الأربعاء ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم حميد طولست

ثقافة الأحذية‬

درساً بليغاً للعرب أو السود السذج الذين تفاءلوا بمجيء أوباما لمجرد أن لونه أسود واسم أبيه حسين.

بقدر ما أشدت كغيري، في لحظة عاطفية متشنجة هوجاء، بحادثة حذاء عادي استعمله منتظر الزيدي في رشقة فريدة، كانت اختصاراً مبدعاً اختزل ببراعة كل ما استحقه بوش وإدارته وسياساته.
بقدر ما تألمت حسرة على هذه الأمة التي صار فيها الحذاء يرفع فوق الرؤوس، ويتحوّل منتعله إلى مهدي منتظر على الطريقة الشيعية، و‬يكشف عن حالة عصاب جماعي‮ ‬وعن جرح نرجسي‮ ‬مهزوم ومتورم بداخلنا، وما زاد تلك الحسرة ضراوة، تأييد المثقفين ومن يحسبون أنفسهم مثقفين والمبشرين وأصحاب العمائم لهذه العقلية..

فلو كانت الأمة التي صدر من أحد صحفييها ذاك التصرف أو غيره مهما كان..أمة منتصرة وذات سيادة وكرامة ولا تشعر بالنقص والغبن والضعف إزاء الآخرين - والغرب على الخصوص- لجاءت ردات الفعل منها ساخرة، وأخذت الحادثة من باب التسالي‮ والتنكيت كما فعل بوش نفسه -‬على الطريقة الغربية والأمريكية- والذي كان متسقاً مع ثقافته ومنطق مجتمعه، حيث صرح اثر الواقعة مباشرة، بأن الذي لفت نظره مقاس الحذاء. ولعلها ’’براغماتية’’ الغرب التي تجعله يصل إلى أهدافه دون الانجرار وراء الانفعالات ومعارك جانبية التي تصرف عن الهدف. هذا هو الفرق بيننا وبينهم؛ هم يخططون وينفذون ليضربوننا بألف " حذاء" كل يوم عبر سياسات عملية وخطوات غير معلنة.. بل ويستثمرون كل الأحداث اقتصاديا، كما فعلت العديد من الشركات الإعلامية الأوروبية والأمريكية، التي تسابقت إلى تحويل "مشهد رشقة الحذاء" إلى لعب إيليكترونية تعرف إقبال الكبار عليها قبل الصغار.

ولكن الأمر ليس كذلك لأن الأمة التي وقع عندها ومنها الحدث، أمة تعتد بخلفها الفكري‮ ‬والأخلاقي‮ ‬والثقافي‮ ‬والسلوكي‮ ‬..

وكما يقولون،"الإنسان هو الابن الشرعي‮ ‬للبيئة الجغرافية والتاريخية والسياسية‮.. ‬التي‮ ‬تتحرك وتتقدم وتتحول وتتغير كماً‮ ‬وكيفاً‮ ‬وفق حراك الجدلية المادية التاريخية‮.. ‬وان المجتمعات في‮ ‬طرد تحولاتها المادية‮.. ‬تشكل طرد تحولاتها الفكرية والأخلاقية‮.. وأن التخلف المادي‮ ‬يرتبط بالتخلف الفكري‮ ‬والأخلاقي‮ ‬والثقافي‮ ‬والعكس صحيح‮. لذلك دفع هذا التخلف الفكري‮ ‬والاخلاقي‮ ‬والثقافي‮ ‬والسلوكي‮ ‬بالكثير من العرب والمسلمين إلى استثمار حدث حذاء عادي لإشفاء غليلها المنهزم، برفع قدره إلى مثل هذا الشأن المتعلق بالقيم والمعتقدات والغيرة والشهامة، وتحويله من نعل حقير، لا رمزية له غير الدوس به على النجاسة والقذارة، إلى مفخرة وعزة لها يحظي بكل هذه الاحتفالية الكبيرة في جل وسائل الإعلام الرسمية العربية وغير الرسمية، وتحويل صاحبه في لحظة شاردة من شاب يبحث له عن موقع قدم في زحمة زملائه، إلى أشهر صحفي تتسابق الفضائيات لبت صوره، وتغدق عليه المذيعات الفاتنات صفات البطولة والنضال بكثافة، حتى أن بعضهن لم تستطع مقاومة انفعالاتهن وميولاتهن لتشبيهه بغيفارا ومونديلا ولوتركينج وباتريس لومومبا.

فليس بغريب ولا مفاجئ في أمة مهزومة داخليا وخارجيا، فكريا وسياسيا، ماديا وروحيا، عسكريا ومدنيا، اقتصاديا واجتماعيا؛ أمة جائعة لأي شيء يذكرها بأن لديها بعض الكرامة، متعطشة لأي انتصار لأنها لم تعرف انتصارا حقيقيا في تاريخها مند عهد صلاح الدين الأيوبي.. أن تتعلق بأصغر قشة تظن فيها خلاصها، مما هي فيه من مذلة وهوان؛ وترهن مستقبلها في انتظارية غبية تتسول القادة خلالها، وتستجدي الأبطال، وإن كانت بطولات كرتونية خرافية وهمية مخدوعة، على أنها العصا السحرية لحل أزماتها المتوارثة.

الأمر طبيعي وعادي وغير مفاجئ، في زمن الهزائم والإنكسارات، أن يتسيد الإيمان بالمعجزات والكرامات والخرافات إلى درجة الهوس، وتتحول الأحداث الصغيرة العادية، لتصبح انتفاضات كبيرة مباركة، وتنتفخ الصحف ومواقع الإنترنت، بمقالات المديح وتبجيل المشهد والحدث على أنه من الكرامات العربية النادرة الحدوث، ويصبح الكثير من مثقفي الأمة ونخبها، مجرد مجاذيب وشيوخ طرق صوفية، يتمايلون يميناً ويساراً مع الأعلام الخضراء والصفراء والحمراء والأحذية المختلفة المرتفعة فةق الرؤوس، وما بين الترنحات العربية لم يعد غريباً أن يبني المنهزمون "مقامات" عالية لما حدث، ويجعلون من فاعله بطلاً قومياً عربياً، يدخل التاريخ من بوابة حذائه، وإن كان ذاك صحيحا في جانب كون الواقعة في حد ذاتها، تجسيد عبقري للرفض العربي المكبوت للسياسات الأمريكية. وغير صحيح في جانب آخر لكون التعامل معه، حالة عصاب جماعي‮ ‬وتعبيرعن جرح نرجسي‮ ‬مهزوم ومتورم داخل الأمة العربية والذي‮ ‬يجعلها للأسف ترى في‮ ‬الحذاء رمزية ليست له وليست فيه. يبدو كل ذلك جليا في الطريقة التي تعاملت بها هذه الأمة مع الحدث وتوابعه غير المنطقية والتي تشير إلى أزمة هيكلية خطيرة في العقل العربي الذي يعيش كل مرة ومع كل حدث " المثل العربي القائل" ‬رجع بخفي‮ ‬حنين" ‬الذي‮ ‬يُضرب للتعبير عن خيبة الأمل،‮ ‬أو لمن بذل جهداً‮ ‬وكان العائد زهيداً،‮ هذا المثل لاشك سيتغير ليساير الأحداث فيصبح‮ ‬"عاد بخفي‮ ‬منتظر".

ويكفي لتوضيح ذلك، الإحالة على بعض الصور السلوكية المستقاة من ردود أفعال يومية وعفوية مرتبطة بتدبير شؤون حياتية لا تنتمي إلى "قضايا وجودية كبرى" لا تستدعي استحضار مبادئ من الدين أو الثقافة لتكشف قابلية الإنسان العربي المسبقة في تكييف الحقائق وفق ما تقتضيه ميولاته الذاتية والجمعية للرؤى والحقائق والأحداث ودلالاتها، والتي تمنع العين من أن ترى مضمون كل
معطى حقيقي لتعوضه بأحكام مسبقة تطمئن لها النفس المنهزمة.

فمثل ما قام به الزيدي‮ ‬حادثة عادية عند‮ ‬كل أمم الأرض التي تؤمن بقدر ومقدارها،‮ ‬لكنه بالنسبة لعرب اليوم فهو تعبير عن كرامة مفقودة،‮ ‬ومقدمة لنضالية تعيد الكرامة والعزة والعدل لقوم فقدوا أنفسهم مذ كانوا. ‬ومن كان في‮ ‬مثل هذا الوضع،‮ ‬فكل ما‮ ‬يحدث حوله، هو بلاشك إشارة لشيء ما، ودليل على كرامة ما‮.. ‬ وإن اختلط بالأسطورة الكفيلة وحدها بحل ألغاز الأمة العربية.

لذا نجدهم يجعلون من ضربة الحذاء، بداية إنتفاضة للتحرر من الإستدمار والإستحمار الأمريكي، رغم أنه ليس سلاحا نوويا، وقد يصل به الحال إلى النسيان، كما نسي العالم خروشوف وحادثة حذائه.

هناك حقيقة واحدة –وغيرها غثاء- على أمتنا العربية التشبت بها وهي أن عزّتها في دينها وقيمها وحضارتها ولا يمكن أبدا أن تتحرر وتتطور بفضل حذاء ولا حتى ملايين الأحذية، وأن مثل تلك الأحداث ستبقى مجرد نكت وحكايات ترويها الأجيال، كتلك التي ((فكلما ذكرت الكرام العربية اقترنت بالحذاء رغم ما للحذاء من دلالات قدحية في ثقافتنا)). اقترنت قبل اليوم بنطحة اللاعب الفرنسي زين الدين زيدان لخصمه اللاعب الإيطالي ماركو ماتيرازي والتي أحدثت ضجة عالمية، واعتبرتها الأمة المهزومة من الكرامات، وراحت تبحث عن المبررات والمسوغات السياسية والعقدية والدينية لتحويل نطحة زيدانية عادية يمكن أن تحدث بين لاعبي الكرة في كل أنحاء العالم، إلى حدث سياسي عربي وربما إسلامي يختزل بين ثناياه حقيقة الصراع القائم بين الحضارات، حتى أن هناك من زعم أن اللاعب الإيطالي ماتيرازي قد وصف زيدان بالإرهابي، وهو الذي دفع هذا "المسلم الغيور على دينه وأمته" إلى نطحه وإعادة كرامة هذه الأمة التي توصف بالإرهاب، ليس من الغزاة فقط بل حتى من حكامها !! ونجد أيضا من زعم أن ماتيرازي شتم العرب من خلال زيدان، ولهذا نطحه ثأرا لهذه الأمة ا وآخرون ذهبوا إلى حد التأكيد على أن الإيطالي أهان الدين الحنيف وربما الرسول الأكرم (ص)، فغيرة الفرنسي زيدان -الذي ربما لم يركع لربه يوما- دفعته إلى ما قام به... وبينهم من أكّد على أن شقيقة زيدان شتمت بألفاظ قبيحة، وبغيرة عربية على الشرف جاءت نطحة زيزو الشهيرة المهم أنها تبريرات لتهليلات هستيرية للمنقذ المنتظر، والمخلص من الهزائم المتوالية التي تعيشها الأمة برغبتها..

ولم تمر قضية فوز أوباما على بوش هي الأخرى دون أن تتناسل حولها التأويلات والتفسيرات والتقييمات المزاجية الأهوائية المتلاعبة بالألفاظ للخروج عن مضامينها الواضحة لحرق وتلبيس الحقائق والمراحل. واثبات أن فوز أوباما ما هو إلا علامة على قرب ظهور المهدي المنتظَر، وأن سيِّد البيت الأبيض الجديد هو، بحسب الحديث المنسوب إلى الإمام علي، "الرجل الأسود طويل القامة الذي سيحكم الغرب، ويقود أقوى جيش على الأرض قبل ظهور المهدي". أمَّا المرجع الذي ورد فيه هذا الحديث فهو كتاب "بحار الأنوار (أي بحار الظلمات)"، الذي ألَّفه محمد باقر المجلسي، في العهد الصفوي، في القرن السابع عشر. وأن اسم (باراك حسين أوباما) الذي أخضع لفحص مجهري شيعي لإثَباْت أنَّ "مباركة الحسين" هي المعنى الحقيقي لـ "باراك حسين"، وأنَّ "أوباما"، في الفارسية، يعني "إنَّه معنا". وبعد طول تفكير وتأمُّل في نتائج هذا الفحص المجهري توصَّلوا إلى أنَّ الحسين بن علي يبارك (ويهنىء) أوباما الذي إنَّما جاء وفاز ليقف مع الشيعة (في إيران النووية.

لقد أصبح الحذاء جزءاً‮ ‬لا‮ ‬يتجزأ عن التعبير عن الموقف والتعبير عن السياسة والتعبير عن الذات وعصابها الجماعي،‮ ‬وهو عصاب طبيعي‮ ‬في‮ ‬شعوب لا تملك فعلها وتظل رهناً‮ ‬لردات الفعل‮.‬ فكما صفق الانسان العربي‮ ‬البسيط لحذاء الزيدي‮ وقبله ‬صفق لحذاء ‬أبو تحسين‮ " ‬عضو الحزب الشيوعي‮ ‬العراقي‮ ‬وهو‮ ‬يضرب بحذائه صورة صدام". ها هو الإنسان المغربي المثقف وغير المثقف يصفق لنفس الحذاء في يد معطلي الشعلة وهم يرشقون به البرلمان في هيستيريا انفعالية اجتاحت معظمنا وغالبية النخبة السياسية والثقافية ليفضح ’’عقلية’’ الإحباط والعجز. فما تلك الأشعار والأغنيات المحتفية بانتصار ’’الحذاء’’ إلا تعبر عن خلل واضح في التفكير العربي الذي تخلى منذ زمن طويل عن المنطق العملي والفاعل في إدارة صراعاته وأزماته واكتفى بالشعارات الرنانة التي لا يستطيع تحويلها إلى سياسات وأحداث عملية ناجحة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى