جبل السماق ـ سوق الحدادين ( دراسة نقدية )
مما لاشك فيه أن الطريق إلى التاريخ بعدد أنفاس المؤرخين ، وهذا ما جعله أكثر العلوم الإنسانية قبولاً ورفضاً في آن ، وجعل منه فخاً شديد التمويه ، وجعل مقاربته محفوفة بالمخاطر ، وكل هذا الإشكال ناجم عن معرفة المؤرخ بما للتاريخ من قدرة على صياغة أو توجيه الحاضر ، أو قدرته على تشكيل نسق ثقافي يتحكم بمرافئ المستقبل ، ولا أزعم أن جبل السماق كتاب ينزع إلى التاريخي بل هي رواية تحاول التحليق بجناحي التاريخ والواقع ، وذلك من خلال رسم ما لم يرسم ، أو كتابة ما لم يكتب عنه خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا فهي لم ترصد المقاومة الشعبية على صعيدها القطري ، ولم تهتم كثيراً بالأسماء التي يعرفها أي طالب مدرسي من خلال ما درسه في كتب التاريخ . فقدمت المكان على صغره بطلاً إيجابياً للرواية عبر فضائه المتكون من البلدة وما يحيط بها من الجبال والأودية ومن الناس البسطاء في نضالهم ضد المحتل ، راصدة ما يمكن أن يفرزه هذا المكان من عادات وتقاليد ، والأهم من هذا وذاك طباع النفوس التي تعكس تلك البيئة الجبلية القاسية من طرف والمعطاءة من طرف آخر ، وقد تجلى ذلك في عدد من الشخصيات وعلى الخصوص في شخصية الثائر نجيب سخيطة ، وبعيداً عما هو تاريخي ووطني في الرواية فإن ما سوف أتحدث عنه هو الجانب الواقعي فيها ، والذي يشكل جناحها الثاني وذلك من خلال نزوع المرأة إلى الانفلات مما يسميه الناقد صلاح صالح ( الحجرة السرية المغلقة ) ، على اختلاف درجات الانغلاق وتنوعها .
رغم أن الرواية تزخر بالشخصيات الرئيسة و الثانوية و الهامشية إلا أن الشخصيات الأنثوية على شيء من القلة نسبياً ومع قلة عددها إلا أنها تتمتع بأدوار هامة وتساهم في رسم صورة متكاملة للواقع السوري في بلدة أريحا في ذلك الوقت من التاريخ ، والذي يمتد على وجه التقريب من سنة 1920 إلى سنة 1946 . وفيه نضع أيدينا على عدة أنماط مختلفة قدمتها الرواية للمرأة ، واستكملت فيها تشكيل لوحة الواقع المعاش آنئذ .حيث يتبدى الصراع جلياً ضد عاملين من عوامل القهر ، فهو إما صراع ضد المحتل ، وهذا بدافع النزوع نحو التحرر ، وإما صراع ضد الواقع ، أما الأول فواضح وجلي ويكاد يطغى على فضاء الرواية بشكل عام ، بينما تورى الثاني وانكفأ على نفسه ليتمظهر على شكل توترات نفسية تصل مع بعض الشخصيات حد السعي للانفكاك من أسرها ، وإذا كان الصراع الأول صراعاً جماعياً ذا نتائج تعود على الجماعة ، فإن الصراع الثاني كان صراعاً فردياً بدوافع ذاتية تنزع إلى الخلاص والخلاص الفردي ليس أكثر ، وقد تبدى ذلك في شخصية لحلوحة خاصة ومعظم الشخصيات النسائية عامة . إذ إن فكرة التمرد على الواقع وعلى أسباب القهر الاجتماعي أو الاقتصادي كانت فكرة ـ حسب ما أعتقد ـ مؤجلة ، وتأجيلها له ما يبرره في ظل سيادة أولوية التحرر الوطني ، شأن أي بلد محتل يؤجل صراعاته الداخلية ليوحد جهود المجتمع في سبيل الخلاص من المحتل . قد نستثني من ذلك شكلاً من أشكال الصراع ألا وهو الصراع ضد الجهل ، حيث تظهر ( فاطمة ) وبفطرية مطلقة من أهم الشخصيات التي حرصت على تعليم أبنائها أو أبناء ضرتها في المدرسة تحديداً ، وهذا ما تجلى من خلال موقفها من تعليم إبراهيم ، الذي يشكل أحد أهم الرواة في الرواية . وبموقفها هذا تشكل فاطمة أحد أهم الأنماط النسائية في الرواية والتي آثرت فرزها على الشكل التالي :
* نمط المرأة المستكينة لواقعها المحبوسة داخل حجرتها السرية والتي تمثل الأرضية الأساس لما سماه ( إسماعيل فهد ) السجادة المترامية المساحة ، وذلك على كلمة الغلاف الأخير للرواية فغالبية الشخصيات النسائية في الرواية من هذا النمط إذ إن الصراع مع المستعمر يشغل غالبية الشخصيات الذكورية ، مما جعل كثيراً من أشكال الصراع الأخرى خاصة الصراع من أجل الخبز أو من أجل توكيد الذات تتراجع خلفاً ، فالإقطاعي ما يزال السيد المطلق وما زال العمال يستجدون العمل ، والرجل في البيت ما يزال سيداً مطلقاً وما تزال المرأة مستكينة قانعة جل ما تصبوا إليه رجل ، والكل خانع أو راض بما قسم له ، حتى أنه ليمكننا القول أن ليس ثمة صراع على الصعيد الاجتماعي قط ، ولهذا نرى حسنة ـ وأمها من قبلها ـ ضحية تسلط فارس بيك فهي نموذج الشخصية الضعيفة وأقصى حالات الدفاع عن النفس عندها هي الانكماش داخل درعها وارتداء الزيّ المتعارف عليه بين نساء البلدة ، إذ إن لباسها مختلف وهي الآتية من قرية ريفية ، ولا تملك أمام ضغط فارس ابن البيك إلا الهروب الذي لا يجدي نفعاً حتى عندما حملت منه ـ اغتصاباً ـ تم إبعاد الطفل عنها ووضعه على باب الجامع ليلتقطه أحد المحسنين في حين لم تملك حسنة أكثر من أن تجن وتهيم في الشوارع ليصفق لها الأولاد الصغار ويجعلونها تسليتهم . وعلى هذا الأساس يتبدى الهروب عند حسنة بمظهرين اثنين الأول هروب من المكان ، وذلك في محاولاتها التخفي عن فارس بيك ، والثاني هروب نفسي حيث انكمشت إلى نفسها ضمن حالة جنون ناجم عن الإحساس بالعجز تجاه تسلط قوى الإقطاع آنئذ .
وإذا كانت حسنة غريبة عن البلدة ( ما جعلها بموقف أضعف ) فإن عائشة ومريم ووهوب من بنات البلدة ، وكل ما يملكنه من فعل هو الانتظار والتودد للخطابة أم خيرو وعسى فرجاً يأتي على يديها والفرج محصور فقط في الانتقال من بيت الأب إلى بيت الزوج في عصر هو أشبه بعصر سي السيد حيث زمام الأمور بيد الرجل فقط ، وتتجسد هذه الاستكانة في شخصية وهوب بشكلها المطلق حيث تمثل وهوب أنموذج الحبيسة في حجرتها السرية المتمثلة في أحلام اليقظة فهي وإن كانت بين جمع من الناس تراها مغمضة العينين تحلم بفارس يخرج من الحكاية يأتيها على حصانه الأشهب يفتح نوافذ حجرتها يتملى جمال الشعر المسدل قبل أن يعلن حاجته للحناء ، ولكن الحكايات تنتهي والليالي تمر مسرعة وتبقى وهوب داخل حلمها إلى أن تذوي وتبدأ بالانطفاء . ( تضع طاسة الحناء أمامها ، تنظر إلى اللون الأخضر يتحول أسوداً ، يتحجر القلب متفحماً في لحظة انطفاء ! ) صـ 204 . ما جعلها كائناً يثير الشفقة مقتربة إلى حد كبير من مصير حسنة وإن لم تخرج إلى الشارع وتهيم فيه ، فقد انكفأت على صراعاتها النفسية التي تبدت على شكل نوبات من الغياب الذهني ، وحتى على شكل نوبات هستيرية ، وذلك أيضاً نتيجة إحساسها بالعجز الشديد أمام رغبات الرجال الذين يرغبون بالصغيرة التي تعيد إليهم شبابهم الضائع ، وكذلك أمام حالة العنوسة والتي فيما يبدو تشكل رهاباً لكل أنثى تجاوزت العشرين استطاعت الكاتبة أن ترصد أعراضها النفسية المنعكسة على من كُتبت عليها بشكل جميل .
أما فاطمة صاحبة الحظ الأوفر في الرواية فنراها متماشية مع المتوسط العام فهي ربة بيت بكل المقاييس تمتلك قدرات هائلة في التعامل مع الأوساط المختلفة من حولها ، إنها تجسيد للنبل ، فعن طريق اهتمامها بزوجها ، وخضوعها له ، والمبالغة بخدمته ، لم تترك له مجالاً للاستئساد عليها ، واهتمامها بأولاد ضرتها ـ تماماً كأولادها ـ لا يترك للزوجة الثانية الجميلة الشقراء الجديدة مجالاً غير الخضوع لها ، كذلك اهتمامها الوافر بالمجتمع الذي تعيش فيه يجعلها سيدة تفرض احترامها على الآخرين ، والأهم من هذا كله نشاطها السري لصالح المقاومة ضد المحتل وهذا ما يجعلها محط احترام الجميع . وكل هذا يتم بصمت ودونما أدنى تذمر ، ولأنه يتم بصمت فقد أدرجتها ضمن هذا النمط من الشخصيات داخل الرواية ، والحق أن هذه الشخصية أقل ما يمكن القول عنها إنها تمثل الجانب الإنساني الذي يتعامل مع المشاكل بالصبر والعقل والحكمة ، على خلاف التعامل الذكوري الذي يميل في جوانب كثيرة من مشكلاته إلى اللجوء لمنطق القوة في حلوله عاكساً بذلك الجانب الوحشي في الإنسان . صحيح أن فاطمة لا تملك أدنى فكرة عن التمرد ( باستثناء التمرد ضد الدخيل الأجنبي ) لكنها بفطرتها وإعمال العقل تمثل الجانب المتنور للمرأة العربية ، فالعنف كلمة محذوفة من قاموسها أصلاً ، لذلك نراها تشن حرباً على الجهل من خلال التوكيد على التعلم ، وذلك في بيئة تفرض على الأسرة استثمار كل الجهود والإمكانات لاستمرارية الحياة ، فرب الأسرة حداد ، ولا يرى في غير الحدادة مستقبلاً لأولاده ، لكن حكمة فاطمة جعلته يرضخ لطلباتها دوما وإن ماطل أو تأخر ، وكيف يستطيع رفض طلبها في تعليم ابنه من ضرتها ـ وهي في الغالب الأعم لا تطلب لنفسها شيئاً ـ إنها الأم المنفتحة على المستقبل ، ممثلة بذلك أنموذجاً متجاوزاً عصره ، تواقاً إلى الأفضل وذلك بفعل الفطرة وليس الأيديولوجيا .
في النمط الثاني من الشخصيات النسائية نرى المرأة المناضلة على اختلاف صور النضال بدءاً بإيصال الطعام والسلاح وانتهاءً بالقتال وحمل السلاح ، فخديجة التي فقدت أسرتها في قرية " سرجة " إثر قصف جوي ومدفعي بقيت تحمل الطعام وأحياناً الذخيرة إلى المقاتلين في الجبل إلى أن عاجلتها رصاصة قبل أن تنمو في صدرها بذرة الحب بينها وبين نجيب والذي يعكس حالة عشق خاصة وصامتة تعكس صراعه النفسي الحاد مظهراً أن قتاله للمحتل وتشرده بين ثنايا الجبال ما هي إلا لرغبته الشديدة في أن يحيا حياة كريمة بملء حريته ، كذلك كان مصير شقيقة " أبو عدلا " التي عرفت بأخت الرجال حيث شاركت بأكثر من معركة إلى أن قتلت مبرزة الدور الفعال للمرأة في حركة التحرر الوطني ، أما فاطمة فقد ألمحت الرواية إلى عدد من النشاطات النضالية دون أن تبرزها درامياً في حبكة الرواية . ويشكل هذا النمط من الشخصيات نزوعاً أولياً نحو توكيد الذات الأنثوية وقدرتها على المشاركة جنباً إلى جنب مع الرجل ، وهي بالمحصلة تعكس النشاط الإنساني بكل مقوماته العفوية بعيداً عن التنظير الأيديولوجي خاصة وأن المرحلة ككل لم يكن فيها من الشعارات غير شعار التحرر .
أما النمط الثالث فقد استطاع ــ مع الشخصيات الذكورية ـ الثانوية ـ مثل : حوّيسي وشيخ الشباب و" أبو رقعة " وفارس بيك وصدّيق ــ أن يمنح الرواية نبضها ويخرجها من برودة التاريخ إلى حرارة الراهن وتوهجه بكل ما فيه من ألم وجوع ومتعة ومشاعر متناقضة ، حيث تجبهنا الرواية ومع بداية الفصل الثاني بعلاقة غامضة تجمع بين حوّيسي صاحب الخان والحمام والبستان ، الحشاش والمقامر وبين لحلوحة السجينة في إحدى غرف الخان ، امرأة فائضة الجمال طافحة الأنوثة ، يمتلكها حوّيسي ويضعها في غرفة لا تُفتح إلا له أو للحارس عندما يأتيها بالطعام واللوازم . ومع تقدم الرواية نتعرف إلى كثرة العشاق الهائمين بها كما نتعرف على القيد الذي قيدها به حوّيسي ورضيت هي بذلك ، إنه صك العرفان بالجميل فقد أنقذها من الفقر والتشرد والجوع والموت حين وجدها ملقاة على رصيف مهجور في مدينة ساحلية تنزف دماً ومغمى عليها ، احتضنها واعتنى بجراحها وحينما كبرت واكتملت أنوثتها حبسها في الغرفة خوفاً عليها من عيون رواد الخان خاصة ممن كان منهم يتعاطى الحشيش أو يلعب بالقمار ، ولم يتبق للحلوحة سوى نافذتين تطل من إحداهما على حركة الشارع ومن الثانية على صحن الخان ، ومع ذلك تبقى فترة طويلة في حالة من العشق لهذا السجان ، يجلس عند باب الخان يغني لها ، تطل عليه من النافذة تغمزه فيصعد إليها ، ولكن عندما تصل إلى قناعة بأن هذا العاشق إنما هو عاشق للجسد الذي يمتلكه ، يأتيه ساعة يشاء ويتركه ساعة يشاء ، دونما أدنى تفكير بما لهذا الجسد من حق إنساني في التعايش مع الناس ككل الناس ، يبدأ عندئذ هذا الحب بالتبخر من صدرها وتبدأ العيون بالبحث والتنقيب بين هذا الكم الكبير ممن يتوددون لها بطريقة أو بأخرى ، فالغرفة لم تعد بيت الأمان ولم تعد خلاصاً من الفقر والتشرد ، لقد أحست لحلوحة ،أنها دفعت ثمناً غالياً جداً من جسدها مقابل عرفان حوّيسي معها ، والغرفة ـ الأمان أصبحت غرفة للقهر والكبت والحرمان ، ومع ازدياد النضج الجسدي يزداد النضج العقلي ويتعاظم النزوع نحو الاستقلالية والتحرر ، وتبدأ مرحلة التوتر والقلق خاصة وأن اللذين يخطبون ودّها كثيرون فبدأت تتحسس أجنحة تطير بها ، وإذ تلتقي نظراتها بنظرات صدّيق ذلك الذي غرس بعقول أهل البلدة جميعاً أنه درويش من أولياء الله الصالحين ، والذي يرتدي أسمالاً بالية متسلحا بقرن وعل ، تُدرك أن هذا " المخبول " لا يمكن إلا أن يكون شخصاً عاقلاً فنظراته تشي بشهوة طافحة ومعان عاشقة ، فبدأت تخصه بنظراتها معلقة كل آمالها بالتحرر عليه ، لقد بات الجسد يأبى الامتلاك وبات الفكر يخطط للتمرد على الواقع ، وبات صدّيق يخطط بشكل واعٍ للهروب بها إلى أن يتم ذلك . والخلاص عن طريق الهروب ـ روائياً ـ له ما يبرره هنا فلحلوحة وصديق كلاهما غريبان عن البلدة ولذلك شكل هذا الهروب خلاصهما .
أما فضة ـ العاهرة ـ فقد وجدت خلاصها وهي المنتمية إلى ذات المكان بالتحول إلى شكل آخر . لقد ورثت مهنتها عن أمها فتفتح وعيها على الكون من خلال هذه العلاقة النفعية بين الجسد والمجتمع ، لكن قسوة الواقع ومرارة العيش يزرعان في نفسها بذرة الخلاص فأعلنت توبتها على أمل أن تكون زوجة ـ بدل أن تكون خليلة ـ لشيخ الشباب الذي عين لها حارساً على باب بيتها إثر تعرضها لاعتداءين متتاليين من فارس بيك ومن " أبو رقعة " ، إلا أن شيخ الشباب حطم لها هذه الأحلام بشكل واضح وصريح ( أنا أتزوجك أنت ؟ تحلمين أن أحمل بؤرة القذارة هذه وأضعها في بيتي ؟ ) صـ 191 . وهذا ما شكل لها انعطافاً حاسماً في حياتها ، تعززت هذه الانعطافة عندما دهمها صدّيق بعد أن أخاف الحارس ودخل إليها ، فارتعشت خوفاً وقلقاً وما إن أدركت أنه يريدها هامساً في أذنها بعض عباراته الموحية حتى صور لها خيالها أن الله قد استجاب لدعواتها وأرسل لها هذا الولي منقذاً :
" تمددت فضة كجثة هامدة ، أغمضت عينيها ، كانت تخشى أن تقع على نظراته المتوحشة ، لكنها لم تستطع مقاومته ، شيء ما في داخلها وقف حاجزاً بينها وبين الرفض ... وحين غاصت في الفراش تحت ثقل جثته الضخمة ، شعرت بأضلع تتكسر ، وآلام تمزق شيئاً في روحها ، وأن السماء قريبة جداً ، ارتسمت ابتسامة رضى باهتة على شفتيها . لقد أتتها الرحمة أخيراً .... كانت ملامح شيخ الشباب تتوارى من ذاكرتها المرئية ، وتتلاشى مئات الوجوه لرجال مروا في حياتها دون أن يحفروا في القلب حرف محبة أو يتركوا بصمة فرح " صـ 227 لقد شكلت هذه الحالة ( شبه الاغتصابية ) حالة تطهير نفسي لهذه المرغمة على العهر بفعل النشأة الأولى لها فقد غسلتها من دنسها ، وجعلتها تعيد النظر في شكل حياتها ، وما يؤخذ على الرواية هنا هو إغفالها نقطة التحول بما يصاحبها من توترات ومعاناة فقد جعلت الكاتبة هذه الشخصية تختفي كلية عند انتهاء عملية التطهير هذه فتغيب فضة مع حارسها فترة زمنية كانت كفيلة بأن تذوي صورتها من ذاكرة الناس ، لتعاود الظهور من جديد فيما بعد باسم جديد ومهنة جديدة لقد صار اسمها بدرية ومهنتها مداواة الناس من أوهامهم وأمراضهم وذاع صيت " الشيخة بدرية " وتوافد الناس على بابها " للحصول على حجاب يبعد الأرواح الشريرة ، وآخر يقيد الزوج إلى فراش الزوجية " لقد تمكنت أخيراً من استلاب الناس بعد عمر من الاستلاب الذي عاشته مقموعة ومقهورة ، استطاعت أن تطمس تاريخها بمجمله وتستبدله براهن مغاير حتى أن فارس بيك لم يستطع التثبت من شكّه بها وإحساسه بأن رائحة الطيب المنبعثة من هذه الشيخة هي ذات الرائحة التي كانت تعبق بأنفه يوم كان يزور فضة ، وبقيت بدرية ضمن هالة من الغموض ، لم يسأل أحد عن أصلها ، وربما لولا بعض الإشارات المتناثرة هنا وهناك في فضاء الرواية لاستعصت حتى على المتلقي .
من جانب ثاني يمكننا رصد حركة الصراع بين شخصيات الرواية من خلال المنظور الدرامي ، إذ يكاد الصراع يقتصر على مبدأ الفعل ورد الفعل ، فوجود غازٍ يقتضي بالضرورة وجود المقاوم ، ووجود كتلة وطنية يقتضي بالضرورة وجود كتلة عميلة هذا على الصعيد السياسي أما على الصعيد الاجتماعي فكما سبق وذكرت فإن الصراع فيها كان مؤجلاً وفي خضم الرواية بالمجمل نكاد لا نعثر إلا على حالة واحد تتمثل فيما كان يسمى آنئذ ( الكبسة ) وهي شجار بين شباب عائلتين أو بين عصبتين ولكنه يحدث بالاتفاق على موعد الشجار والكبسة في الرواية كانت بسبب إشاعة أطلقت على ( عيوش ) التي يعمل أخوها خادماً عند قدري بيك زعيم الكتلة الوطنية في البلدة ونالت الإشاعة محمد زاهر ابن الفرع الفقير في عائلة الآغا والطريف في هذا الشجار أنهم اكتشفوا اللعبة عند مجيء الدرك فتحولت العصبتان للقتال ضد الدرك ، متحولاً الصراع بذلك من اجتماعي شخصي إلى وطني مقاوم ، ما أفقد الرواية ـ بتصوري ـ جانباً من جوانب رصد الحركة التفاعلية والتصادمية داخل بنية المجتمع ذاته ، يبقى أخيراً ما يطلق عليه الصراع النفسي وأحدد منه حصراً ذلك الناجم عن طرح الأسئلة العميقة والمتصادمة مع سلطة الأنا الأعلى والتي تسبب الحيرة والألم وتضع النفس على بوابة التيه قافزة بالآن ذاته على سلطة المجتمع ، وهذا النوع من الأسئلة بتصوري لم تتوصل إليه الرواية العربية بعد ـ وليس فقط جبل السماق ـ ذلك أن هذا النوع من الصراع يفرز الشخصية الروائية المتفردة والمستقلة مثلما نرى في روايات القرن التاسع عشر وأواخر القرن الثامن عشر ، وقصور الرواية العربية عن إفراز مثل هذه الشخصيات لا يمكن رده إلى غير قصور بنية المجتمع العربي الذي مازال عاجزاً عن النهوض والتفرد وصقل هويته الخاصة بحيث يتجه حقيقة إلى سلم الحضارة ، وبتصفح بسيط نجد أن مجمل الشخصيات الروائية العربية شخصيات أفقية لا تجيد الغوص عمودياً في الذات بغية محاولة اكتشاف الدوافع والرواسب القارة في النفس والتناقضات المتحكمة بشتى أنواع الصراع ، وذلك من خلال السؤال والتشكك والحوار ، فتطور الشخصية الروائية ونموها هو في النتيجة رهن بتطور المجتمع ذاته وبحركة التغيير الذي تعتريه وبمدى قدرة الرواية على أن تكون ابنة بارة لأبيها ( المجتمع ) وبغير ذلك فإن أي تمايز لشخصية ما سيكون تمايز النبتة القصيرة في سهل عشبي تراها الأعشاب متعملقة أما أن نتطاول بقاماتنا لنضارع أشجار غابة فهذا يلزمه الكثير من التغيير ومساحات واسعة من الحرية ، وقدراً كبيراً من التقدم والرقي .
الرواية هي الأولى للروائية والقاصة إبتسام إبراهيم تريسي ، وهي صادرة عن دار( فصلت) في مدينة حلب سنة 2004 ، وتقع الرواية في أكثر من أربعمئة صفحة ، وهي الإصدار الثاني بعد مجموعتها القصصية ( جذور ميتة ) الحائزة على الجائزة الأولى في مسابقة سعاد الصباح عام 2001 .
أضيفت في 08/06/2005/ * خاص القصة السورية / المصدر الكاتب