. هذه الرحلة الى النص، أمشيها تحت سماء الحرية. أقف تحت تلك السماء على رؤوس قدميّ وأسحب نفسي الى فوق وأحاول أن أطال أبعد غيمة حرية ممكنة تستطيع يدي الشعرية بلوغها، لذلك فإن رحلتي نحو نصّي هي ألف درب ودرب، وتالياً ألف احتمال واحتمال لقصيدتي.
لعب مع اللغة
– ثمة شغف باللغة، واضح في هذا النص، وكان واضحاً في نصوصك وإصداراتك الشعرية السابقة. هذه المتانة اللغوية، هل مخطط لها؟ أم أنها تأتي عفوية وهي من ثوابت كتابتك الشعرية؟
– شغفي باللغة أكيد. فمنذ وقعتُ في غرام اللغة العربية، وهو غرام متأخر، وتوقي إليها والى استكشافها يزداد عنفاً يوماً بعد يوم: لا التوق بمعنى الاحتفاء فحسب، بل أيضا بمعنى الكسر والعجن والانتهاك والخرمشة والبطش وإعادة لصق الأجزاء بعضها مع بعض بطريقة اخرى، وهذا واضح خصوصاً في الجزء الثالث من الكتاب الجديد. أنتِ تسمّينها متانة لغوية، أما أنا فأسميها لعباً مع اللغة. وهذا اللعب القائم على الإغواء المتبادل بيني وبين العربية هو جزء لا يتجزأ من كياني الشعري. إنه من الثوابت، نعم، لكنه لا يأتي عفوياً: أعني أنه لا يولد منحوتاً من تلقاء ذاته، بل اشتغله، وأنا أشتغله لأني أتقصّده، وأتقصّده لأني راغبة فيه، وأرغب فيه لأنه متعة أجنيها من الكتابة وتجنيها هي منّي. من طريق هذا اللعب أجيء الى الكتابة، وتجيء الكتابة إليّ.
– وأنتِ، كيف جئت الى الشعر؟
– الشعر هو الذي جاء إليّ، فهو يختار فرائسه. وقد عرفتُ منذ اللحظة الأولى أنه سيكون أبي وأخي وعشيقي، عرفتُ ذلك منذ قطع عليّ طريقي ذات يومٍ من عامي العاشر وقال: اتركي كل شيء واتبعيني. لطالما كنت طفلة هادئة وعاقلة في الظاهر، ومشاغبة مقموعة في الباطن. أزعبر على أخي في لعبة (السكرابل) لأني لا أطيق الخسارة. مهووسة قراءة ومتمردة على الممنوعات، لا ألعب بالدمى بل أسرق من مكتبة والدي كتباً لا تلائم سنّي وألتهمها خلسةً. في اختصار، الشعر نصب شباك غوايته، والمشاغبة لبّت دعوة المتمرّد الأكبر.
– ماذا عن قراءاتك الشعرية؟ شعرائك؟ هل تتابعين الأصوات الشعرية العربية؟ من يستوقفك أكثر؟
– شعرائي كثر، أذكر منهم شار وايلوار وسباربارو وميشو وتسيلان وجابيس واونغاريتي، الخ... شعرائي هم أيضا رسّامون وسينمائيون ومسرحيون، يعرفون كيف يستفزون بألوانهم وصورهم وأدائهم حساسيتي؛ يعرفون كيف يجعلونني أقرقر كقطة قرب موقد من فرط ذوباني في جمالهم. قراءاتي الشعرية ليست بكثافة قراءاتي النثرية، فأنا غالباً ما أقرأ الروايات والدراسات. أتابع طبعاً الأصوات الشعرية العربية، وقد باتت المتابعة أسهل مع الانترنت وانتشار المواقع الشعرية الخاصة والعامة. أتابع الأسماء المكرّسة والشابة على السواء، مع التنويه بإصرار وأكثر من مرة بالجدد. ولكن دعينا لا ندخل في متاهة التعداد، فقد يربحني شاعر بقصيدة، أو حتى بجملة واحدة استطاعت أن تهزّني، من دون أن يكون إعجابي قادراً على أن يشمل أعماله كلّها.
عن السفير اللبنانية بإذن الشاعرة جمانة حداد