الخميس ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٨
بقلم آمال بولحمام

جماليات قصيدة الهايكو

حسني التهامي أنموذجا

على الجدار
يراودها ظلّها
امرأة عجوز

استطاعت قصيدة الهايكو أن تخطّ عالمها على استقراء المرئيّات، وبخاصّة الطبيعة. وهذا النّوع من القصائد المقتضبة يمكن أن يستحضر تلقائيا مقولة الصّوفي " ابن عبد الجبّار النّفري" :" كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة"(1) ؛ فالهايكو قصيدة شعريّة قصيرة تختزل لنا رؤية الشّاعر دون إقحام ذاته الشّاعرة، بسيطة البناء، تبدو في ظاهرها سهلة المنال في حين أنّ الهايكو" نص مضغوط قد يبدو للوهلة الأولى في تحقّقه على الورق مجرّد بذرة حبر باهتة أو زخّة مطر شفيفة، لكنّه سرعان مايتفتّق بفعل القراءة المتأنّيّة المتأمّلة عن كون شعري لا متناهٍ في مشهديّته... تماما لتشكّلات دوائر مائيّة متماوجة عن رمي حصاة على صفحة بركة جنائنيّة هادئة عميقة"(2)، ومن ثمّ يمارس النّص استفزازه للقارئ، ممّا يجعله يستحضر طاقاته وهمّته لمشاكسة النّص قراءة وإنتاجا.

تكمن بؤرة النص في عبارة : "يراودها ظلّها" "فكلمة ظل" تبعثُ إشعاعات دلالية تنبثق منها دراميّة الرّؤيا الشعرية وتناقضاتها التي تلحُ على ذهنيّة المتلقي لما فيه من ارتكازات. فدلالة الظلّ في النّص هي الرّغبة الدّائمة والملحة في العودة إلى الماضي حيث الشّباب وعدم الاعتراف والاستسلام لمجاهل الشّيخوخة وتداعيات آلامها وعزلتها ، ومحاولة الهروب منها ؛ فالزمن يشكّل تغضنات المرأة وبثور شيخوختها والشمس هي ما أعاد لها شبابها على شكل ظلّ ؛ فظلّ المرأة العجوز على الجدار يكون متجانسا ،عندها تتوارى التّقاسيم والتّفاصيل الحقيقية لوجهها ، كما لا يظهر لون شعرها الأبيض؛ فقط انعكاس الظل على الحائط ...وربما دون انحناء.
إنّ ظلّ العجوز هو تلك الذاكرة التي لا تموت، فمقولة : "ليس الزمن ما يميتنا وإنّما تلك الجراح القديمة" تحققت بشكل كبير في هذا النّص، لذا فإننا نلمح رسيسا خفيفا يشعرنا بحرصها على الهرب من الإحساس بالضّعف والوهن .

إنّ الشّيخوخة جرح عميقٌ في النّفس البشرية خاصّة في نفس المرأة ، فشبابُها سرعان ما يرتحلُ ليتركَ في داخلها حسرة غائرةً وشكوى مريرة، تلك الشيخوخة شبح يحيل حياتها كابوساً يؤرقها ، فالإحساس بمرارة الشّيخوخة يدفع الإنسان إلى تذكّر أيّام شبابه كردّة فعل على تعاسة الحاضر وتفتّته(3) ؛ لذلك نرى أنّ هذه العجوز استأنست بذلك الظّل المنسدل على الجدار معتبرة إيّاه ملاذا وأملاً تتشبّث بتلابيبه كي يحيلها من حالتها الكئيبة إلى ربيع الشباب. فالظّلّ الذي ارتسم على الجدار ماهو إلّا حلم تصبو إليه. ..
***

في الأسطورة الرومانية ، طلبت "سيبل" من الآلهةِ الخلودَ الدائم، ونسيت أن تطلب الشباب الأبدي، فظلّت تصغر وتصغر إلى أن وُضعت في قفص صغير، وعندما سألها بعض الأطفال العابرين: ماذا تريدين يا "سيبل"؟ أجابتهم قائلة: أريد الموت ؛ بمعنى لا قيمة للخلود دون الروح الشابّة، فالخلود هو شباب الروح ومكاسرة الموت ، لذلك " يفضّل الإنسان الذي يطمح للكمال أن يتناغم مع كلّ المعطيات من داخله، ويستمتع بكلّ معطيات الطّبيعة، فيسود من داخله سلام ومحبّة وهدوء بين العقل والنّفس والروح"(4). ؛ فالمرأة العجوز لم تجد تلك الجراح وآثار الزمن على الجدار بمعيّة الظّل؛ إنّها تعدّه إكسيرا للحياة يمنحها الشّباب والخلود على الدوام...

إنّ نص الشاعر "حسني التهامي" دعوةٌ إلى إعادة التّأمّل ؛ فهو يطرح تساؤلات جديدة تسهم في القبض على الشيفرة الدلاليّة، ليبدو أنّه منفتح الدلالة ويفتح الأفق على مصراعيه للتّأمّل والتّأويل وبذلك يمكن تفجير دلالاته إلى ثنائيات ضديّة: كالفناء والخلود، القبح والجمال، الحضور والغياب، الماضي والحاضر، الموت والبعث، الأمل واليأس، التّوق والمحال...إلى غيره من المتضادّات... " فالتّضادّ تقنيّة جماليّة فنّيّة يتحوّل النّص بموجبها إلى حركة تستوعب في صلبها مفارقات الحياة، وكلّ ما فيه يوحي بحركة الجدل التي تعمل في الواقع" (5) إنّها مزاوجة مبدعة بين المتضادّات؛ اللّامرئي(الشّباب) في المرئي (ظلّ الجدار) والعاقل(المرأة العجوز) في الّلاّعاقل (الجدار) بطريقة فنّيّة عاليّة تؤدّي إلى توهّج وتألّق الهايكو؛ إنّه تأمّل هادئ في متناقضات الحياة ومفارقاتها، وبهذا نستطيع أن نميّز في هذا النّص خاصية جوهريّة للهايكو وهي خلق العديد من المفارقات التي قوامها الزمن والحدث، وهذه المفارقات ذات الارتباط الوثيق بالزمن تقوم برصد التّحول الموجع الذي يمارسُه الزمنُ في ملامح الواقع.

تمكّن الشاعرُ في نصه - عن طريق مفردات بسيطة سلسة وبعيدة عن التّأنّق - من وصف المشهد بعفويّة ودون تدبّر أو تفكير- من تكوين ملحميّة خاصّة، فالنّص كلاسيكيٌ من الطراز الرّفيع يتميّز بالعمق الضّارب بجذوره في الوجدان الإنساني.
***
يمكن الإشارة إلى بعض تقنيّات الهايكو التي تبدو واضحةً في النّص كــ:
بنية النّص: "تورياوازه" الذي يتأّلّف من مشهدين أو مشهد ثنائي ، مشهد أمامي يتمثّلُ في : (على الجدار) ومشهد خلفي ( يراودها ظلّها / امرأة عجوز ! ) ومن خلال ازدواج المشهدين يحدث انفجار الدلالة، وعلى المتلقّي أن ينفذ إلى عُمق الطبيعة ويصغي لها، ليصل في الأخير إلى العمق الإنساني ، وهذا لن يتأتّى طبعا إلّا عبر إعمال خيال المتلقي أو من خلال ثقافته المتراكمة وقدرته على ملءِ الفراغات والفجوات، فالشّاعر يأخذ بيد قارئه إلى أفقٍ من القوة والجمال ومن ثمّ تحليل مشاهد الطبيعة. لقد استحضر الهايكست الظلّ بوصفه زمانا مرتبطا بحياة الإنسان وذكرياته، وبالتّالي تمكّن من صهر المشهدين بطريقة ذكيّة.
الكلمة الفصلية "كيغو" Kigo: : من بين شروط الهايكو الياباني الكلاسيكي انضواؤه على كلمة فصليّة؛ وهي إشارةٌ مباشرة أو غير مباشرة لشهر من الشهور أو فصل من فصول السنة. وظّف الشّاعر كلمة "ظل"؛ وهو كيغو"صغير" غير مباشر دالّا بذلك على فترة النّهار المشمس طبعا؛ فالمصدر الرّئيس لظهور الظّلّ هو ضوء الشّمس، لذلك دائما يتخلّى الظّل عن الجسم في الظّلام إذا كان في منطقة معتمة خاليّة تماما من الضّوء، كما تتخلّى كلّيا عن الجسم في النّهار عندما تكون السّماء غائمة. وبهذا يمكن أن نقول إنّ الشاعر تمكّن من أن يجعل الصورة التي تنتجها الطبيعة عن طريق ذلك الظّلّ الذي ينعكس ويسقط على الجدار تمتزج بالأمل الذي يداعب تلك المرأة العجوز.
القطع" Keriji" (-) وهي الشرطة أو الوقفة التي وضعها الهايكست في نهاية السطر الأول، وهو صمت زمَنيّ يقسمُ الهايكو إلى زمنَين من أجل تهيئة القارئ للدخول في جوهر ولبّ الفكرة المراد التّوصّل إليها، هي في الهايكو الياباني عبارة عن حرف مثل ya أو kana أو keri أو ramu أو tsu وغيرها من الحروف . إلاّ أنّ اللّغات الأخرى كالعربيّة والفارسيّة والإنجليزيّة وغيرها لا تحتوي على هذا الحروف لذلك تترجم الكايريجي( kireji) بعلامة ترقيم توحي الصّمت وعلامات الترقيم التي استخدمت هي ( ،) أو (…) أو (-) أو (/) فقد قطع قصيدته وقسّمها إلى قسمين، ليدعو القارئ بذلك إلى اكتشاف العلاقة بينهما، ومن خلال إدماج دلالة السطرين الثّاني والثّالث، فالكايرجي (-) يمنحُ بُنيَةَ الهايكو تماسُكاً كبيراً ويدعو القارئ للتّأمّل.
تقنيّة التّنحي: يقول "هينغسون" وهو أحد منظّري الهايكو الكبار" إنّه من الجيّد أن أشركَكَ بشعوري الذي شعرت به إزاء مشهد لكن الأصدق والصّحيح أقدّم لك المشهد ليكون لك مشاعرك الخاصّة"، لذلك فالتّنحي لا يكمن في تواجد أو عدم تواجد الذّات الشّاعرة بشكل أو بآخر في النّص، بل هو تقديم المشهد من دون تدخّل الهايكست في مجريات الأحداث؛ فالهايكو هو" الإيحاء أو النّهاية المفتوحة وعدم تدخّل الشّاعر في الحكم مع موضوعيّة صادقة في نقل التّجربة هي ما يطلق عليها روح الهايكو" (6) ؛ فالهايجن" حسني التّهامي" هنا قام بالتقاط المشهد وكتبه بموضوعيّة دون أن يتدخّل في حالةِ المشهد وعفويّة الطّبيعة ، مع تجنب إظهار المشاعر أو التّغني بذاتيّته.
ثنائيّة الوابي - سابي: يقوم الهايكو على مبدأ(الوابي –سابي)، فعندما يكتب شاعر الهايكو يمسّ هذه الثنائيّة؛ (الوابي –سابي) فتراه يقبض على الجمال الزائل والخصائص المقيمة فيه، وبذلك فهو يُرِي المتلقّي الموضوع المعالج بدقّة ، كأنّنا أمام رغبة في إصلاح أو إيقاف آثار الزمن أو السّن أو..."فإذا كان بإمكان الشيء المعنيّ أو التعبير أن يُوْقِع في داخلنا، شعوراً من الاكتئاب والشوق الروحيّ، فبالمستطاع القول إن هذا الشيء هو وابي – سابي، وهو يتضمّن الاعتراف بثلاثة حقائق بسيطة: لا شيء دائم، لا شيء منتهٍ ، ولا شيء كامل"(7)، فيتجلّى السابي من خلال ما ألحقه الدهر والتقدّم في السّن من آثار وعلامات تظهر في صورة تغضنات وتجاعيد المرأة العجوز.
ويشتدّ الوابي من جهته في شعر الهايكو على الشّعور الجذري بالهدوء والحزن الهادئ ؛ يطلق بعضهم على ثنائيّة الوابي –سابي اسم( جماليّة العزلة) (8)؛ تتّضح في تلك اللّحظات التي تستمتع بها العجوز وهي تشاهدُ صورتَها من خلال انعكاس الظلِ على الجدار مُرمِّمٍا بذلك تلك الشّروخ في تقاسيم وجهها وإخفاء ملامح الهرم والكبر كلّيّة، وبالتّالي يمكن عدّ الظّلّ بشارة ولادة جديدة ونشأة الحياة في جنان الخلود؛ هي رؤية تفاؤليّة تنفي كابوس الشيخوخة والأفول...
اختزال شيبومي: وذلك باستعمال كلماتٍ قليلة وعميقة، اعتمد الشّاعر سيّاسة أو تقنيّة خاصّة في تركيز اللّغة وتكثيفها عبر ستّ كلمات زائدا الضّمير المتّصل " الهاء" مرّتين؛ الهايكو اختزال للوجود بكلمات تقتنص الزمان والمكان دفعةً واحدة. فمن خلال مفردات قليلة ومختزلة تمكّن من رسم لوحة شعريّة متكاملة ومكثّفة، لتحفيز مخيّلة القارئ على البحث عن دلالاتها العميقة ؛ وهذا فعلا ما لمسناه من خلال نص الشاعر هايكو بصري بامتياز؛ التقط الشّاعر مشهدا حسّيّا من عمق الطّبيعة ومن واقع ما يجري حولنا فتمكّن بذلك من رسم لوحةٍ شعريّة مكثّفة.
يقول المعلم الثاني للهايكو الياباني "يوسا بوسون"( Buson Yosa) ( 1719- 1778)" لغة الهايكو المثاليّة هي اللّغة المألوفة ( (ordinariالتي مع ذلك تتجاوز المألوفيّة أن تتجاوز المألوف لهو أشدّ أنواع الصّعوبة"(7)، ومقولة " بوسون يوسا" تؤكّد أنّ البساطةَ التي يقوم عليها الهايكو هي بساطةٌ خادعة، تحمل في طيّاتها عمقا وتجاوزا للمألوف حتّى وإن بدت لنا ساذجةً ،فهي ترمي إلى فلسفةٍ أعمقَ من ظاهر القول، وهي أشبه بما كان يسمّى قديما السهل الممتنع مضافا إليه معنى العمق كأنّه ( السّهل الممتنع العميق).
في النهاية نحن أمام نصٍّ عميقٍ آسر مدهش يخفي أكثر ممّا يظهر، كلماته البسيطة تتفجّرُ بدلالاتٍ عميقة ، يكتنفها عالمٌ كبير من الدهشة والعمق والجمال؛ فقصيدة الهايكو ممارسة شعريّة حداثيّة تقوم على التّكثيف الدلالي، فأضحى تخيّر المفردات القليلة للتّركيب يحمل ثقل الدلالات المتوالدة عن هذا التّكثيف، مايجعل القارئ يستحثّ ذاكرته المعرفيّة والقرائيّة لأجل الإحاطة بهذا الكمّ من الدلالات المكبوتة في إطار رسم الكلمات التي تتفجّر كلّما قاربها المتلقّي بالقراءة ليعيش الدّهشة في كنف جماليّة تفاعله مع النّص.
نور الدين ضرار. نفحات من الهايكو. ص7.
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري. المواقف والمخاطبات. ص 51
ينظر: كمال أبو ديب. الرؤى المقنّعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي- البنية والرؤيا- . ص436.
علي محمد عبد الله. الإنسان حكمة الروح والجسد- تأويل المعاني والدلالات. ص8.
محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر. ص37.
حسن الصهلبي. صوت الماء – مختارات لأبرز شعراء الهايكو الياباني- هدية مع مجلة الفيصل. ع (477- 478) .
شاكر العيبي. معجم الأمثال الصينيّ – مقاربات عربيّة للشعريات الصينيّة. ص18-19.
ينظر المصدر نفسه، ص18.
عاشور الطوايبي. سادة الهايكو. ص10.

حسني التهامي أنموذجا

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى